الكتابة بالمشهد وأسئلة الواقع والقراءة في رواية «خيط سحري»

لم يبعد زمن الصورة السرد، ولا يمكن الاستغناء عن الرواية بالفيلم السينمائي. كما لا يمكننا أن نقيم الأعمال الروائية بناء على إمكانية تحويلها إلى عمل سينمائي. صحيح أن بعض الروايات الشهيرة ذات النسق السردي التتابعي كرواية «الشيخ والبحر» لإرنست همنغواي، تمثيلا لا حصرا، قد حولت إلى فيلم سينمائي، غير أن الكثير من الروايات ذات النسق السردي التداخلي أو المركب أو التتابعي حتى، لم تحول إلى فيلم سينمائي، على الرغم من ممكناتها السردية التجديدية، ومقاربتها لمواضيع اجتماعية ذات حساسية. ولا غرابة في أن تستعير بعض الروايات تقنيات المونتاج السينمائي كـ»المشهد» لتكتب به، مراهنة في ذلك على ذكاء المتلقي، مثلما يراهن الفيلم السينمائي على ذكاء المشاهد. ومثلما يمكن أن نستدل بفيلم «الجدار» 1982 لبينك فلويد (إخراج آلان باكر) على توظيف نسق التداخل المشهدي، يمكننا أن نستحضر روايات اعتمدت النسق ذاته. وفي هذا المقال سنتناول رواية «خيط سحري» للمخرج المصري حسام نورالدين، التي استثمرت تقنية المشهد كبديل عن تقنية الفصول، لنتبين ممكنات هذه الرواية، وهي تطرح أسئلة في الكتابة مثلما تطرح أسئلة على التلقي والواقع.
ثمة رابط سحري يربط بين أحداث رواية «خيط سحري» (دار روافد،2015)، وهو رابط لا يتميز بخطيته أو تنامي أحداثه أفقيا، وإنما يراهن على ذكاء القارئ ليربط بين مشاهدها. وإذا كان الخيط السحري (مادة) ليست مرئية ولا قابلة للقياس، فكذلك علاقة الشخوص داخل الرواية؛ بحيث إنها علاقة متوترة وغير واضحة، على الرغم مما يجمعها، أحيانا، من روابط بيولوجية ونسبية. ويدفع هذا الاختيار الذي يؤلف بين المتناقضات إلى ضرورة فهم هذه التقنية التفكيكية للخطية أو للكتابة بالمشهد، المستعارة من (اللغة السينمائية)، والعابرة للخطية الزمنية والمكانية على حد سواء. ولهذا الاِعتبار نجد في الرواية تجاورا بين نقد المركزيات والانفتاح على الهامش من نوافذ هذه المركزيات ذاتها، بمعنى آخر فإن ما يميز هذه الرواية هو نفاذها إلى سراديب الشخوص، وإفساح المجال لها بالتالي، لتعبر بحرية عن مشاعرها المتشظية داخل فضاء المدينة، من دون محاكمة أو تدخل يدين هذه السلوكيات المعيشة والعفوية.

مشاهد الأسر العاطفي

تتوتر أحداث الرواية منذ بدايتها وهي تصور مشهدا لراهبات قرب البحر يقتفي أثرهن إيهاب، الذي درس في كلية الآداب، وحصل على شهادات في دورات تدريبية في الكومبيوتر، بحيث يمسك كاميرته ليصور مشاهد كاشفة عن جسد الراهبات، للتلذذ بجسدهن عبر وسيط مادي! ولا يقف الأمر عند اقتحام جو الراهبات شبه الملائكي، وإنما يشكل هذا المشهد عتبة أولى للكشف عن صورة الأنثى – الجسد داخل الرواية، قبل أن تتوتر أحداثها وتتدفق في اتجاه مشاهد لواقع إنساني مأزوم ومتشظ. بمعنى أن هذا المنزع السردي التشكيكي لا ينطلق من عتبة لتشكيل حكاية ما بل على العكس من ذلك يبدأ من مشهد يعكس سلوكا ليشرع في المشاهد اللاحقة للبحث عن تفسير للسلوك الإنساني الشاذ. فإيهاب ورفيقه محمود سيعوضا عن واقعهما المادي والمهني والأسري الخاسر بآقتفاء اللذات. ولن يقف الأمر عند هذا الحد، فعلى الرغم من كون تلك الأحداث المتفرقة التي تصور الأنثى باعتبارها ملاذا لتفريغ المكبوت، فإن لذلك مجموعة من الأسباب. ولأجل ذلك يتوغل السرد عبر مشاهد مفارقة لينقل واقعا أسريا أبيسيا يعج بالمتناقضات والصراعات المجانية. وهذا ما يبدو واضحا من خلال طغيان إبراهيم، أب الأسرة ومساهمته بالتالي، في تعميق الهوة بينه وبين ابنه إيهاب وكذا أخته فادية.
ويساهم تفجر الأسرة من الداخل، كما يصوره المقطع السردي التالي، بين رب الأسرة إبراهيم واخته فادية التي تقطن معه في تفكيك مجمل الروابط النسبية «يروح إبراهيم ويجيء أمام أمه كبندول الساعة.. ترفع أمه سبابتها نحو ابنها، تطلب منه أن يهدئ من صراخه، بشيء من التحذير. ـ أقطع لسانها القذر؟ (…) تصب فادية سيلا من اللعنات، من غرفتها المفتوحة: – يا رب يحرق قلبك قد ما حرقتني…). فالرواية تنقل واقع مجتمع ليس للأنثى فيه أي اختيار. ففادية أخت إبراهيم أحبت يسري ولم يسمح لها أهلها بالزواج منه. فعزمت على أن تتحداهم ولما رجعت إليه وجدته قد تزوج.. ولهذا سينتهي بها المطاف لتتزوج رجلا لا تحبه (مديح التاجر) ثم بعد ذلك ستطلب الطلاق منه. وبالموازاة مع ذلك سيفسح للبرود العاطفي داخل واقع أسري متشظ مجاله داخل مشاهد الرواية، ويصبح صوت الأنثى (فادية) وهي تفاتح إيهاب ابن أخيها إبراهيم، نشازا شأنها في تلك العواطف شأن وجودها الجسدي المادي.
ولأجل ذلك تراهن مشاهد الرواية على قراءة واقع أسري ومجتمعي معقد؛ بحيث تتجاور في الرواية وقائع متناقضة تعيشها الشخصيات. فإن كانت مشاعر الحب غير متحققة على أرض واقع الأنثى (فادية مثلا)، فإن الرواية مع ذلك تفسح المجال لذلك الخطاب ليتحقق في بعض مشاهد الرواية (علاقة إيهاب بحبيبته بوسي). بمعنى أن بعض المشاهد لم تتعال عن لغة الحب، وتنشد بالتالي ما يمكن أن يجعل الحياة مثالية أكثر من اللازم، بل إنها تجعل بعض شخصياتها تعيش تلك المشاعر كما هي. وهذا ما يبدو واضحا مع إيهاب وهو يتحاور مع عمته فادية المحرومة من مشاعر الحب حول علاقته ببوسي «مشاعر الحب تحيل الأزمنة إلى طور آخر، يأتلف فيه الخيال بلمسة جميلة من الحقيقة، وتنزلق المعاني في شريان الفكر بدون حساب». نحن هنا نقرأ لصرخات مكتومة ومضمرة أكثر مما نقرأ عبارات تعليمية ووعظية عن موضوع الحب. فمشاعر الحب التي يعبر عنها إيهاب تجعل عمته فادية في دائرة السؤال والإبعاد.. ولهذا تتضح لنا تأثيرات التشظي الأسري الذي حول الأنثى إلى جسد بلا إحساس. فالسرد الروائي هنا لا ينخرط في سؤال (لماذا) بل في سؤال (كيف) أي رصد مختلف أوجه الواقع لتبين تغيراته وتشظيه. ذلك لكون السؤال عن السببية أمرا سيصرف الرواية إلى وظيفة أخرى ليست من صميمها. وبمعنى آخر فإن وصف ما يعيشه إيهاب أو فادية مثلا داخل أسرة أبيسية، لا يحتاج منا معرفة لماذا هم كذلك، ولكن كيف يعيشون الوضع، وبذلك ينفتح سؤال الـ(كيف) على تعدد الاحتمالات والرؤى، ما يجعل فعل السرد منافسا للحياة وليس ناقلا لها. وهنا يبرز دور السرد لخلق موازنة بين وقائع طارئة ونماذج مثالية في الحياة، وهي موازنة اختار لها الروائي تقنية المشهد ليقحم القارئ في المقارنة والقراءة الواعية المفارقة لتمثلات الواقع أو الناسخة له.

مدارات الإضاءة والعتمة

لا تتوقف مشاهد الرواية عند تمثلات الجسد الأنثوي وكذا تمظهرات التشظي الأسري، وإنما تتوغل في مشاهد ثقافية تناقش في سياق متناقض لا تنعكس فيه التقنية والحداثة على سلوك شخصياتها إيجابا، ذلك أن شخصياتها، وفي خضم التحول التقني الحداثي، لا تعدو أن تكون آلة مجردة من إنسانيتها.
ولتوضيح ذلك نشير إلى أن الرواية لم تحاكم شخصية لها شهادات في دورات تدريبية كإيهاب ومحمود، مثلما لم تحاكم واقعهما المادي المزري، ولكنها تدفع بها إلى سياق ثقافي تختبر فيه وعيها وثقافتها ورؤيتها للحياة.
ولعل هذا التناقض هو ما تحاول الرواية الحديثة أن تختبره «إن هذه البيئة المتناقضة هي بالضبط ما تحاول الرواية الحديثة تصويره: فهي تسجل المغامرات السايكولوجية الجديدة التي توفرها البيئة الحديثة، وتوثق تحولات الطبقات الاجتماعية، وتصف مديات المتعة الملازمة للحياة المدينية الديناميكية (الكثيفة الحراك» (جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، ت لطفية الدليمي).
ولأن السرد ينخرط في سؤال السبب وليس في سؤال الانعكاس والمحاكمة، فإنه يراهن من أجل ذلك على ما هو ثقافي ليعكس، بالتالي، تناقضات الوعي ومحدودية السلوك الثقافي عند إيهاب مثلا وصديقه محمود، وقبلهما أب الأسرة القارئ النهم إبراهيم. لهذا سنعاين في الرواية كيف أن نقاش الثقافة يبعد تلك الشخصيات ولو كانت حاضرة في سياقه. وكمثال على ذلك فمدحت وشندي يدور بينهما حوار ثقافي يناقش قضايا العلم والمعرفة ونسبية إنشتاين. وهو حوار يناقش قضايا المعيش والثقافة والفكر، وهذا ما يعبر عنه د. شندي قائلا «لازم نهدم فكرة المطلق الغائب، استراتيجية المركز هي تقديم ورش وندوات للشباب والبنات». ولهذا نجد داخل الرواية تجاورا بين العتمة والثقافة وإدانة مضمرة لوعي الشباب الخاسر الذي لا ينخرط في الثقافة ولا يأبه بالنقاشات الفكرية المنتجة. فإيهاب ومحمود لا يعنيهما نقاش الفكر. وإذا كان إيهاب يحضر رفقة صديقة محمود في فضاء لينجزا ما هو تقني «يصعدان لإضاءة القاعة» فإن هذه الإضاءة داخل الرواية تكتسي معنيين؛ الأول دلالتها على الإضاءة المادية، والثاني ما ترمز إليه من مضادات التنوير والثقافة.
وفي غياب لما هو ثقافي يواكب ما يناقشه مدحت ود. شندي نجد أن محمود وإيهاب ينصرفان إلى الاهتمام بفريق الاتحاد لكرة القدم لرأب هذا الخصاص الثقافي. ولعل هذا الاهتمام الذي يسرده مشهد من مشاهد الرواية يعكس طبقات ثقافية مجتمعية، تتعدد فيها الاهتمامات مثلما تتعدد في ثقافات الأسر المادية والفكرية. ولهذا الاعتبار يمكن تأطير مشاهد الرواية ككل ضمن ثنائية متناقضة بخطابات مناقضة للواقع ولا تعكس فكرها أو انتماءها الحقيقي، إذ لا غرابة أن تنتهي مشاهد الرواية بخطابات مهادنة للواقع توحي في ظاهرها أن شخــــوص الرواية قد تصالحت مع واقعها المتشظي، ذلك أننا عندما نتأمل ما قاله إبراهيم في نهاية الرواية، نجد أنه يعكس تناقضـــا صارخا بين ما عاشه ويؤمن به وما يتلفـــظ به (كلما اتسع القلب.. تضاءلت الدنيا).
فهي مقولة لا تعكس شخصية واعية تتعامل مع الواقع بعقلانية وحياد وموضوعية، وإنما تعكس في العمق واقعا انتهى فيه الفرد إلى آفاق معدومة تستدعي خطابا مهادنا لطمأنة الذات وقبولها، بالتالي، بالواقع كما هو.
ختاما، لقد كتبت رواية «خيط سحري» بتقنية المشهد السينمائي، ذلك لما تميزت به من انتقال مفاجئ بين أحداثها لخرق سيرورة الحدث وخطيته، ودفعها المتلقي إلى استثمار رصيده القرائي للربط بين مشاهدها، ولهذا الاعتبار لا يمكن لقارئ رواية «خيط سحري» أن يتوقع ما يمكن أن يحدث بعد قراءة مشهد ما، ولكنه في الوقت ذاته يمكنه أن يربط بين آخر مشهد وما تقدم من مشاهد روائية سابقة.
فقد استفاد حسام نورالدين من تجربته في الإخراج السينمائي، لكتابة رواية طرحت أسئلة مغايرة في الكتابة، مثلما طرحت أسئلة مغايرة على واقع أسري ومجتمعي مفكك وحداثة مادية آسرة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى