المحكي الشعري من منظور جان إييف تادييه

ميلود بنباقي

يلامس جان إييف تادييه في كتابه: المحكي الشعري le récit poétique2 الذي صدرت طبعته الأولى عام 1978، جنسا أدبيا (إن صحت التسمية) ملتبسا، لا يفصح عن هويته بسهولة، يقع في منزلة بين القصيدة والرواية، هو المحكي الشعري.
ولد هذا الجنس الأدبي من رحم ظاهرة تداخل الأجناس الأدبية، واختلاط بعضها ببعض، خصوصا مع بداية القرن المنصرم، حيث انتهكت «حرمة» المواثيق الخاصة بكل جنس على حدة، على يد كتاب كان هاجسهم تجريب أشكال كتابية جديدة تستأثر باهتمام النقاد والقراء، وتذهب بالإبداع الأدبي إلى حدوده القصوى، مثلما فعل جويس في كتابه: «عوليس» الذي يمكن قراءته قراءتين مختلفتين، كرواية وقصيدة.
دعا تادييه نظرية الأدب إلى البحث عن مفاهيم وحلول جديدة تواكب الطفرة النوعية في مجال الإنتاج الأدبي، من خلال تجميع العناصر المشتركة بين النصوص الأدبية لاستنباط القواسم التي توحدها، وكذلك من خلال التنظير للأنواع الأدبية الصغرى، على غرار ما قام به تودوروف في صياغته لخصائص الرواية العجائبية كنوع داخل الجنس الروائي، أو ما صاغته سوزان برنارد عن قصيدة النثر كنوع داخل جنس الشعر.
يتخذ تادييه من الوظائف الست التي صاغها ياكبسون منطلقا لمقاربة موضوع الأجناس الأدبية التي لا تفرقها اختلافات كبيرة وحادة، بقدر ما يفرقها كم الوظائف الممثلة فيها ودرجة حضورها. والمحكي الشعري من هذا المنظور، تتنازعه وظيفتان أساسيتان: الوظيفة المرجعية المتمثلة في المضمون، والوظيفة الشعرية المستندة إلى الشكل والمحتفية باللغة باعتبارها غاية في حد ذاتها.

شخصيات المحكي الشعري:

يفضل السارد في المحكي الشعري، الحديث بضمير المتكلم. وهو سارد غير واضح وغير محدد على المستوى النفسي والجسدي. أما باقي الشخصيات، فظلال وأشباح مبهمة الملامح، ليست لها صفات واضحة، لأنها نابعة من الحلم، لا من الوعي أو الإدراك. ماضيها مجهول، وعلاقاتها معقدة وغير واضحة، وقد استحوذ حضور السارد الرئيسي على حضورها ووجودها داخل النص. السارد الرئيسي مستلب، مذهول، غير مسؤول، يخلق عالما لا وجود له إلا في مخيلته وتصوره الخاص، ما دام لا يرى سوى نفسه، ولا يؤمن إلا بما يدور في ذاته وكيانه الداخلي. ويظل عالم الطفولة أثيرا في المحكي الشعري، ونتيجة لذلك، يتولد البطل الطفل، وتبقى باقي الشخصيات مشدودة بقوة إلى طفولتها لا تستطيع الفكاك منها.

المكان

يجعل المحكي الشعري من المكان عنصرا شديد الارتباط بالشخصيات، إلى درجة أنه يصبح بطلا بدوره. والمكان بحسب تادييه، لغة وليس نقلا أو تقليدا أو محاكاة لفضاء موجود بالفعل، سريع ومجزأ أو متقطع. مكان يتم ترميزه بكثافة، لا يحمل سمات شعورية أو اجتماعية، ولذلك يحجم الكاتب/الشاعر عن وصف أمكنته، من أجل أن تحافظ على طابعها الرمزي، وهذا ما يرفعها إلى درجة الأبطال في النص.

الزمن:

موازاة مع ثنائية الأمكنة الحميمة والأليفة، والأمكنة الغريبة الموحشة، تبرز ثنائية أخرى، هي ثنائية الزمن السعيد والزمن التعيس. وينتج عن تقطع المكان، زمن متقطع كذلك. ويقود ارتباط الشخصيات في المحكي الشعري بتمفصلات الزمن وتدفقه وانسيابه، انمحاء الحدود الفاصلة بين السرد والوصف. فيغدو الوصف الذي ينعت عادة بأنه توقيف لدورة الزمن المتدفق، مرادفا لحكي المرئي، أو حكاية الزمن المتوقف. زمن المحكي الشعري كثيف وغني، وهو ما يفسر حرص هذا المحكي على الاختصار والابتعاد عن الإطناب والتفصيل، والقفز على اللحظات، وتداخل الأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل). وبذلك يغيب التاريخ الذي يحضر بقوة في الرواية الكلاسيكية.
يخلق المحكي الشعري أشكالا تناسب تقطع الزمن وعدم انسيابه. فالإيجاز يمكّن من القبض على تلك اللحظة الفارقة والمدهشة. ويشترك مع الشعر في ميله إلى التكرار وإيقاف تدفق الكتابة وخطية القراءة.

البنية:

يرى تادييه أن الوظيفة الشعرية تهيمن في هذا المحكي على سائر الوظائف. ومن ثمة تبرز الأهمية التي يوليها للشكل. ويمتلك المحكي الشعري بنية نثرية، لكنها شعرية أيضا. فهو يستفيد من إمكانيات الشعر والنثر معا، مع تحرير هذين النمطين من الكتابة، من القيود المفروضة عليهما. فهو في حل من خطية السرد كما هو الحال في الرواية، وهو كذلك في حل من أحد أهم أسس الشعر، وهو النظم.
المحكي الشعري متعدد البنيات، فهو تارة دائري البنية أو ثابتها، حيث يلغي الزمن وينغلق السرد على نفسه، فيعتقد القارئ بألا شيء حدث، سوى تلك الجمل التي تواجهه، فيشعر بالملل ويفشل في البحث عن الجديد. وتستدعي هذه البنية قراءة تقفز على خطية السرد لفك الرموز. وهو تارة أخرى، جدلي البنية، حيث حضور التأمل والانفعال ومساءلة الظواهر، وتأويل الوجود تأويلا مختلفا عن السائد. وهو طورا، ذو بنية تتخللها البياضات والتشظي توحي بالعبثية. وهذه البنية، حسب تادييه دائما، هي الأنسب للمحكي الشعري، وأكثرها ارتباطا به. ويقر هذا الناقد بصعوبة تحديد بنية المحكي الشعري أحيانا، بسبب الشعور بتجمد الزمن ووقوفه في نقطة معينة، وغياب الحبكة الروائية الكلاسيكية، وتشظي الحدث لصالح الوصف والمجازات والاستعارات.
يقارب تادييه علاقة المحكي الشعري بالأسطورة، فيرى أنه يشبه المحكي الأسطوري، ليس فقط لأنه يستلهم الأساطير ويوظفها، بل لأنه يستخدم بنيات رمزية لفهم العالم وتأويله، حتى أنه يصبح أسطورة بدوره. يوظف هذا المحكي الأسطورة بكثافة إغريقية كانت أو غير إغريقية، مع تحميلها معاني وإحالات جديدة. ويستعمل تادييه الأسطورة بالمعنى الذي حدده مورسيا إلياد، من حيث هي حكاية مقدسة جرت في زمن قديم، أبطالها وشخصياتها فوق طبيعيين، وتسعى إلى تفسير طقوس الإنسان وأفعاله في جانبها المثالي.
يوظف المحكي الشعري الأسطورة باعتبارها شكلا من أشكال المعرفة يختزن الذاكرة، ويفجر طاقة الخلق والإبداع في حدودها القصوى. ويجنح هذا المحكي إلى الأسطورة من منطلق أن المحكي الواقعي يعجز عن تفسير العالم ويتعامل معه كسجن أو عالم مغلق. فالرواية الواقعية مثلا، تقدم معنى واحدا للعالم، على خلاف المحكي الشعري الذي يسبغ عليه دلالات متنوعة وغنية كتلك التي توجد في الرموز والأساطير. ومن هذا المنطلق، وجب التعامل مع هذا المحكي وفق هذا التعدد الدلالي، وعدم الاكتفاء بالمعنى الحرفي الذي يضمر وراءه مجازات وتأويلات قد لا تطفو على السطح.

اللغة:

إن ما يميز المحكي الشعري عما سواه من المحكيات، هو اللغة. فهو يتميز بالحضور القوي للمجاز وبالكثافة الصوتية العالية، مع عدم إيلاء كبير عناية للموسيقى أو الإيقاع اللذين يظلان جزئيين، لكنهما يكمنان في كلية النص وفي بنيته العامة. يستبدل المحكي الشعري القافية والتقطيع بتقوية البنية الصوتية، من خلال اللعب الصوتي بالمفردات، واستعمال الجناس، وجعل المفردات ترديدات لبعضها بعضا. الشيء الذي يضمن العلاقة الصوتية والموسيقية بين الجمل والفقرات. ولا يقتصر الأمر على هذا الجانب الصوتي فقط، بل يتعداه ليشمل حقل الصور الغني والمكثف الذي يستعين به المحكي الشعري ليضمن شعريته، وينأى بنفسه عن الخطاب المباشر التقريري. وتؤدي الصورة في المحكي الشعري خمس وظائف أساسية هي: التخييل، ودغدغة اللاشعور، وزعزعة المعنى المباشر، وتكثيف الدلالات، وأخيرا خلق علاقة خاصة.

هامشان:

ناقد فرنسي ولد عام 1936، متخصص في أعمال مارسيل بروست، كتب عنه عدة أعمال منها: «قراءات بروست» (1971)، «بروست والرواية» (1971)، «سيرة مارسيل بروست» (1996)، «بروست: كاتدرائية الزمن» ( 1999)، «من بروست إلى ديما» ( 2006).
Le récit poétique، منشورات غاليمار، طبعة 1994.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى