الكاتب «يوبا الثاني»… الكنز المفقود في الحضارة الأمازيغية

في يوم من أول أيام شهر يونيو/حزيران من القرن الأول قبل الميلاد، في بلاد تامازغا، حيث كانت الآلهة الرومانية جونو توزع على العرائس صكوك السعادة وبشائر الرفاه، وفي موكب ملكي رهيب، أشارت سيلينا إلى رئيس خدمها طالبة منه التوقف برهة أمام معبد إيزيس، نزلت بكل خيلاء من عربتها الملكية الفاخرة التي تليق بمقام جلالتها، خطت متبخترة بين الجموع بكامل زينتها، موشحة بهالة صفراء ذهبية؛ مشعة فوق تاج رأسها، تؤمن بها من شر الأرواح الخفية وفقا للطقس المتداول، وهي العروسة المشهود لها بجمالها القمري الفائق، الزهية في كامل حليها وحلتها، ولجت معبد الآلهة المصرية إيزيس؛ آلهة الأمومة والخصوبة، دنت منها بخشوع وولاء، طالبة أن تبارك لها هذه الزيجة وتجعل منها مثالا للسعادة والحب.
حشد من أتباع سيلينا خرج بهتافات التمجيد والتهليل، مهرجو الألعاب السحرية يثيرون الفضول، موسيقى صاخبة تثير حماسة الرقص الروحي، قرع الطبول ونفير المزامير يملآن المكان، غاصت العاصمة الملكية فوليبيليس (أليلي، وليلي حاليًا) بأكاليل الورود، أوار المشاعل المتلألئة تزين جدران القصر الباذخ؛ التي لا يخبو لهيبها الوهّاج المنعكس على التماثيل الرخامية والبرونزية الفخمة، وعلى أرضية القصر الفسيفسائية الرائعة. كما ينعكس الضياء على أباريق فضية مليئة بالنبيذ الأفريقي المقدس الذي أعد من كروم ضيعات اللوكوس (العرائش في المغرب) وروي بينابيع مياهه العذبة، رائحته تنعش الزوار الثملين، ضيوف حجوا من كل حدب وصوب، يشربون بلا تريث، لإرضاء إله الخمر باخوس.
يُسمع دوي نفير الأبواق، إعلانا عن موعد عرض مهم، يختفي الصخب فجأة، ويعلو صوت أمذياز كريناجوراس المنتصب فوق المنصة الشرفية ليلقي قصيدة خلَّد بها هذه المناسبة السعيدة، منشدا:
«من أجل مناطق عظمى متجاورة في العالم يقطعها نهر النيل الذي ينبع من إثيوبيا السمراء، صنعتِ ملوكًا يشتركون في حكمها برباط الزواج، فجعلتِ العرقَين المصري والليبي يختلطان في عرق واحد. فلتدعي ذرية الملوك تتولى زمام الأمور التي ورثتها من أبويها، بقوة، لحكم هاتين الرقعتين«( ج. درايكوت: hindawi.org).
إنها مشاهد متخيلة بناء على معطيات من مظاهر الميثولوجيا الأمازيغورومانية، لقصة حب رائعة شهدتها ربوع تامزغا، تفاصيلها الدقيقة أخفاها التاريخ عنّا، بطلاها الأكليذ الأمازيغي قايوس يوليوس الملقب بـ «يوبا الثاني» وسيلينا الثامنة الملقبة بـ»كليوباترا القمر إبنة كليوباترا السابعة البطلمية (ملكة مصر)؛ التي كما هو معلوم؛ تلقت تكوينا مماثلا ليوبا الثاني» ( شافية شارن: 51).
كلاهما ـ يقول التاريخ ـ كانت تجمعهما روابط مشتركة، أبرزها الحكمة والدهاء، مما جعلها أخيرا تختار الاقتران بيوبا الثاني بعد فشل الإرتباط بأزواج متعددين. وكانت تحمل في قلبها ضغينة وحقدا يوازي ما يشعر به زوجها تجاه المستوطن الروماني، فحدّدوا خطة للانتقام، وبرنامجا نهضويا غنيا للرقي ببلاد موريطانيا إلى مصاف المناطق المزدهرة للقضاء على التوسع الروماني وإضعاف سلطته في المنطقة.
على هذا الأساس، وضع يوبا الثاني لبنة متينة لإمبراطورية أمازيغية واسعة جعل لها مركزين مهمين، أحدهما إيول (شرشال الحالية) على الساحل المتوسطي شرقا، والآخر فوليبيليس (وليلي) غربا. ففرض يوبا الثاني سياسة جديدة في موريطانيا التي حكمها لمدة 48 عاما بين عامي 25 قبل الميلاد و23 بعده. تأثر بثقافة روما التي كان إلى وقت قريب حليفا لها، وانعكس هذا التأثير بوضوح على محتوى إنجازاته العمرانية المتمثلة في تشييد المباني الضخمة وإيلاء الجانب الثقافي والعلمي والتعليمي الاهتمام الواسع، وهذا ما جعل المؤرخ الروماني بيلين الأكبر (23 ـ 79 م) يذكره بقوله: »كانت شهرة يوبا الثاني بخدماته العلمية تفوق شهرته بملكه«.
ومن المعروف تاريخيا، أن يوبا الثاني «كان على شيء عظيم من العلم وسعة المدارك، له ذكاء حاد وفكر وقاد وله تآليف كثيرة جدا في كل العلوم والفنون، أهمها تاريخ الرومان.. وكان يميل كل الميل إلى فلسفة اليونان وأدخل ثقافتهم وفنونهم إلى بلاده» ( ت. المدني: 91). «ومما يزيد في شأن هذا الملك أنه كان فنانا مولعا بدراسة شؤون الهندسة.. وجلب لعاصمته ـ شرشال ـ مختلف الفنانين من مصر واليونان.. كما جلب لها عددا من الكتاب والشعراء والفلاسفة»( م. الدين المشرفي: 81). وكانت له أيضا اتصالات ثقافية مع رجال المسرح، يخبرنا م. عبازة، بقوله: »يوبا الثاني.. اتخذ ممثلين وممثلات؛ لايزالون بقصره وجلب إلى بلاطه أحد مشاهير الممثلين في التشخيص واسمه ليونتوس لاريخوسي« ( نور الدين عمرون: 09). كما «لم يشغله شيء عن المطالعة والبحث بروما ولا حين جلس على عرش آبائه، وكان يقول الشعر، ولازالت بين أيدي الأدباء أشعار بعث بها إلى ليونتوس» (محمد مصايف 1981). ويكشف المؤرخ والموسيقي الكبير بلوتاركو (ولد سنة 46 ب.م) عن القيمة العلمية ليوبا الثاني عندما يؤكد في كتابه «سيرتوريو» الفقرة التاسعة: »وكل هذا يقال على شرف يوبا الثاني، أحسن مؤرخ ظهر وسط الملوك«. وفي فقرة أخرى من كتاب قيصر، الفقرة 55 يقول: «ويعد يوبا الثاني من أكبر مؤرخي العالم الهليني» ( ح. مجدوبي: 3918). على الرغم من أنه خدم الفكر الروماني بولاء ظاهر إلاّ أنه لم يكن منحازا له بشكل كبير، يقول عنه المدني: »تولى أفريقيا الجديدة بإخلاص تام، وكان يحب إخوانه البربر.. ويسلك أحسن سياسة معهم« ( ت. المدني: 91). كما وصفه ش. جوليان، بقوله: »إن هذا الملك الشاب لنموذج بربري غريب« ( أ. جوليان: 138).
حينما توفي أبوه يوبا الأول منتحرا، تبناه يوليوس قيصر عن عمر لم يتجاوز الأربع سنوات ومنح له اسم قايوس يوليوس، «حصل حينها على المواطنة الرومانية، وقضى فترتَي الطفولة والمراهقة في روما»( ج. درايكوت: hindawi.org)، المدينة التي تلقى فيها تعليما لاتينيا. يقول عنه ش. جوليان: »وكان هذا الملك يحسن اليونانية واللاتينية والبونيقية وكان في تآلفه آخذا من كل شيء بطرف، فلم يبق علم واحد غريبا عنه، وكان في إمكانه أن يكتب في كل موضوع بفضل مكتبته الثرية ونساخه الذين لا يعرفون التعب غير أن تآليفه لم تبق بعده« ( أ. جوليان: 139). مجهودات توجت في الأخير بكتابه الشهير «موسوعة ليبيكا» المفقودة، يلمح المؤرخون إلى أن معرفة جزء من مضمونها الأدبي والتاريخي يرتكز أساسا على كتابات المؤرخ الروماني بلينيوس كاسيليوس الملقب ببليين الكبير (23 ـ 79) الذي استولى على فكر يوبا الثاني وجعل منه قاعدة ومصدرا أساسيا لكتابه الضخم المسمى «التاريخ الطبيعي»؛ المتكون من 37 مجلدًا. في 22 مارس/آذار من السنة الخامسة بعد الميلاد توفيت كليوباترا سيلينا، التي لعبت بلا شك دورا مهما في حياة يوبا الثاني العلمية، وكما «يبدو من خلال بروز صورها على عملة موريطانيا القيصرية، أنها قاسمته المُلك» (شافية شارن: ص: 51). وكان موتها حدثا بارزا في المنطقة، إذ تزامن مع ظاهرة خسوف القمر. يحتفظ السجل الأدبي بمأثورة كتبها الأديب اليوناني كريناگوراس، تعتبر نعياً لكليوباترا، يقول فيها:
القمر نفسه أصبح مظلماً، في ارتفاعه عند الغروب،
مغطياً معاناته في الليل،
لأنه شاهد سميته الجميلة، سيلينه،
متقطع الأنفاس، هابطاً إلى الظلمات،
فمعه الآن جمال ضيائها وضيائه،
واختلطت ظلمته وظلمة موتها (Roller, pp. 249 51).
وبعد حوالي 18 سنة من هذا الحدث التراجيدي توفي يوبا الثاني، خلّفه ابنه بطليموس مباشرة، ويعتقد التاريخيون أنه دفن إلى جانب زوجته في الضريح الملكي بموريطانيا (الجزائر)، هذا الصرح الأثري الضخم المعروفة في التراث المحلي بقبر الرومية الذي يحتفظ إلى اليوم برمزية قصة يوبا الثاني وسيلينا الأسطورية.