الشاعر والفنان التشكيلي المغربي عزيز أزغاي: المراوحة الرحيمة بين الكلمة والرسم أشبهه بسرير بوسادتين

الجسرة الثقافية الالكترونية
*الطاهر الطوسل
المصدر / القدس العربي
عزيز أزغاي شاعر وفنان تشكيلي مغربي، من مواليد سنة 1965 في مدينة الدار البيضاء. حاصل على شهادة الدكتوراه في النقد الفني. يعمل أستاذا للتعليم العالي. صدرت له الدواوين الشعرية التالية: «لا أحد في النافذة») 1998)، «كؤوس لا تشبه الهندسة» (2002) «رصاص الموناليزا «يليه «أكبر من قميص» (2009)، «الذين لا تحبهم» (2010). «أسرى على قماش» (2015). أقام عدة معارض فنية داخل المغرب وخارجه.
التقته «القدس العربي»، فكان معه الحوار التالي:
■ عُرفتَ شاعراً قبل أن تُعرف فنانا تشكيليا، ترى ما الذي قادك إلى مداعبة الألوان؟ ألم تسعفك العبارة، فأسعفتك الصباغة؟
□ علاقتي بالألوان علاقة قديمة جدا، بل تكاد تكون أصل هذا الافتتان بمغامرة الإبداع. بدأت رساما ثم ملونا، قبل أن تضطرني ظروف مادية صرفة إلى اختيار أيسر الوسائط للتعبير عن ذائقتي الجمالية والإبداعية. هذا شأن كل أبناء الفقراء من أمثالي، ممن يجدون أنفسهم، في لحظة معينة من مسار حياتهم، مجبرين على اختيارات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تفي بالغرض.
كان ذلك في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وأنا ما أزال تلميذا في الصف الإعدادي، وقد كنت حينها أزاوج بين ما كنت أعتبره «شعرا» وبين الرسم، حين وجدت نفسي عاجزا، بسبب ضيق ذات اليد، على توفير المعدات اللازمة لتلبية شغف التصوير. في المقابل، لم تكن كتابة الشعر تتطلب مني سوى ورقة وقلم ورصيد لغوي محترم، مع كثير من الخيال. هكذا، إذن، «قررت» مضطرا إدخال عفريت التصوير إلى فانوسه الأثير، في انتظار ما قد تجود به حياتي المقبلة، بدون أن أقطع نهائيا مع الأجواء المحيطة بهذه الممارسة الجمالية النبيلة، سواء تعلق الأمر بحضور المعارض الفنية أو تتبع الندوات ذات الصلة، أو ما شابه. وقد استمر شريط الترقب هذا إلى حدود مطلع الألفية الثالثة، بعدما أصبحت «مواطنا صالحا» يتقاضى أجرة قارة، لأقوم، بدعم وتشجيع من بعض الأصدقاء الخُـلّص، بإخراج عفريتي من قمقمه، ثم أرتمي مجددا في عالم الألوان.
■ هل الرسم عندك توأم الشعر؟
□ بكل تأكيد، يكاد الأمر أن يكون متداخلا بل سياميا. الكتابة والتصوير صنوان يكمل أحدهما الآخر ويسنده، بل يقوي أثره. أتذكر هنا كلمة الشيخ محمد عبده الشهيرة، التي جاءت في سياق فتواه التي كان موضوعها «الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها»، حين اعتبر «الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى». إنه تعبير يؤشر إلى ذلك التداخل والتكامل والانسجام الذي يحققانه في سبيل الوصول إلى المعنى، أو ابتكار معان جديدة غير مطروقة. وفي حالتي، أتمثل هذا الأمر في مستوى ثان مغاير بعض الشيء. الأكيد أن أي لغة تحوز مكانتها وقوتها من خصوصياتها؛ سواء ارتبطت هذه الخصوصية بتراكيبها المخصوصة، أو بالمعاني التي تقوم بابتكارها، أو بقدرتها – وهنا مربط الفرس – على تمثل عوالمنا الغامضة ومشاعرنا العارية وأحاسيسنا الداعرة، التي نحاول أن نضمنها إياها. بهذا المعنى، قد تصبح قمصان هذه اللغة، في أحايين كثيرة، أضيق من طموحاتنا ومن أفكارنا، بل ومن تمردنا. أقول هذا وأنا أفكر في اللغة حين تكون مقدسة، كما هو شأن اللغة العربية، لغة القرآن. في هذه الحالة، قد يسعفنا التصوير، وهو لغة كونية، في شقه التجريدي، على تضمينه ما لا يحصى من «الآثام» التي ترفضها دينية لغتي العربية، أو بالأحرى، يرفضها حراس معبدها الأشاوس. من هنا أهمية هذه المراوحة الرحيمة بين الكلمة المكتوبة والكلمة المصورة، وهو ما أشبهه بـ»سرير بوسادتين»، يمنح النائم إمكانية الإحساس باتساع مجال التحرك وتغيير الوضعيات، كيما يستدعي أحلامه بدون ضيق أو عسر أو جهد مضاعف.
المطلوب، والحالة هاته، البحث عن الإمكانات المتاحة وغير المتاحة، في سبيل إبداع ما نرضى عليه أولا، قبل أن يعجب الآخرين. نقول في دارجتنا المغربية « تَبْدال المراقد راحة».
لستُ من هواة «قتل الأب»
■ طيب، ما هي شجرة نسبك التشكيلية؟ بمعنى آخر، من هم آباؤك الكبار في هذا المجال؟
□ أنا ابن هذا العالم. جئتُ إلى الدنيا نتيجة لحظة لذة غامرة وطبيعية جرت، في إحدى ليالي القرن الماضي، بين والديّ البيولوجيين، قبل أن تتلقفني الحياة. بين الشارع والمدرسة والجامعة والسفر، نمت لي أجنحة في الخفاء، قبل أن أجرب حظي في الطيران. كل مرحلة من مراحل حياتي كان لي فيها أساتذة وآباء طيبون ورائعون، بل وقساة أحيانا. كل واحد من هؤلاء كان له نصيب ما في هذا الإنتاج الذي صرت أحمل علامته. كما أنني، قبل ذلك وأثناءه، نتاج سلسلة من التجارب المريرة والمعاناة القاسية والخيانات الجارحة، ولا أنكر أنني نلت نصيبي من السعادة، ولو في حدودها الدنيا.
وفي كل ذلك، مطلوب منا أن نتحلى بروح الإنصات وأن نحوز خصال التواضع وننحاز إلى رحمة التلمذة. ولا بأس، بعدما يكون قد اشتد عودنا المعرفي، أن نقطع – من حين لآخر – حبل السرة الذي يصلنا بهذا الأب أو ذاك، حين نكون قد نلنا بعضا من روحه ومباركته. بهذا الشكل فقط، نصنع تاريخنا البسيط والخاص، ومن ثم نقوم بتطوير أنفسنا، بما يلزم من طموح ومن سعي نحو التجاوز والاستكشاف، بما هما تمثل لروح المغامرة. لذلك، لست من هواة قتل الأب، كيفما كانت مشاعره نحوي. القتل، كما الكراهية، حتى في بعدهما الرمزي، ليس لهما مكان في جينات المبدعين الحقيقيين. أنا نتاج كل عظماء هذا العالم، بدءا من آدم إلى آخر شاعر أو فنان قال «باسم الله» في مدونة إبداعات العالم. أما إذا أردت التخصيص، أي تعيين أسماء من أذهلتني صباغتهم وأثرت في لمستي التصويرية، فهناك أسماء كثيرة لا يسعها حيز هذا الحوار. لكن لا بأس، سأذكر ـ تجاوزا – ثلاثة أسماء بالدرجة الأولى. يتعلق الأمر بالفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، هذا العبقري الذي تعكس أعماله فهما متقدما لطموح التحديث، وانشغالا ذكيا بسؤال العابر والهش ومعنى الأثر. وفي السياق نفسه، وهذه المرة بإيقاع مختلف، يحضر اسم المغربي الراحل محمد القاسمي، الفنان المثقف، الذي لامست أعماله أقسى وأقصى درجات تشظي الكائن ومعاناته في عالم ممسوخ. ثم أخيرا، وليس آخرا، الفنان الإسباني الكبير الراحل (هو الآخر) أنطوني طابييس، أحد آلهة الفن الحديث خلال النصف الثاني من القرن العشرين. مع هؤلاء الثلاثة تحديدا، أعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الفنان، وهو يضع نفسه رهن إشارة ذلك النوع من الأسئلة التي تستثمر في الغامض والهش والمؤلم، دونما إفراط في أدلجة هذا المسعى، وبدون إسفاف في دغدغة مشاعر الجمهور.
■ اعتبرك أحد النقاد من بين الشعراء الذين يرغبون في هدم جسور التواصل مع القارئ، ويقترحون في المقابل على القارئ أن يندمج معهم في أجواء المكابدة الشعرية وهم يسلكون تضاريس النص الوعرة. هل معنى هذا أنك تبحث عن قارئ نموذجي لقصائدك، وما مواصفات هذا القارئ؟
□ شخصياً، أعتبر الكتابة قدرا شخصيا، وهو أمر لا يتناقض بتاتا مع كونها، من جهة ثانية، اختيارا واعيا وناضجا، يبدأ بسيطا قبل أن تصبح أسئلته معقدة ومتشابكة. وقبل هذا وذاك، هي متعة نتوسل إليها من أجل تيسير سبل فهمنا للعالم، واستساغة فظاعاته. استحضارا لعنصر المتعة هذا، عادة ما يجد الشاعر نفسه، كلما نحت جملة مدهشة أو انتهى من كتابة نص «هائل»، منساقا وراء البحث عن قارئ يشاركه هذه المتعة، وليس مكابداته، هذا الأمر غير ممكن ولا يستقيم. إنها (المتعة) ثروة الشاعر المشاعة التي لا يملك سواها. هذا الإحساس بتصور تفاعل الآخرين مع ما كتب، هو ما يدفعه، في أحيان كثيرة، إلى الرقص، على طريقة «زوربا» طيب الذكر. أما مسألة القارئ النموذجي، فهي ـ في تقديري ـ مسألة مستبعدة. أفضل، بالأحرى، الحديث عن شريك في بناء معنى جديد للنص، أو مؤول ذكي ومتواطئ، تكون له القدرة على إعطاء النص حيوات أخرى، عوض الاكتفاء بما يقدم له. هذا الأمر يروق لي كثيرا في التشكيل. فلا أتذكر أنني قدمت شروحات لما أقوم بتصويره رغم طابعة التجريدي، بقدر ما أقوم بالحديث عن بعض العموميات التي تؤطر موضوعات معارضي على سبيل التواصل الإعلامي ليس إلا. بل أكثر من ذلك، لم يسبق لي أن عنونت لوحات معارضي، حيث أترك للزائر فرصة قراءة العمل، وفق مستوى استيعابه ومستواه المعرفي وذائقته الفنية والجمالية، وهذا الأمر، غالبا ما يفتح عيني على مناطق ظل لم أكن قد فكرت فيها مطلقا.
■ أدليتَ بدلوك أيضا في مجال التأليف والبحث، من خلال إصدار كتاب بعنوان: «الثقافة والصناعات الثقافية في المغرب»، ما الأثر المتوخى تحقيقه منه؟
□ وستصدر لي قريباً دراسة تحمل عنوان «التشكيل وخطاباته: قراءة في الخطاب النقدي حول الفن التشكيلي في المغرب»، وقد كانت موضوع أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه. أعتبر الأمر، بكل بساطة، فسحة أخرى أحاول من خلالها الاقتراب أكثر من عدد من الموضوعات الطريفة، ذات الصلة بالمشهد الثقافي المغربي، مما اعتبره وسيلة أسند بها ممارستي الشعرية وأدعم بها معرفتي التصويرية والجمالية.
وارتباطاً بالحقل التشكيلي مثلا، وهي ممارسة تبقى حديثة تاريخيا في حالة المغرب، مقارنة مع تجارب عربية أخرى سباقة مثل العراق، سوريا، مصر، السودان، تونس ثم الجزائر، فأغلب الدراسات التي أنجزت – على قلتها – في الموضوع كُتبت باللغة الفرنسية، وهو أمر يعطي الانطباع بكون اللغة العربية غير قادرة على تجريب حظها في مجاهل هذه المعرفة البصرية الكونية. ناهيك عن كون الكتابات في هذا الحقل تبقى قليلة بل نادرة، مما يحتم تضافر الجهود من أجل اكتشاف أو إعادة اكتشاف هذه القارة الجمالية الهائلة، أمام هذا الاكتساح الظلامي الذي بات يهدد وجودنا في الوقت الراهن.