القصيدة المغربية والسؤال الجريح

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

*حسن بولهويشات

 المصدر / القدس العربي

لأسباب غير معلنة تم حجب جائزة الكتاب في صنف الشعر بالمغرب هذه السنة، وهي الجائزة التي ترعاها وزارة الثقافة من جيوب المواطنين ودافعي الضرائب. وسبق للقاص أحمد بوزفور أن رفض هذه الجائزة قبل اثنتي عشرة سنة بدعوى هشاشة الأوضاع الثقافية والسياسية والاجتماعية، وحينها تعرض الرجل لانتقادات غير رحيمة..
إن إقبار جائزة الشعر أو حجبها بلغة الوزارة جاء في توقيت محرج جدا للقصيدة المغربية، التي تعيش سؤالا حقيقيا على مستوى الاضافة والتميز، وفي وقت صرح فيه الشاعر العراقي سعدي يوسف بأن القصيدة المغربية لا تتفوه بشيء، فيما ذهب آخرون الى القول إن المغاربة يكتبون قصيدتهم بالذهن، كما لو أن هناك في العالم من يكتب الشعر بحذائه أو أكمام سترته. وكما لو أن القصيدة بيان عسكري يستوجب شحذ كل شروط الوضوح والإبانة، إلى حد الإسفاف وتهييج مشاعر أطفال القسم الابتدائي ..
وبعيدا في الزمن ونائيا جدا, كتب عبد الله كنون كتابه ”أحاديث عن الأدب المغربي الحديث» وقال، «إذا كان تاريخ نهضة الأدب العربي في المشرق يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر فانه في المغرب قد تأخر إلى ما قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بقليل ..». وعزا الباحث سبب هذا التأخر إلى اختيار المغرب لكيانه الخاص بمعزل عن جسم الدولة العثمانية. وأيضا حذره المفرط من السياسة الاستعمارية التي كان قد بدأها الغرب في الجزائر وأقطار أخرى مما فوت على المغرب فرصة الاستفادة من علوم ومعارف الغرب، وفرصة الاحتكاك بالمشرق في إطار ما سمي بالنهضة الأدبية ..
صدقنا الرجل الباحث والأسباب ونحن طلاب في الثانويات والجامعات، لكن مع مرور الوقت والمتابعة الحثيثة للشأن الثقافي في المغرب، انتبهنا إلى أن التأخر وارد بالفعل وبخمسين سنة وأكثر، لكن لأسباب غير مرتبطة دوما بسؤال القصيدة، كما أراد البعض، وليست هذه الأسباب خارجية محضة كما ذكرها عبد الله كنون. ولكن الأمر يتعلق بسؤال المؤسسة الثقافية في المغرب الذي يسطع بقوة بعد الإعلان عن نتائج جائزة وأخرى أو لائحة أسماء الكتاب والفرق المسرحية المستفيدة من دعم وزارة الثقافة .
كما أن الأنطلوجيات المنجزة عن الشعر المغربي لحد الآن لا تخلو من انتقادات لاذعة، بسبب إقصاء غير مبرر لأسماء بعينها وتقديم أسماء أخرى تشتغل باهتمامات بعيدة عن الشعر. كما أن تنزيل هذه الأنطلوجيات في فترات زمنية متقاربة، يشي بوجود أقطاب متناحرة وتشنج الساحة الأدبية على نحو غير مقبول، بينما الملفات المنجزة في السنوات الأخيرة عن الشعر المغربي في بعض المجلات لم تلق ترحيبا لائقا من لدن الغالبية الكبرى من مستهلكي الأدب والثقافة عموما، مما يطرح تساؤلات صريحة بخصوص الموضوعية والأمانة الشعرية، إن صح التعبير، وتجنب التعاطف الذي تمليه الصداقة في مثل هذه الملفات الأدبية. وهل وجدت القصيدة المغربية، بعد هذه البقع السوداء، سفراءها الحقيقيين الذين يرفعون رأسها عاليا في المهرجانات العربية والدولية؟
وقريبا من المؤسسة التعليمية هذه المرة، فلا أحد يمكن أن يخفي الاستياء الكبير الذي يبديه رجال التربية في الملاحق التربوية مع مدخل كل موسم دراسي بخصوص انتقاء النصوص الأدبية في المقررات الدراسية، وهو انتقاء غير صائب وبارد، حسب هؤلاء، ولا يتماشى بالمرة مع طموحات التلاميذ الذين يغادرون قاعات الدرس من فرط الملل في سن مبكرة، وفي أسوأ الحالات ينحرون الأساتذة بالسيوف والسكاكين الطويلة أمام بوابات الإعداديات والثانويات.
وقبل كل هذا الهم، نتساءل من الذي جعل الروائي محمد زفزاف ينأى بنفسه عن المشهد الثقافي المغربي مبكرا وينزوي في شقته في الدار البيضاء إلى أن مات مكتفيا في أواخر حياته بإطلالة وأخرى من البلكونة بلحيته الكثة وشاله الفلسطيني. ومن الذي دفع محمد شكري ليضع قلبه في يد أصدقائه الأمريكان والإسبان ويشتكي طويلا من كرابيج أهل الدار. ومن الذي أوعز لمحمد خير الدين بعد عودته من فرنسا أن يهيم على وجهه ويتنقل بين بيوت أصدقاء لا علاقة لهم بالأدب، هكذا قنوطا وشرسا كلما تعلق الأمر بصحافيين مغاربة. ومن يستطيع أن يحصي عدد المقالات التي كتبها صلاح بوسريف على أمل أن يتم رفع التهميش والحصار الذي طال الشاعر أحمد بركات في حياته ومماته، أم أن الشاعر بركات مجرد دفتر من «دفاتر الخسران».. ولماذا اختار آخرون من الأحياء الاحتماء واللوذ بالمهجر متدثرين بالقصيدة والبرد كرد فعل غير معلن عن أشياء غامضة لكنها مفهومة لدى صناع الثقافة.. وهل ينسى اتحاد كتاب المغرب عدد البيانات الحارقة التي صاغها ضده أعضاء في الاتحاد نفسه وعدد المنسحبين بعد كل مؤتمر..
يحدث هذا في الوقت الذي تعيش الساحة الأدبية حياتها الطبيعية في أقطار عربية أخرى، حيث الاحتكام إلى النصوص القوية في الجوائز والنشر في الملاحق والمجلات الثقافية.. وهذا ممدوح عدوان شاعر ومسرحي سوري، اقترب عدد كتبه من المئة موزعة بين أجناس أدبية مختلفة لم يتردد في إطلاق رصاص حي صوب رموز القهر والتحجر الفكري.. لكن جنازته كانت مهيبة وتخللتها تصريحات رسمية أشادت بمواقف الرجل وانتصاره العارم لهموم الشعب والقضايا الكبرى. واللائحة تطول قبل وبعد عدوان ..
فللأسف مازال في كثير من أنحاء الكرة الأرضية من يطلب منك أن تقتات بهدوء، واذا أردت أن تكتب فبهدوء أيضا. واذا أردنا نحن أن نضع قبعة حمراء على رأسك فما عليك إلا أن تنحني وتقبل بها وتنصرف بعد أن تترك لنا تصريحا هادئا أيضا ..
لكن ما من أحد ينكر اليوم أنه توجد في المغرب قصيدة مختلفة جدا وجريئة ومكسرة، الى حد مقبول، لإيقاعات القدامى وضربات الحدادين الصارمة وبمنجز لغوي يمتاح من أكثر من قاموس. وغير مقبول بتاتا من أي جهة أن تتصرف كما لو ألا أحد يكتب الشعر في هذا الوطن على امتداد المحيط وشساعة الأطلس الشامخ.. فقليلا من اللطف يا أصدقاء، فلا نريد مزيدا من المنتحرين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى