«القزم الرّاقص» لهاروكي موراكامي: عبور هادئ إلى عوالم ملتبسة

شكير نصر الدين
ليس من اليسير الشروع في قراءة قصص هاروكي موراكامي بمعزل عمّا نعرفه عن عوالمه الروائية الغرائبية، مثلما في «كافكا على الشاطئ» أو في منجزه الروائي السابق أو اللاحق على هذه الرواية الفارقة. وتزداد الصعوبة لأننا إزاء نصوص حكائية قصيرة سمتها الأساس التركيز والتكثيف، وبالتالي نتوقع أن نلج عالما قصصيا أشد غرابة وإثارة للعجب؛ حيث إذا كان الكاتب الياباني يستطيع أن يسبب قدرا غير قليل من الدوار والدهشة في رواية من مئات الصفحات، فالمؤكد أن قصصه الوجيزة سوف تعد المتلقي بما يفوق ذلك إدهاشا وإرباكا.
بمثل هذا الاستعداد نستهل قراءة القصص التي اختارها الناقد والمترجم والروائي المغربي لحسن احمامة من مجموعتين قصصيتين هما «الفيل يتبخر» و«صفصاف أعمى وامرأة نائمة»، وقدمها للقارئ العربي بعنوان «القزم الراقص» (دار رؤية للنشر، 2016)، وهي إحدى قصص المجموعة الأولى. وللقارئ أن يسأل نفسه لماذا اصطفى المترجم هذه القصة عنوانا رئيسا، وقد يذهب رأسا لقراءتها حتى يشبع فضوله، أو يقرأ القصص تباعا وفق الترقيم الموضوع لها بداية من «سقوط الامبراطورية الرومانية»، ثم «الوحش الأخضر»، فـ»الهجوم الثاني على المخبزة»، و»القزم الراقص» مرورا بكل من «قرد شيناجَوا»، «سنة سباغيتي»، «النافذة»، صفصاف أعمى، امرأة نائمة» وصولا إلى قصة «الرجل السابع». ولعل القارئ يستشعر الغرابة، أو على أقل تقدير، فرادة القصص من عناوينها، التي تمكر في كثير من الأحيان بتوقعاته، إذ ما يفتأ يجد نفسه في حضرة كاتب ذي خيال جامح، لكنه جموح متحكم فيه، ميزته التنوع موضوعا وأسلوبا وتأليفا، مع بساطةِ السَّهلِ الممتنع. وتلك بساطة تطبع حياة رجل يعمد، منذ اثنين وعشرين عاما على تدوين يومياته الحميمة، بالاستناد إلى إجراء منهجي، خلال الأسبوع يكتب كل يوم أهم الأحداث بشكل مختصر، على أن يعيد كتابتها بعبارات واضحة في مذكرة يومياته يوم الأحد. لكن المثير هو أن هذه المدة التي تصل إلى اثنين وعشرين عاما لا تتسع لها سوى اثنتي عشرة صفحة من القصة ـ الاستهلال وعنوانها الرئيس «سقوط الامبراطورية الرومانية» وتنقسم إلى عناوين فرعية هي على التوالي «سقوط الامبراطورية الرومانية، ثورة الهنود عام 1881، غزو هتلر لبولونيا، وعالم الريح الهوجاء». حياة يومية عادية، وقائعها الأبرز ملاحظة ريح هوجاء لم تكن متوقعة، نشر للغسيل، جمعه وطيّه بعناية، مع قراءة الجريدة وارتشاف فنجان قهوة على إيقاع موسيقى غير مستفزة. كل عناصر الحكي الواقعي حاضرة، إلى أن يرنّ الهاتف ويظن الرجل، الذي لا نعرف له اسما ولا سنين عمر، أن تلك مكالمة، في الأرجح، من صديقته التي تعشق ممارسة الحب بعصّابة على عينيها، لكنه عندما رفع السماعة تناهى إلى مسمعه صخب عاصف رهيب، ريح عنيفة… تصفر في السماعة وكأن الهنود في الطريق إلى الحرب، إبَّان ثورتهم عام 1881، يرد غير أن صوته تلاشى فورا وسط الزوبعة المتواصلة للتاريخ. التاريخ الذي يلح رغما عن السياق النصي للحكي، حيث يكتب الرجل في مدونته الحميمة: «السبت، إذن، غزت بولونيا جيوشُ هتلر المصفحة. وابل من القنابل على فارصوفيا…لا، أخطأتُ، ليس هذا. اجتياح بولونيا كان يوم فاتح سبتمبر/أيلول 1939، وليس أمس. البارحة، ذهبت إلى السينما وشاهدت فيلم «اختيار صوفيا» لميريل ستريب. في حين أن غزو بولونيا لا يعدو أن يكون إلا واحدا من أحداثه». وبالمثل فإن حدث «سقوط الامبراطورية الرومانية» يحل في سياق تشبيه، حيث يكتب بصدد الريح الهوجاء: «رغم إمعاني النظر في تقرير النشرة الجوية من كل الزوايا، لم ألحظ أدنى إشارة تخبر بوقوع إعصار، في ما كان احتمال سقوط المطر صفرا في المئة. وإذا ما صدقت النشرة الجوية فيوم الأحد كان يَعد بالاستقرار مثل الامبراطورية الرومانية في ذروتها». وللقارئ أن يتساءل عمّا يربط الرجل بهذه الأحداث التاريخية الثلاثة، فيأتيه الجواب في نهاية القصة بينما كان ينتظر أن تُجهز صديقته وجبة المحار، حيث نقرأ:» دوَّنتُ أحداث اليوم المهمة، في انتظار تحرير يومياتي الأحد المقبل. هذا ما قمتُ بتدوينه.
سقوط الامبراطورية الرومانية
ثورة الهنود عام 1881
غزو هتلر لبولونيا.
وهكذا أكون متأكدا من تذكر ما حدث هذا اليوم بدقة، وحتى خلال الأسبوع. فالاحترام الشديد لهذا الإجراء سمح لي بالحفاظ على يومياتي منذ اثنين وعشرين سنة دونما إغفال يوم واحد. كل فعل مهم له إجراؤه الخاص. أما أن تعصف الريح أو لا تعصف، فعلى هذا النمط أعيش». كيف لهذا الرجل الذي يحرص على توثيق حدث هبّة الريح بالساعة والدقيقة «وكيما أكون دقيقا حدث ذلك في الساعة الثانية وتسع دقائق». أو نشر الغسيل في الفيراندا في الصباح «على الساعة العاشرة وثمانية وأربعين دقيقة بالضبط». والذي يحدد كمية زفيره بالتقريب «تنفست الصعداء بكثافة بحوالي ثلاثين في المئة». أن يجعل من ثلاثة أحداث تاريخية كبرى (سقوط الامبراطورية الرومانية، ثورة الهنود عام 1881، غزو هتلر لبولونيا) أحداث يومه المهمة، ما لم يعش على مقياس زمني مفارق، أو في زمن بين ـ بين، اليومي والتاريخي، والانتقال بينهما عبر مسرب غير مرئي، مسرب عبارات التشبيه التي تتيح الانتقال الفجائي في حياة يومية، امتد تدوينها اثنتين وعشرين سنة، وتسعها بالكاد اثنتا عشرة صفحة، وبالتالي نستطيع الدفع باعتبار المفارقة الزمنية هي الموضوع الرئيس في هذه القصة المستهل، المفارقة بما هي بناء ثَنَوِي، انشقاقي، يدل على الشيء وضده، الحاضر والماضي، الداخل، والخارج، الأنا والآخر التي تعبر مختلف حالات العالم القصصي الإنسانية. مثل حال الزوجة التي تسلي نفسها أثناء غياب زوجها في عمله على جري عادته، بتأمل حديقتها من خلال الستائر، شأن ذلك اليوم الذي كانت آخذة من دون شك في التحدث إلى سنديانتها التي غرستها شتلة ونمت أمام عينيها، وإذا بها سمعت «ذاك الصخب، صوت خافت، على شكل احتكاك بعيد، اعتقدتُ للوهلة الأولى أن مصدره من داخل جسدي، من أعماقه، إنذار آت من الشرنقة المبهمة التي يُحيكها جسدي في الداخل»، وعند قدم السنديانة التي تفكر فيها «مثل صديق قديم» تنتفخ الأرض وينشق ما ارتفع منها، ثم يتحول الشَّق إلى ثقب اندفع منه حيوان صغير أخضر بجسد تغطيه حراشف خضراء لامعة… كان له أنف غريب، أما عيناه فكانتا بشريتين، مخلوق رهيب، حسب توصيف الزوجة في قصة «وحش أخضر»، يحاول فتح الباب الوحيد. مخلوق له خصائص غريبة، إذ يتخطى العتبة هازئا، يعرف ما يجول في خاطر الزوجة، بل إنه يكلمها جهرا ويفصح لها عن حبه، وأنه على عكس الظاهر، لا يريد افتراسها، ولا يضمر لها أذى، بل يخبرها أنه قطع كل تلك المسافات من باطن الأرض كي يبوح لها بحبه، لكن الأغرب أن ما يجول في خاطر الزوجة كان له قدرة خارقة على تحول الوحش الأخضر، إذ صارت تتخيل كل أنواع التعذيب التي رغبت في إلحاقها به، إلى أن انتهى به المطاف إلى الاختفاء، وفي أرجاء الغرفة عمَّ دجى الليل. قلبٌ للمواقف، وحش أخضر حافزه الحب، زوجة رعت بالعناية سنديانة تحدثها في سريرتها تفصح، جراء هذا اللقاء مع الكائن الغريب، عن قدرة خارقة على التعذيب وإضمار الشّر، وبالتالي فاللقاء مع الآخر يؤول إلى لقاء مع الأنا الحقيقي. لعبة الظاهر والباطن، البشاعة والنقاء، فهذا الصوت الصاخب الذي ظنت في البدء أنه نابع من جسدها، هو بالفعل صوت كيانها الداخلي، الذي لم تشك قبلُ في وجوده، وما مشهد الوحش الأخضر سوى توهُّم، يفضي إلى أن الجحيم ليس هو الآخر، بل إنه الأنا. في قلب وإلماع ذكي لمعادلة سارتر الوجودية. والانقلاب ذاته يطرأ على حياة زوج حديث عهد بالزواج، يستبد بهما على الساعة الثانية صباحا جوع مباغت «قد توصف قوته بكونها خرقاء»، جوع خاص، غير عادي، محيّر في شدته وتوقيته، يجر على الرجل زلة لسان باح بعدها بسر كتمه منذ فترة شبابه. فيما مضى، دفعه جوع مماثل رفقة صديق له بالتفكير في الهجوم على مخبزة، وتم لهما ذلك، إلا أن الخبَّاز اشترط عليهما الإنصات إلى مقطوعة موسيقية كلاسيكية لفاغنر قبل استكمال جنحتهما تلك. لم يكن الأمر سرقة، بل مجرد مقايضة، لأن المهاجمين ظفرا بما يكفي من الخبز، لكنه نصر كان له طعم الخسارة، إذ أن شرط الخبَّاز والنتيجة المحصلة أدخلتهما في حيرة، وبسببها افترقا في ما بعد، إذ كثيرا ما ناقشا العلاقة بين الخبز وفاغنر، وتساءلا إن كانا قد قاما بالاختيار الجيّد، والاختيار موضوع محوري في قصة « الهجوم الثاني على المخبزة» هذه، حسب اعتراف الزوج السارد، الذي يرى «أن في الحياة اختيارات سيئة تفضي إلى نتائج إيجابية واختيارات حسنة تَنتُج عنها عواقب مشؤومة»، بل يرى أن ما يحدث لنا لا نختاره، مثلما وقع في شبابه وما سيحدث له في الحياة الزوجية، وهكذا يؤطر محكي الذاكرة حدثا مماثلا للأول، لكنه لا يطابقه لزوما، فإذا كان الجوع في الحال الأولى مبررا للهجوم الأول، جوع ناجم عن عوز، فإنه في الحالة الثانية يفضي إلى سلوك الزوجة وظهورها بوجه لم يعهده الزوج فيها من قبل: فهي المحرض على الهجوم الثاني، بل هي الفاعل الرئيس فيه لِما أبانت عنه من دربة وردود فعل قبل وأثناء وبعد الهجوم على الماكدونالد، لتعذر العثور في ذلك الوقت المتأخر على مخبزة. وإذا كان الهجوم الأول مر بسلام جراء مقايضة الشيخ للخبز بالإنصات إلى الموسيقى الكلاسيكية، فالهجوم الثاني عرف نهاية مماثلة، حيث استسلم العاملون والمدير للمهاجمين، ولم يكن هناك من داع لاستخدام قوة السلاح. ومرة أخرى، تبدو الحكاية واقعية، إلا أن التداخل الزمني، بين الماضي والحاضر والفيزيولوجي ـ النفسي (الجوع الذي ألم بالشخصيات)، يتعقد بتداخل أو قل عمق وجودي محيِّر، يصفه السارد بالكشف الصوفي. وهنا يتم الانزلاق غير المحسوس من الواقعي إلى الفانتازتيكي، إن نحن فهمناه بالحيرة التي تستبد بالقارئ إزاء الظاهرة، بين تأويل عقلاني وآخر فوق طبيعي، حسب التوصيف الذي وضعه الناقد تزفيتان تودوروف، حيث يسعى السارد للعثور على تفسير لذلك الجوع الخاص، متوسلا المجاز، لأن اللغة العملية العادية تعجز في رأيه عن توصيف ما لا يسمى صراحة: «قد أغامر بعرض الوضع على شكل صورة سينما توغرافية.1) أنا على متن مركب صغير في المحيط.2) أنظر تحتي، وأرى تحت سطح الماء رأس بركان مائي.3) قد يقال إن بين هذا الرأس وسطح الماء ليس ثمة مسافة كبيرة، لكن يستحيل معرفتها بالضبط. 4) وهذا لكون شدة شفافية الماء تجعل تقييمَ المسافة صعبا. هذه إجمالا الصورة التي عبرت ذهني خلال الثلاث أو الأربع دقائق التي تلت إعلان زوجتي الرافض للذهاب إلى مطعم مفتوح ليلا». وإذا كانت الصورة ـ المجاز ترد بوصفها رؤية تعبر الذهن، فإنها ترد لاحقا بوصفها مشاهدة عينية: «من جديد فتَّشت زوجتي في رفوف المطبخ، بحثا عن نتف من الطعام، فيما كنت وأنا مشرئب من جديد من على مركبي، أشاهد قمة البركان من تحت الماء، وضعتني شفافية ماء البحر المحيط بالمركب في حالة اضطراب رهيب، غمرني إحساس بكون هوة تنفتح في مكان خلف جوف معدتي. هوة خالصة بدون مدخل ولا مخرج. إحساس غريب بالنقص ـ الشعور بالوجود الحقيقي للفراغ ـ يشبه ذلك الخوف المعطل الذي يشعر به المرء لمّا ينحني من قمة برج عال». بعد الهجوم الثاني، الذي كان ضروريا من منظور الزوجة لدفع اللعنة، تعود تلك الصورة الملحّة إذ يختم السارد الحكاية بالقول «وأنا لوحدي، انحنيت من على حافة مركبي، وشاهدت من جديد قعر البحر. لم أر ثانية البركان. كان السطح الهادئ للبحر يعكس زرقة السماء…تمدّدتُ في قعر المركب، وأغمضتُ عيني، بانتظار أن يحملني المدّ نحو وجهتي». وهكذا يتيه التأويل بين الحقيقي (بالمعنى الذي تأخذه الحقيقة في صيغة الإيهام بالواقع، أو الوهم المرجعي) والخيالي. أيهما الخيال، وأيهما الحقيقة: حدث الهجوم الثاني أم حدث الوجود على متن المركب؟ ويُستعمل التضليل نفسه أو يكاد في قصص أخرى من المجموعة عبر المزاوجة بين محكي الأحلام والإغفاءة المسحورة وحكاية الرعب والباروديا والسخرية السوداء، بل حتى الضحك والفكاهة؛ وتلك حال القصة التي انتخبها المترجم عنوانا للمجموعة: «القزم الراقص»، وهي حكاية رجل شاب زاره في الحلم قزم ودعاه للرقص. رفض الأول لكن الثاني سوف يعود في الحلم، ويعقد اتفاقا مع الشاب الذي يعمل في مصنع لا يقل غرابة عن عالم الأحلام، فهو مصنع للفيلة، فيه أقسام يضطلع العمال فيها بصناعة «الآذان» وأخرى للقوائم، وغيرها للخراطيم وكل ما يخص صنع فيل كامل تُجمع أجزاؤه كما في مصنع للسيارات، وسوف يتبين أنه ميثاق شيطاني لأنه يقوم على مقايضة: إذا أراد العامل الشاب الظفر بفتاة فاتنة تعمل في القسم ثمانية المخصص للقوائم، عليه السماح للقزم بأن ينزلق داخله ويرقص من خلال جسده، شرط أن لا ينبس ببنت شفة، طالما راقص الفتاة الساحرة على خشبة المرقص. ورغم مخافة استحواذ القزم الشيطاني على جسده « أبد الآبدين»، قبِل الشاب العقد، رغم التباس الأمر عليه، وعلى القارئ، إذ يفصح قائلا:» أين أنا في الواقع إذا كنت أستخدم حلما لتحقيق حلم آخر؟»، وما بدا على أنه مقترح يدعو إلى التندر والضحك، كاد ينقلب إلى رعب عندما سعى القزم إلى مسخ الفتاة، في عيني الشاب، حينما أراد أن يطبع على فمها قبلة، لكن، مثلما في المحكي العجائبي ينتصر الجمال على القبح، ويدرك الشاب أن تحولات الفتاة البشعة هي فعل شيطاني من القزم، الغاية من ورائه جعل العامل يصرخ حتى يستقر في جسده إلى الأبد. ومثلما خشيت الزوجة في «الهجوم الثاني على المخبزة» من اللعنة التي باتت تطاردها بعد زوجها، أضحى الشاب مبحوثا عنه ومطاردا من قبل الشرطة التي قرَّ قرارها على أن القزم الراقص متجسد فيه، القزم الراقص نفسه الذي سحر بلاط الامبراطور قبل الثورة، وتم طرده من المدينة بعد اغتيال الامبراطور، وعاش منبوذا، منعزلا. ولعل العزلة والفراغ الداخلي وانعدام التواصل والتمزق العاطفي والعجز والغموض وتعذر الفهم والتفسير والعبور الخاطف بين العوالم الموازية هي السمات البارزة المشتركة بين باقي قصص المجموعة، ليس فحسب باعتبارها موضوعات، بل بوصفها إجراء فنيا ومرجعية معرفية وفلسفية تستند إليها فضاءات الشخصيات، بكل مكوناتها الزمنية والمكانية والدلالية، وعمقها النفسي والوجودي.
ومثل أي قاص ساحر يأخذنا موراكامي بحكايات مبتدأها واقعي، لكننا ننزلق بهدوء إلى عوالم الأحلام واللامعقول، بل العبث أحيانا، تحرضنا حالاتها الإنسانية على السؤال، بل التشكيك في العالم المحيط بنا، إننا لا نخرج من قراءتها مثلما دخلنا إليها، بل لا نستطيع الادعاء أننا خرجنا منها بتأويل جازم قاطع، إذ ما أن نمسك بتأويل حتى تنفتح مسارب أخرى تجعل الريبة والشك هي اليقين الوحيد الذي نظفر به. على أننا ونحن نقرأ هذه القصص لا نشك بتاتا في أنها عبرت إلينا من لغات أخرى، ومرد ذلك أن المترجم اختار أولا مضاهاة النص الفرنسي بالنص الإنكليزي، سعيا منه للاقتراب أكثر إلى الأصل الياباني، وثانيا لأنه كان دقيقا في انتقاء العبارات، وبناء الجمل، والمؤكد، وهذا نابع من تجربتي المتواضعة في مجال الترجمة، أن القصص مرت بمراحل عديدة، وعرفت صياغات كثيرة حتى استقرت على هذه الصورة الرفيعة التي قدمها لحسن احمامة للقارئ العربي.
(القدس العربي)