اللبناني يونس الكجك: اللون يستقطب البصر أيا كانت طبيعة الخطوط

الجسرة الثقافية الالكترونية
زهرة مرعي
في معرض «إيقاعات تكعيبية» للفنان يونس الكجك كان حضور لافت للمرأة، بحيث شكلت الآلات الموسيقية رديفاً لها، وليس الأساس. أكثر من 50 لوحة زيتية احتضنها قصر الأونيسكو في بيروت، جسّدت مجموعة الآلات الموسيقية خاصة الوترية، وضعتها في مشهدية متناسقة أو متنافرة. فعندما صمم الكجك على تكعيب الـ»إيقاعات» بات جهده مضاعفاً للتمكن من مشهد يجمع بتآلف بين خطوط حادة وغليظة أحياناً، وبين النغم المرهف الحنون. جمع بين دفء اللون وسطوته، وترك للمشاهد تخيل المواءمة بين القانون وورق الشدّة على سبيل المثال. وحين داهمت خطوط التكعيب أنوثة المرأة خلفت اللوحة ألف سؤال وسؤال. وفي لوحة الكجك لفت التركيب خصوصاً في المائيات ذات الألوان الهادئة.
في معرض «إيقاعات تكعيبية» الملاحظة بارزة بأن صاحب تلك الريشة متمكن في المزاوجة بين ألوانه، فقد بدا وكأن اللون يداهمه بيسر، تماما كفتحة العين، أو كما الانتقال بين العتمة والنور.
في زاوية خاصة حضرت مجموعة رسومات لفنانين وأدباء لبنانيين خطها الكجك بهيئة طابع بريدي. يقول: «الهدف تكريمهم، كونهم مؤثرين في ماضينا، حاضرنا ومستقبلنا. خطر لي رسم تلك الشخصيات عندما خيرتني عاملة البريد في بلد أوروبي بين طابع بريدي عادي لرسالتي، أو آخر يحمل رسماً لشخصية مميزة. اخترت طابعاً لشخصية فنية بعد تصفحي للمجموعة. فلماذا لا نتماثل مع تجارب آخرين في تكريم كبارنا؟ لهذا اخترت عشر نساء، وعشرة من الرجال المبدعين والمؤثرين في لبنان. في النوستالجيا التي نعيشها ثمة شخصيات أضفت غنى وجمالاً وثقافة، لبنانياً وعربياً على حياتنا. فلماذا نغفل حضورها؟ والأمل أن تتبنى وزارة البريد والاتصالات تلك الطوابع».
الموسيقى بشكل عام حالة ودية بين المتلقي والنغم، فكيف نسمع «إيقاعات تكعيبية»؟ هو نوع من تناقض أو تنافر عمل اللون والتوليف التشكيلي على كسر حدته. يقول الكجك: هدفي تقديم الجديد خارج نطاق السيريالية والرمزية اللتين شكلتا بداية لعملي الفني منذ حوالى ربع قرن، فاتجهت إلى المدرسة التكعيبية. نعرف أن تلك المدرسة الفنية شبه معدومة في الوطن العربي، وإن وجدت، فبغير تنظيم. اعتمدت على تلك المدرسة التي أظهرت لي قدرة الاعتماد على اللون بأسلوب تكعيبي. تقنياً أتاحت لي تلك المدرسة تقديم لون نظيف جداً، وهذا كان من أهدافي.
لعب الكجك بهدوء على المعاني والأشكال، حوّل مجموعة من الآلات الموسيقية إلى طبيعة صامتة، في حين أنها تضجّ بالحياة. في تفسيره «الطبيعة الميتة أو الصامتة هي كل ما يتعلق بإبريق، فنجان، ركوة، طبق فاكهة، غيتار وسوى ذلك من استعمالاتنا. هي طبيعة داخلية متاح لي استعمال أدواتها كلوحة، وهذا ما يعني الطبيعة الصامتة. من هذا المنطلق، اخترت أن تكون الآلة الموسيقية عودا، غيتارا أو كمانا هي التي تمنح اللوحة نغماً ولوناً».
حتى الأزهار اعترض طيفها الأنيس جزءا لا بأس به من مدرسة التكعيب. الاشتغال على اللون كان واضحاً، لكنها فقدت شغف حضورها المعهود على النفس. هو حال المرأة حين داهمها التكعيب، فاشتاقت إلى انحناءاتها الهادئة، الشغوفة محيا وقامة. نسأل الكجك: أين حنان المرأة في لوحتك؟ يجيب: في كافة اللوحات العالمية يتميز جسد المرأة بخطوطه المستديرة، والكثير من الانحناءات على صعيد الكتفين، الذراعين، الرأس أو حتى تموجات شعرها. هو أسلوب تفنن به الرسامون مظهرين مفاتن المرأة. أنف المرأة صار قاسياً في المدرسة التكعيبية، وكذلك العين، وصارت الشفاه غليظة. والسبب أن الفنان الأفريقي البسيط الذي لم يكن يتقن قواعد الجمال كان ينحت بالخشب أو الحجر قناعاً أفريقياً، مستعيناً بالبيئة المحيطة. وهكذا ضربات الفنان الأفريقي القاسية في الشعر، الحاجبين أو الفم، هي التي مهدت للتكعيبيين تصوير المرأة بخطوط مماثلة. وهذا ما اعتمدته في اتجاهي التكعيبي. في ما خص الأزهار التي لا جدال في جماليتها، اعتمدت على العنصر اللوني بهدف استقطاب البصر كي يُعجب بجمالية اللون واللوحة ومهما كان أسلوب الخطوط المعتمد فيها.
في «إيقاعات تكعيبية» بدت اللوحات المائية هادئة وحنونة ومهداة لكبار الفنانين في العالم. في مقاييس الكجك الفنية «ممنوع الخطأ في العمل المائي. هو دقيق. الكرتون والقطن متأهبان سريعاً لالتهام اللون، وتالياً يستحيل التعديل. الزيت حتى في حال جفافه يمكن إزالته عبر وسائل عدة. كما يسمح الإكريليك أن نغطيه عبر طبقة ثانية أو ثالثة. مشروعي مع اللوحة المائية يعني إنجازها بالكامل بتقنية عالية، لتكون لوحة ذات بريق، لوناً وإضاءة.
يعتمد الفنانون اسماء للوحاتهم وتاريخ إنجازها. هذا العمر الفني للوحة غير موجود في معرض يونس الكجك. ليس من سبب حتم ذلك بحسب الفنان، إنما يتوقف أمام السؤال ليعلن: أخاف من التاريخ. أحب الوقت كثيراً، وأعتبره العدو الأوحد للإنسان. مجموعتي هذه منذ بدايتها حتى افتتاح المعرض عمرها بحدود الثلاث سنوات. وجود قدر واف من الآلات الموسيقية في معرض يحمل عنوان «إيقاعات تكعيبية» هل يشي بعلاقة ودية بين الفنان والموسيقى؟ يونس الكجك يعزف البيانو معيداً نغمات أغنيات يحبها ويحفظها، لا يمتلك النوتة، بل الشغف.
ماذا عن الحضور الطاغي للمرأة في «إيقاعات تكعيبية»؟ ربما هو احتفاء بالموسيقى والمرأة معاً، فهما صنوان في الذاكرة الغنية بالصور. نعم أكثر من نصف المعرض لوحات لوجوه نسائية، لسيدات، وراقصات منهن عشر راقصات مائيات، الأنثى جوهر الحياة والاستمرار. ولم تخل اللوحة التي تتضمن امرأة من عنصر موسيقي معين.
الذاكرة حاضرة في لوحات الكجك. هو المغترب إلى فرنسا منذ 20 سنة يرى في عنصر «الغربة أذى كبيرا جداً على الكاتب، الشاعر أو الفنان. وبما أنني أمتلك موهبة الشعر إلى جانب الرسم، أنا في حنين يلازمني لبيئتي العربية، خاصة القضية الفلسطينية. ليس من فكاك بيني وبين بيئتي، وفي يومياتي ولحظات حياتي. ووفاء لهذه الذاكرة، زرت قطاع غزة مرتين بهدف تعليم التلامذة الرسم. وفي الزيارتين سجلت في تاريخي وعقلي وعاطفتي أروع تجاربي في الحياة. معبر رفح بحد ذاته تجربة حياة متكاملة، وجوده بشكله الحالي جريمة بحق الإنسانية. ومن المفيد أن يختبر كل من هو قادر على ذلك تجربة الحياة في قطاع غزّة.
هل من تلازم بين القصيدة وخطوط اللوحة وكيف؟ برأي يونس الكجك: الشعر والمسرح معاً كانا سيدي الثقافة اليونانية. الكاتب المسرحي في اليونان كان ركناً من الحياة الاجتماعية. افتخر اليونانيون القدماء بكثرة المسارح في بلدهم. مدرجات اليونان التاريخية الكبيرة تفيدنا بحجم جمهور المسرح في ذاك الحين. يحتاج الموسيقار لأذن تسمعه. ويحتاج الفنان البصري لعين تراه. أما اجتماع الكتابة والموسيقى والشعر معاً في عنصر واحد، فهذا سيثمر برأيي أروع معطيات الفن. هذه العناصر الثلاثة اعتمدها في حياتي المهنية للوصول إلى لوحة غنية لوناً، ونتمكن معها من سماع اللحن وقراءة الشعر.
المصدر: القدس العربي