الفنان ستار لقمان في تجربة فنية أخرى… صياغة تشكيلية لرؤيا السياب الشعرية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*ماجد صالح السامرائي
(يُعّد الفنان ستار لقمان من بين الفنانين العراقيين الذين ركزوا توجههم في الرسم بما يُعرف بـ»البغداديات» التي كانت الريادة فيها للفنان الخالد جواد سليم. إلا أنه اتجه مؤخراً إلى استيحاء رؤيا تشكيلية من العالم الشعري للشاعر بدر شاكر السياب، ويواصل تجربته هذه باستيحاء عوالم شعراء آخرين من بينهم: لميعة عباس عمارة، ومظفر النوّاب.
هنا قراءة أولية لتجربته مع قصائد للسياب…).
كما استدرجنا الشاعر بدر شاكر السياب في رحلة «العودة إلى جيكور»، واضعاً إيانا في مواجهة «أسطورة جديدة»، ولكنها، في هذه المرة، من الواقع/ وعلى أرض الواقع وليست من الموروث الميثولوجي.. يستدرجنا «فنان البغداديات» ستار لقمان إلى المكان ذاته، جاعلاً من رسومه طقس حضور آخر يشاطر فيه الشاعر على ما في قصيدته من رؤيا مكانية يرتفع بها الاثنان، الشعر والرسام، إلى مستوى الزمان…
فكما تخللتْ ظواهر المكان «نص السياب الشعري»، نجد الفنان ستار لقمان يتخلل بريشته، خطاً ولوناً، ظواهر المكان ذاته، منفتحاً بما رسم على عالم الشاعر انفتاح إبداع بالشكل واللون، متحسساً ومضات المعاني التي جاء بها الشاعر، أو انتظمت في فكره وتفكيره. وكما ظهرت القصيدة، هنا، وتكاملت كأنها منسوجة من «خيوط عجائبية»، نجد الفنان يستل الخيوط ذاتها ليشكل منها في عمله الفني ما أراد الشاعر، وقصد، أن يشكله في عمله الشعري. ويلتقي الرسام ُ الشاعرَ على نحو آخر: فقد قرأ الفنان ستار لقمان قصائد الشاعر السياب بحسٍّ فنيٍّ عالٍ، وتلقى منها الأثر (العاطفة. الدهشة. الإدراك الذاتي للرؤيا الشعرية)، فصاغ رسومه عنها/ ومن خلالها صياغة واضحة في عمل أو أكثر، واعتمد الرمز، والترميز، في أعمال أخرى.. إلا أنه في الحالتين حرص على تأكيد البُعد الجمالي في رسومه هذه ما جعل منها أعمالاً فنية قائمة بذاتها. وكما كتب السياب قصائده بثقافة شعرية متينة التكوين (من لغة، ورؤيا، وأسلوب تعبير، وبناء الجملة الشعرية)، وضع الفنان، هنا، رسومه بثقافة فنية واضحة الأبعاد (الخط، واللون، والتكوين الدال على موضوع، ورمزية هذا الموضوع)، معتمداً الاحساس الشخصي بما قرأ، فرسم.
وكما أن للشاعر ذاتيته، التي يتواصل تعبيره عن الحالة/ التجربة من خلالها، فيقيم عمله الشعري على «التحويل»: تحويل «النص الشعري» إلى «شكل فنّي» يبدو به/ ومن خلاله كما لو أنه يتمثَّل «عالماً مرئياً» مكتوباً بصورة من صور الكتابة ـ التجسيد الفني.. فإن للفنان، هو الآخر، ذاتيته (الفنيّة) التي انبنت على تأثيرات ومعطيات فنيّة لها جذورها، وقائمة بأصولها، وأبرز هذه الأصول، أو أكثرها حضوراً «بغدادياته» التي سيستل من «رموزها» ما يجعل منه بُعداً فنياً/ تشكيلياً له زمانيته التي يجد نظيرها في «الرؤيا المكانية» للشاعر. فـ»شناشيل ابنة الجلبي» البَصْريّة لا تختلف في شيء، إن لم تكن صورة أخرى للشناشيل البغدادية التي استأثرت بغير قليل من أعمال الفنان بحكم تأكيده على «الشكل» في عمله الفني.
عنصر آخر مشترك بين قصيدة الشاعر ولوحة الرسام، هو: «التصوير الحكائي» عند الاثنين. فقصيدة السياب غالباً ما تقوم على التصوير الحكائي. إن الحكاية (التي سينفذ الشاعر منها إلى الأسطورة) عنصر قائم في قصيدته. وبالمقابل فإن العمل الفني للفنان، هو الآخر، ذو مبنى حكائي.. فكلاهما ينتمي، منجزاً فنياً، إلى ما لعالم الحكاية من متخيَّل يُصدران عنه.. وكلاهما، على تفاوت الحالة بينهما ومكونات أسلوب التعبير عند كل منهما، يشتركان في البحث الذي يحيل الفن، بمشتركيه: الشعر والرسم، إلى صورة من صور المغامرة الوجودية، أو يمدّهما بمثل هذه الروح. فالعمل هنا، الشعري منه والفني، نتاج ثقافة بَصَريّة واضحة.
وأعيد القول بصيغة أخرى: إن الفنان اعتمد الشعور الشخصي (ذاتاً متلقية) بما قرأ، وأقبل على المقروء (القصيدة) بذاتية الفنان ـ الرسام، مستنداً استناداً واعياً إلى النص بمحموله المضموني.. فإلى جانب اعتماده حسّ الرسام نجده يتفاعل مع حسّ الشاعر، معيداً «بناء» المعنى الشعري في «شكل» تصويري اكتسب أبعاده من خلال تأويله ما قرأ/ تلقى. لذلك لا بدّ من التمييز، هنا، بين «الانعكاس» و»التعبير». إن الرسام، هنا، لا يتلقى «صورة» بتشكيل لغوي فيرسمها بما لها من تفاصيل القول ومحدداته، وإنما نجده يتلقى «رؤيا» نابعة من «فكرة»، أو مكوِّنة، بما لها من تكوين رؤوي، لهذه الفكرة، فيستجيب لها استجابة إبداعية تجعل لعمله دلالته الخاصة.
إن الكلام، هنا، كلام في أصالة العمل الفني بما يعتمد من علاقة بين «الشعر» و»الرسم». إن «قوّة الكلمة» في القصيدة تقابلها «قوة الخط» و»قوّة اللون» في ما قدّم الفنان من «استجابة تشكيلية» لها، ويبدو «المغزى الشعري» حاضراً فيها. إن «حركة القصيدة» هي ما يعتدُّ به الفنان في عمله الفني هذا ـ وإن بقيت لغته فيه «لغة فنية»ـ قد يكون أكثرَ فيها من الحركات المعبرة، والإضافات الرمزية. فالتفكير هنا تفكير فنان يرى «المعاني» بعين الرسام، ويستجيب للإيقاع الشعري استجابة تشكيلية تجعل لعمله خصوصيته، وأهميته.
إن التوزيع الذي اعتمده الفنان لكل من «القصيدة» و»الصورة» على صفحات الكتاب القصد منه، كما قد يكون قَصَد، هو أن «يُكمل» العمل (الرسم) و»يستوفي» ما له من شروط فنية، لا بالنسبة له حسب، بل، وبدرجة أساس، بالنسبة للقارئ/ المتلقي الذي يجد نفسه أمام/ في مواجهة العملين، الشعر والرسم، وكأنه يدعوه إلى أن يجعل من واحدهما مدخلاً لقراءة الآخر، لا من باب البحث عن «المشابهة» أو «التشابه»، وإنما من زاوية التقارب والتواصل بين «الرؤية الشعرية» و»الرؤية الفنية»ـ وإن كان الفنان، هنا، مديناً للشاعر في الهاماته التصويرية. فهو كمن يتحرى في تعبيره الفني تعبير الشاعر الشعري في قصيدته.
من زاوية أخرى للنظر يمكن القول: إن ما يجمع بين الاثنين، الشاعر والرسام، وعمليهما، هو: التجديد رؤية ورؤيا، والبراعة في التعبير عن ذلك. فإذا كان الشاعر قد جدد لغة، وتعبيراً، احتضنا رؤيته العالم، ورؤياه في هذا العالم، موظّفاً الرمز والأسطورة في ما جعل للقصيدة من معمار فني، فإن تجديد الفنان قد انصبّ على بناء ما يمكن أن نُطلق عليه «رؤية تناظرية» تجمع بين «ادراك المعنى» و»تشكيلات المعنى»، فجاءت قراءته محملة بروح الشعر.. إن لم نقل: إن عمله الفني قد صاغ «القصيدة موضوعاً» صياغة تشكيلية تُجسد رؤيته للمقروء/ المتمثَّل.
* * *
إذا كان «أفلاطون» قد شبَّه الرسم بالمرآة، فإن «المرآة» التي انعكست على صفحتها «رؤيا الشاعر» هي «الذات»: ذاته التي تفاعل التعبير منها مع «الرؤيا الشعرية» بـ»رؤية تشكيلية» (نجدها واضحة في عمل السياب الشعري)، سيستثمرها الرسام، هنا، أفضل استثمار. إنه، في عمله هذا (الرسم) لا ينسخ «نموذجاً»، ولا يتماثل مع «نموذج» بمعطيات تشكيلية، وإنما «يتمثّل رؤيا»، وإن كان في هذا التمثّل يبدو متساوقاً مع المنظور الشعري للشاعر. فهو أن «حاكى» إنما «يحاكي الرؤيا» أكثر من «محاكاة النموذج»، أو الواقع الذي انبسطت على أرضه «رؤيا الشاعر».
فهل أن ما أراد الفنان تأكيده، وتوجه بقصده الفني إليه، فكرة مؤداها: أن الفنان يبلغ الحقيقة، لا بالبحث وحده، وإنما من طريق التواصل بين الرؤية الأخرى في ما يقرأ، وبين رؤيته هو، فناناً، بما يجعل لهذه الرؤية من خصوصية هي «الخصوصية الجامعة» بين «ذات الشاعر» في ما تمثلتْ، أو حملت من رؤيا، و»ذات الفنان» بتمثيلاتها الفنية: في الخط، واللون، والتكوين ـ موضوعاً؟ سنقول: إن الفنان ستار لقمان يقدّم بعمله هذا ما نتمثّل فيه «قصائد مرسومة»، فرسومه محملة بشعر حقيقي ومشبعة بما للشعر من رؤيا… ومن ثم نقول: إنه لَحَمْدٌ أن تُرسم أعمال السياب الشعرية على النحو الذي رسمها فيه.
المصدر: القدس العربي