اللغة الحية في ديوان «غداً تلقاهْ» لعبد اللطيف شهبون

بدر الحمري
أما آن للإنسان المعاصر، الناسي، أن يبحث عن لغة، تستكشف جغرافيته المنسية فيه، ويطير بأجنحتها إلى قلب المعرفة الصافية؛ فلا يراها أحد أو يدركها، إلاّ من كان له قلب راسخ في تجربة الذوق الحي؟ ألا يمكنُ أن يكون الشعر أفقاً لهذه اللغة الحية الصافية، التي تنهلُ من معين الجمال والجلال الإلهي، المتجليّ في حضرة الوجود وحضور دلالة الموجودات في قلب الشاعر؟
جواباً عما سبق، نستحضر ديوان «غداً تلقاه» للشاعر المغربي عبد اللطيف شهبون وهو ديوانه الرابع، ويقع في 111 صفحة، بعد «كما لو رآني» ( ط1-2008، وط2-2010)، و«ذاتي رأيتُ» (2008)، و»إليك انتهيت» (2010))، فكلمته الشعرية تمتدُّ في النّص الكوني بما هو لغة حيّة، تفيض بالإشارات والعبارات، فتحت أبواب الامتداد في التجربة الروحية الحية، التي تتبدى بين معاني الديوان، حتى إن قراءته تجعلنا نطرح السؤال التالي: هل الشعر فعل روحي؟ وحقيقة الجواب تكمن في النص، وما يتركه من آثار عميقة في هوية القارئ الروحية، بما هي ذاكرة تحفظ لحظة الإشهاد الأول، حين شهد الإنسان شهادته الكبرى في وجوده الغيبي. وهنا أنشد الشاعر في قصيدته «إشهاد»: نغمةٌ نفذت لمسامع أفئدة / أسكرتها/ فقالت بلى/ رفع الحقّ عنها الحجب/ فسرى السر فيها/ جمالا/ جلالا/ وأصداء بوح/ ونور/ كيف جّلى الغطاء/ وأخفى سرائره/ في عيون النهى والقلوب؟
إذا كانت قراءة النصوص الشعرية – بصفة عامة- مهمة صعبة، فما بالك بالنصوص الشعرية الصّوفية الغارقة في الرمز، ورمز الرّمز، لا شكّ أنها نصوص صعبة جداً، نعتبرها نصوصاً بكرا، لا لشيء سوى لأن لغتها حية، تمتح من معين التجربة الذوقية الصافية، وليست لغة ميتة، تمتح من كتب السير والأعلام والطبقات، يغيب فيها الذِّكر والكلمة، جنياً إلى جنب مع ذات الشاعر المشتاقة إلى اللقاء، والمتشوقة إلى رؤية صاحب اللقاء، أو قل إنها تجربة حيّة تحتمل الوصول إلى المراتب الأولى من التجارب الشعرية. ويمكنُ أن نقول بدون مجازفة، إن لغة الشعر الحية هي ما يشكل روح الأدب.
حتى إن وصفنا ديوان عبد اللطيف شهبون بالصوفي، ففي ذلك إجحاف بحقه، لأن الشعر الصوفي اليوم يمكنُ أن يكون كاتبه قد طالع – فقط- دواوين كبار الصوفية الشعراء من أمثال آبن عربي، السهروردي، الحلاج، الششتري، الذين تشرب شعرهم من معين التجربة التخليقية الحية، ولم يكتفوا بمطالعة نصوص صوفية، أو إن شئت قلت، انّ كتابة هؤلاء ليست كتابة نظرية مجردة، كما يفعل أغلب من يكتب في التصوف اليوم، بل إنها كتابة مؤيدة بالتجربة الجمالية الحية؛ لأن الفرقة الأولى تكتب الشعر الصوفي لا من معين التجربة الحية، وإنما الأمر كما قال محمد الحافظ الروسي في مقدمة الديوان «لا يعدو تزاويق لفظية، واستنجاداً بالتراث لملء فراغ المخيلة، وفقر الروح، وضعف الإبداع، واعتماداً على تجارب روحية لا يكاد الشاعر يعرف منها إلاّ كما يعرفُ السائح عن خفايا الأماكن، ومجهول الجهات من خلال قراءة خريطة كتبت بلغة لا يعرفها، رمت بها المصالح المختصة، بعد أن تغيرت الطرق والمعالم، فوجدها على قارعة الطريق مهترئة، ففرح بها غاية الفرح، وظنّ أنه لا يحتاج إلى مخلوق في الوصول إلى مبتغاه». لكن، في ديوان عبد اللطيف شهبون، ملامح التخصيص الذوقية التي تنهض بها قصائد كبار الشعراء الصوفية، الذين غرفوا من مقامات السلوك، فكانت مصطلحاتهم عين اللغة وحياتها، وليست مصطلحات غرفت من تقليد هؤلاء، أو حتى مِن تقليد مَن قلَّد هؤلاء. مسألة أخرى يمكن الإشارة إليها، تتعلق أساساً بهوية متلقي الشعر الصوفي، من يكون؟ لا شك أنه يختلفُ عن نظيره، ليس اختلاف رتبة، أو أفضلية، وإنما هو اختلاف تجربة ذوقية لا غير؛ لأنها تمهدّ الاستعداد الفكري والجمالي لفهم نصوص شعرية تكادّ تؤسس لنفسها نمطاً خاصة من الكتابة.
ومهمة الناقد، كمتلق، أمام هذه النصوص لا تتلخص في مدى امتلاكه للأدوات المنهجية والمعرفية الضرورية لفهم النص الشعري الحيّ، من أجل إدراك آفاقه الرّوحية؛ وهي أدوات تبتعدُ بالضرورة عن التجريد المنهجي، أو التأويل المجرد من قيم المعرفة الصافية التي تنهلُ منها القصيدة الصوفية، بل إنّ الناقد أمام هذه النصوص يرى نفسه- بداية – متلقيا خاصّا، ثم بعد ذلك ناقدا مميّزا، متى أدمن الاطلاع والتفكّر في المقاصد السنية، التي يسير فيها قلبُ أبياتها الشعرية، متى سلب عقله وقلبه أمام مرآة ملكوته، تَدبِّر فلم يُدبرْ، أو هو على الأقل الباحث عن حقيقة الكلمة الحية.
إننا نتأمل في ديوان «غدا تلقاه» لغة الشاعر المشتعلة بأنوار التجربة الحيّة، وما احتوته تركيبتها الكيميائية الصعبة، وإذا كنا لا نريدُ أن نسأل الشعر عن قيمه الإنسانية الروحية، فلماذا يعدّ هوية الكائن الجمالية؟ وهل يمكنُ للشعر أن يهرب من هويته وشكله التاريخي الأول، يوم كان يحنّ لأصله ويتحدث بلغته الفطرية؟
إنّ لغة الشعر الحيّ، كما هي في نصوص عبد اللطيف شهبون عموماً «كيمياء السعادة»، قبس من المواقف والمخاطبات التي فاضت من تجربته الروحية صحبة الشيخ حمزة، قدس الله سره، حين طلب الشرب، متوجها إلى مذاغ شرق المغرب، حيث أنشد في قصيدته «شربتُ مما سقيتُ»: أنا ظمآن/ أنهلني موارد/ خمرة الغيب/ غزاني الشين بالعيب/ مناي الأنس/ يا حبي/ مرادي القرب/ يا طبي/ ألا يا سيدي/ اصرفني/ عن أوحالي/ وصحح لي/ بكم حالي. أليس الشعر أقرب إلى سجدة الرّوح في ملكوت المعنى؟ كم هو صعب أن يكتب السالك عن سلوكه شعراً، وليس الخبر كالعيان، وليس من قرأ كمن شربَ؛ فاللغة عادة ما تقف حاجزاً أمام بلوغ المقصود، لذلك فتجربة التخلق الروحية للشاعر، منحته نبعاً صافياً للكتابة الشعرية، وهوية لغوية صوفية صافية حية، بأسئلتها ورجائها واشتياقها للحقيقة، جعلته يجري مجرى كبار المحبين، مع العلم أنّ الشاعر الصوفي شاعر عالمي بالضرورة، من منطلق القيم القرآنية التي يربي عليها التصوف، والتنوير الروحي الذي يدعو إليه. ومع العلم أن هذا التنوير هو الغائب الأكبر في الفكر الإنساني اليوم، لما حققته المادة من غزو نفوس وقلوب وعقول الناس أجمعين… إلا قليلا.
(القدس العربي)