العقل المستعار والنهج التجريبي في تحليل أزمة الثقافة العربية

رامي أبو شهاب

شهد القرن العشرين عدداً من التجارب النقدية التي سعت جاهدة لتحليل أزمة الثقافة العربية في تكوينها الحضاري، انطلاقا من المردود السلبي للأمة العربية بُعيد مرحلة جلاء الاستعمار، وتشكل الأنظمة الوطنية التي سعت إلى تأسيس دول حديثة أو عصرية، ولكن سرعان ما اتضح أن ثمة خللاً بنيويا يحول دون المضي في هذه المشاريع لأسباب جمة، فكان لا بد من التدخل النقدي للوقوف على مكامن الخلل، فظهرت مشاريع نقدية اتسمت بتوجهها لنقد العقل العربي، كما الفهم الإسلامي للتحولات الحضارية من حيث مدى قدرتها على إحداث تحول في الوعي الذاتي للأمة العربية المعاصرة، في حين أن هناك من اتخذ توجهات حتمية بالقطيعة من المنظورات المعاصرة، مفضلاً التواري خلف تشكيلات ماضوية، وبين هذا الجدل، وذاك، نشأت ممارسات تطال نقد العقل، وتبحث في المفاهيم والتصورات، أو المرجعيات التي حالت دون تفعيل آلية معينة يمكن أن تؤدي إلى نماذج من الحياة الطبيعية للمواطن العربي، الذي ما زال قابعاً في حياة مشوهة، تعوزها أبسط معاني الحرية والكرامة، علاوة على الارتباك والقلق في تعريف الذات في ظل الانفصال بين التكوين العميق الناشئ عن خطابات صاغتها مؤسسات الدولة والتراث، والتاريخ والدين، وبين ما يمور في العالم الحديث من نماذج تخالف ما تم حشوه في الرؤوس، فانبثقت أسئلة على شكل تجارب ومشاريع نقدية، ومنها مقاربات محمد عابد الجابري ومحمد آركون ومالك بن نبي، علاوة على تيارات أخرى حاولت توصيف النزعات التوتاليتارية في العقل العربي، التي شكلت أحد أهم نماذج التشظي على مستوى تعريف الذات العقلاني. وإذا كان ثمة نتائج في هـذه الدراسات فإنها في معظمها تحيل إلى الفهم الخاطئ والمرتبك لبعض الأسس الحضارية التي تتميز بسيطرة التأويل التاريخي.
ومن أبرز مكامن الخلل في النموذج العقلي العربي على مستوى الحضارة وتمثيلياتها، ما نجده في الفنون والآداب، من حيث هيمنة ما يمكن أن نطلق عليه العقل المستعار، الذي بات نسقاً في الممارسة العقلية العربية، ولكن على مستوى الفعل فقط، في حين أن مستوى الخطاب هو في مجال آخر، حيث مازالت العقلية العربية تنهل من تأويلها التاريخي بوصفه مجالاً مميزاً عن الآخر، يحتفي بركائز وأسس، لا يمكن أن تتبدل خشية أن تؤدي إلى تشوه الذات النقية، كما يجب ألا يتحول عنها. في حين أن مظاهر الممارسة العربية في تمثيلها الظاهر تأخذ بظواهر الحضارة الحتمية الحضور بتكوينها التقني، أو العلمي، مع محاولة الاشتباك في صوت العالم الجديد على مستوى ترديد عبارات الحرية، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة، وحقوق الطفل، وسائر الخطابات التي تنشغل المؤسسة الرسمية ودوائر المجتمع المحلي بالترويج لها، في حين أن الإيمان في هذه المفردات وترجمتها إلى واقع عملي، لم يتجاوز أن يكون خطابا بلا أنياب، فاستعارة التكوين الظاهري للخطاب أشبه بالقناع، حسب باختين الذي يرى فيه ارتباطاً بمرحلة التغيير وإعادة التجسيد، وبالنسبية المرحة أيضاً، كما للنفي البهيج للانتظام والتشابه كما يقول، ويردف قائلاً : القناع رمز لكل ما هو غير حقيقي وزائف، ويقوض الفكرة القائلة بأن الوجود يتطابق مع ذاته.
لقد تعلم العقل العربي بعد جلاء الاستعمار شيئاً واحداً فقط، ألا وهو الانفصال عن ذاته العقلي المعني بإنتاج التفكير، فالعقل يوضع غالباً في حالة سكون، دون أن يتم التخلي عن جوهره التاريخي، أي ليس ثمة تغير في التكوين العقلي، ولكن فقط هنالك القيم المعاصرة لعالم خارجي يعيد إنتاج ذاته، في حين العقل في حالة تعطل.
وهكذا فرض على العقل العربي ممارسة تقنية الاستعارة، وهي وسيلة أتاحت للثقافة العربية أن تكون ذات نسق استعاري سكوني لا دينامي. المتأمل في آلية الفعل على المستوى العربي سيجد آلية استعارة الخطابات المنجزة، سواء أكانت تاريخية أو معاصرة، من أجلأن نعيد تكييف ذواتنا على ضوئها، ولكن عبر المجال الخارجي، فنحن ننشئ مؤسسات تعليمية، ومؤسسات ثقافية، وجمعيات لحقوق الإنسان والطفل، وننادي بحرية المرأة، وبالعدالة، كما أن ثمة مؤسسات ديمقراطية عاملة، ولكن كافة تلك الممارسات ما هي إلا تكوين استعاري يكمن في القشرة الخارجية للعقل العربي الذي ما زال يحتفظ بتكوينه القبلي، والمتحفظ، والإقصائي في بعض الأحيان، وهنا نتصل بالممارسة النقدية التي لا تفلح، كوننا ما زلنا نرفض التخلي عن قيم التقليدية في ذواتنا.
وإذا ما نقلنا مفهوم العقل المستعار إلى الممارسة الأدبية، فسنجد أن نموذج الخطابية في الأدب والفنون والسينما والمسرح لم يغادر النسق الاستعاري القائم على عقل سكوني مضمر، أي ليس ثمة تحول في تكريس مواجهة الذات إلا بطرق ملتوية، أو خجولة، في حين أن النماذج التي تدعي خطابا عصريا ليست سوى نتاج استعاري، فنحن نستعير تقييمنا لتشوهات الذات في ضوء العقل الآخر، في حين أن السينما والأدب والفنون مرتهنة للبنية السطحية لثقافات أخرى، سواء أكانت شرقية أو غربية، أو حتى لاتينية، وغيرها، إننا نعاني من ندرة الأصالة والتجريب في تحليل أزماتنا، وهذا ينسحب على المستوى السياسي حيث نستعير الآخرين لينوبوا عنا في خوض الصراعات، كما يتجلى هذا الوضع في سوريا، حيث أصبحت سوريا مجالاً مستعارا للصراع بين قوى دولية وإقليمية، أو مكاناً لتجربة السلاح واستهلاكه على حساب الإنسان العربي.
تنشغل الخطابات الثقافية في نقل النماذج الشكلية المتميزة لدى الآخر ليتم تحميلها هموم عالم مختلف، لم يتمكن بعد من تطوير آليات التعبير عن نفسه، كونه لم يتخل عن عقله السكوني، ولا نعني بالعقل السكوني تلك القيم والمبادئ والهوية بوصفها أسساً ثقافية، إنما نعني آلية التفكير، فالعقل ليس جوهرا نهائيا بمقدار ما هو أداة للتطوير والتكيف والابتكار، ولكن لا بد من التنبه إلى أن العقل عينه ربما يمارس خداعا، بحيث يوهم الذات بأنها تعيش شكل التقدم، في حين أنها ما زالت كامنة في تقليديتها، وبذلك هي لم تنجز تحولا حقيقيا، فالتعليم واقع، ولكن لا نتاج تعليميا حقيقي.
والديمقراطية تتوفر في مؤسسات، ولكن لا حرية، والسينما تحضر، ولكن بلا نتائج على الوعي، كما أن الأدب يملأ حياتنا ولكننا لا نقرأ الأدب، ولا ننظر له بوصفه حقيقياً، أو بوصفه أداة للتغيير، في حين أن العدالة رهينة القرار السياسي، بينما رخاء المواطن تحول شعارا لا حقيقة. نحن نعيش في عالم استعاري بالكلية، وهنا نتصل بمعنى الإرادة في القدرة على مغادرة العقل السكوني الباطني نحو تفعيل العقل النقدي، وهنا نتحول إلى تخصيص جزء للفكرة النقدية التي تبدو هي الأخرى رهينة النموذج الاستعاري، بحيث تحول النقد في عالمنا إلى الحديث عن الخلل، ولكن ليس ثمة آلية لتعديل الخلل، أو محاسبة الذات عن مسؤوليتها، فالتجسيد الحقيقي لفك مغاليق العقل السكوني تتحقق بتخصيص نهج جديد يتجاوز لعنة الانتداب، «مراهقة الدولة» التي أورثها الاستعمار للشعوب المستعمرة التي اختلقت هذا التكوين، ولكنها ما زلت قابعة بين الرغبة في الآخر، والخوف عَلى الذات، ومن هنا نشأ العقل الاستعاري، حيث بات بالإمكان الاعتماد عليه في تصريف وجودنا، ومواكبة مظاهر مستجدات التطور الحتمي للتاريخ دون التضحية بالمكتسبات التاريخية، ودون التخلص من الإرث التاريخي، في حين استمرأ العقل العربي الخوف من التفكير والتجربة، فالعقل العربي لا يرغب بتطبيق منهجية تجريبية، فهو يتأمل دوما النموذج المثالي، الذي لا يمكن العثور عليه إلا في عقل موروث سكوني تاريخي، أو عقل آخر يحتفي بحيويته، ومنجزاته الخاصة، وكلا النهجين يعنيان ممارسة استعارية، في حين أن العقل أي الأداة في حالة ارتهان ومعطل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى