العرض المغربي «خريف» لأسماء هوري: خطبة بصرية لاذعة ضد العالم

راشد عيسى: تستمر تظاهرة «أيام الشارقة المسرحية» في دورتها السابعة والعشرين بالانعقاد حتى أواخر الشهر الجاري. دورة تحتضن ثلاثة عشر عرضاً مسرحياً، كلها عروض إماراتية، عدا عرض الافتتاح المغربي «خريف» إخراج أسماء هوري، الذي استضيف كنوع من التكريم، باعتباره فائزاً بجائزة الشيخ سلطان القاسمي لأفضل عمل مسرحي عربي في النسخة التاسعة لمهرجان المسرح العربي، الذي نظمته «الهيئة العربية للمسرح» في وهران في الجزائر في كانون الثاني/يناير 2017.
كما تضم الـ»أيام» مجموعة من الندوات تحت عناوين من قبيل «المسرح والقيم»، «مؤرخو المسرح العربي.. أي دور وأي تأثير؟»، و»هل تطورت مناهج معاهد وكليات المسرح العربية؟»، «التمثيل المسرحي.. صورة الذات وقناع الشخصية»، «مسرحة قصص الحب بين الأمس واليوم»، «رؤية المخرج بين الثابت والمتحول»، «إشكاليات البروفة المسرحية وإشراقاتها»، بالإضافة إلى ندوات تكريمية شملت الممثل الكويتي إبراهيم الصلال والفنان الإماراتي حميد سمبيج.
لعبة المرايا
يقوم العرض المغربي «خريف» على قصة واقعية لامرأة قضت بمرض السرطان، هي الكاتبة فاطمة هوري، وما المخرجة سوى شقيقتها أسماء هوري. لكن تلك القربى لن تترك أي أثر للتفجّع، بل ستقدم المخرجة هوري عرضاً في غاية الأناقة، لن يخص الكاتبة الراحلة وحدها، بل سيلامس كل المعذبات، وربما المعذبين، المنكوبين بأجسادهم، ذلك أن المخرجة، كما روت في حديث خاص، لم تكتف برواية اختها المكتوبة، ولا بكونها عايشت تلك التجربة عن قرب، بل هي ذهبت لمقابلة عدد من النساء المصابات، لتعاين فظاعة أن يفقد المرء جسده، شيئاً فشيئاً، أو دفعة واحدة.
على الخشبة سنرى بشكل أساسسي ممثلتين اثنتين، لكنهما ليستا سوى تجسيد لامرأة واحدة، الأولى (سليمة مومني) هي التي تعبّر بالجسد فحسب، فيما الثانية (فريدة بوعزيزي) هي الصوت، الكلام، بوح الشخصية، ولو أنه جاء قليلاً، متقطعاً، أقرب إلى غمغمات منه إلى نص متكامل. العضو المصاب بالسرطان هنا هو ثدي المرأة، الذي ترى فيه رمز كل أنوثتها. الأنثى التي فيها هي من يتآكل ويموت. تعبّر الممثلة عن ذلك التآكل والقتل البطيء بقصقصة فستاينها. أرض خشبة المسرح ملأى سلفاً بنتف ملونة من فساتينها، ولذلك اقتصر الديكور على خزانة امرأة، بالإضافة إلى الكرسي الذي تستخدمه المرأة أمام مرآة الماكياج. لكن معركة المرأة لا تتوقف عند تلك التي تخوضها مع المرض الفتّاك، إنها تخوض صراعاً موازياً ضد الإهمال، الذي يأتي هنا أولاً من الزوج، الرجل. ربما كان بإمكانها الصمود أكثر لو أن الآخرين منحوها جرعة حب أكبر. تستحضر المرأة رجلها عبر عنصرين، الأول ربطة عنق تضعها الممثلة في عنقها، ثم تشدها بقوة، لا ندري إن كانت تعبّر عن سخطها على الرجل، فتحاول قتله في ذاتها، أم أنها ترى فيها (في الربطة حول العنق) فرصة للسخط على الذات للتخلص من الحياة. ويحضر الرجل مرة أخرى عبر سترة ترتديها الممثلة، ثم تطرح السترة أرضاً وتداس وتركل بالأقدام. هنا يمكن ملاحظة أن العرض يذهب أكثر نحو ثيمة تقليدية مكرورة، هي السخط على الرجل، بما يشبه «خطبة لاذعة ضد رجل جالس»، مسرحية غابرييل غارسيا ماركيز الوحيدة، فالمرأة هنا صراعها ضد المرض، لكن المخرجة عندما أرادت أن تظهر إهمال المجتمع لها فلم تجد وسيلة إلى ذلك سوى الرجل. ربما لو بقي الصراع ضد المرض وتآكل الجسد وقهره لكان العمل أجدى بكثير، أرقى، وأكثر جدّة.
يقترب العرض، من حيث حكايته وموضوعه ليكون نوعاً من مونودراما، لكنها موزعة على لسان، جسد، شخصيتين أساسيتين، مبرر وجودهما أولاً أنهما صوتان لامرأة واحدة، لكنهما تصلحان أيضاً لتكونا نسختين مكررتين لامرأتين تعيشان العذاب نفسه، بل إن المسرح سيمتلئ تالياً بممثلات أخريات، بحيث يصل العدد على الخشبة إلى سبعة. سبع نساء يرتدين الأحمر نفسه، ويعشن المصيبة نفسها. إنهن من غير شك لسن سوى نساء معذبات يعشن المصيبة المزدوجة نفسها. تساعد مرايا خزانة الثياب هنا في استحضار النساء السبع، بفساتينهن الحمر، وبتعابير الألم ذاتها.
ختام العرض سيكون حين تدخل النساء ليختفين في خزانة الثياب، هذه التي تشغل حضوراً بارزاً من «جسد» العرض، تجثم في منتصف الخشبة وتكاد تكون مركز الحركة، حيث الأشياء والشخصيات تخرج منها وتعود إليها. إنها أقرب إلى علبة الألعاب التي تخرج منها الدمى وتعود لتنام هناك، كما أنها أيضاً تأخذ شكل التابوت، الذي يجد مبرر وجوده في خاتمة امرأة أصيبت بذلك المرض، وقضت به. حين تدخل آخر امرأة بينهن الخزانة ستلقي بسترة الرجل على كرسي الزينة، فيبدو وحيداً، أقرب إلى شبح، أو إلى شكل حيوان.
يظلم العرض نفسه حين يختصر موضوعه بأنه خطاب امرأة، أو نساء ضد الرجل، كما يظهر في الختام، وفي أكثر من موضع. واضح أن هناك إغراء في أن من السهل اختصار الرجل إلى علامات محددة، كالسترة وربطة العنق، فيما تريد المخرجة عبر إدانة الرجل أن تدين العالم غير المحب والمهمل.
مع ذلك يظل «خريف» عرضاً جميلاً وباهراً على المستوى البصري، كما يحسب له أيضاً حرصه على أن يظل حياً مع موسيقى العود الحية التي ترافقه كل يوم (عزف رشيد البرومي).

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى