النَقد الفوتوغرافي العربي… وفرة اللَغو وغياب المنهجية

محمد حنون

في كل شهر، يتم نشر عشرات المقالات النقدية والقراءات الفوتوغرافية في الصحافة الأجنبية المتخصصة، وغير المتخصصة، سواء كان ذلك في المنشورات الورقية أو على الشبكة العنكبوتية. تتميز جميعها ودون استثناء بالمنهجية البحثية؛ التي تتكئ على المفاهيم الجمالية والفكرية الفلسفية، بالإضافة لتلك المفاهيم التي تتعلق بشكل مباشر بالمعطيات البصرية الفوتوغرافية للصور التي يتم تناولها، وبالخلفيات التاريخية لنشأة الفوتوغراف ومدارسه.
لا أذكر أنني قرأت مقالة واحدة عشوائية، أو مقالة محشوة باللَغو والادعاء المعرفي النقدي الفوتوغرافي. في كل مقالة، أستطيع أن ألمس الفائدة، وأن أجد فيها ما يمكن أن تضيفه لي معرفيا وجماليا، فثمة منهجيات نقدية فوتوغرافية مُؤثثة بالمعرفة والتجريب. في كل مقالة أوقن أكثر بأنه لا أحد يستطيع أن يقدم نفسه كناقد فوتوغرافي، أو حتى ككاتب لقراءات فوتوغرافية، دون أن يكون مسلحا برؤية منهجية للذي يريد قوله، ولما يريد أن يوصله للقارئ .
ثمة احترام ونقد للذات، وثمة ثقافة نقدية وذائقة بصرية راسخة، لدى النقاد أو الذين يكتبون في الفوتوغراف؛ وحتى لدى القارئ والمتلقي، وهو تحديدا ما يشكل خط دفاع متين ضد مدعي الكتابة النقدية الفوتوغرافية، أو مدعي الكتابة الاستقرائية للأعمال الفوتوغرافية. فذائقة القارئ والمتلقي؛ اللذين يهتمان بالكتابات الفوتوغرافية وبفن الفوتوغراف، هي ذائقة مُؤسسة على تاريخ من قراءة الكتابات الفوتوغرافية الجادة والرصينة، ومؤسسة على ثقافة بصرية فوتوغرافية عفية لا تحتمل التزييف أو المجاملات، ما شكل لدى المتلقي والقارئ وعيا فنيا وجماليا لا يمكن المساومة معه. بالإضافة لوعي القارئ والمتلقي، لا تجد في الغرب مصورا أو مصورة، يطربان لقراءة كتابة هزيلة ومدعية عن أعمالهما، حتى لو كانت مليئة بالمديح، فهو أمر يعتبرانه إساءة لهما وليس احتفاء بأعمالهما! فلا يتمكن أي مدع للكتابة النقدية أن يجد سبيلا لنفسه من خلال الإطراء والمديح. ثمة وضوح في التعامل مع مثل هذه الكتابات، ودون مجاملة، ودون إقامة أي اعتبارات للعلاقات العامة و المصالح الشخصية الضيقة .
سنوات طويلة والوسط الفوتوغرافي الفني والنقدي في الغرب؛ يعمل على تأسيس ثقافة فوتوغرافية واعية، سواء في الوسط المتخصص أو لدى المتلقي، ما جعله وسطا منيعا ومحصنا من مدعي الكتابة الفوتوغرافية الاستقرائية، أو الكتابة النقدية الفوتوغرافية، وهو ما يعني بالضرورة، وكنتيجة حتمية، تحصين الوسط الفوتوغرافي من مدعي التصوير.
في بلادنا، ولسوء الحظ، لا نزال نتخبط في العتمة، نبحث فيها عن ملامح لمنهجية تلائم واقع الفوتوغراف العربي ومنظومته الأخلاقية والفكرية. ليس لدينا بعد ثقافة نقدية فوتوغرافية راسخة، ثمة قراءات صحافية فوتوغرافية ليس أكثر، وهي قراءات لها أهميتها في صفحات الثقافة والفنون، وفي إطار العمل الصحافي وتغطية الأنشطة الفوتوغرافية، أما النقد الفوتوغرافي بالمفهوم المنهجي النقدي الجمالي والفلسفي فهو غير موجود، ناهيك عن عدم وجود كتابات استقرائية حول التصوير الفوتوغرافي. لَم نقدم حتى اللحظة ما يمكن وصفه أكاديميا بالنقد الفوتوغرافي العربي، ولم نؤسس لقواعد نظريات نقدية فوتوغرافية، نابعة من واقع الفوتوغراف العربي وحيثياته الثقافية والفنية والفكرية، وحتى الاجتماعية.
فعلى الرغم من وجود كتابات حول الفوتوغراف منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، في مصر والعراق والمغرب العربي، إلا أنها لم تؤسس لمدارس نقدية فوتوغرافية عربية، ولكنها عملت فقط على توثيق الحراك الفوتوغرافي، وأرَّخت كذلك لنشأة الفوتوغراف في الوطن العربي، دون القيام بتحليل وتقييم وتشريح الأعمال الفوتوغرافية العربية نقديا، حيث أن التركيبة الاجتماعية العربية، ونسيج العلاقات وطبيعتها قد حالت دون وجود مثل هذا النقد.
ثمة عوائق أخرى كثيرة تمنع تأسيس مثل هذا النقد الجاد والراسخ في مجتمعاتنا الفوتوغرافية العربية بشكل عام، وفي الأردن بشكل خاص، أهمها أن المجاملات والمديح الفني اللذين يتكئان على العلاقات العامة، والمصالح الشخصية، يسيطران على جانب كبير من واقع ونسيج المجتمع الفوتوغرافي بمؤسساته وجمعياته وأفراده، حيث تقوم هذه الجمعيات والمؤسسات بتقديم بعض أفرادها كنقاد فوتوغرافيين فنيين، لأسباب تتعلق بالتكتلات والشللية وكسب الموالين، ودون أن يكون لديهم أدنى خلفية أو منجز في هذا المجال، ما يجعلهم يستسهلون الأمر وبالتالي يقدمون كتابات تتسم باللَغو الفوتوغرافي. يقومون بإعادة مضغ عبارات ومصطلحات وقوانين، ووضعها في سياقات مرتبكة وفي غير مكانها. والأسوأ من ذلك، هو إخفاء الكتابة النقدية الهزيلة بلغة شاعرية مبتذلة وغير ضرورية، لا تنصف الصورة أو المصور، ولا تضيف أي قيمة تحليلية أو نقدية للمادة.
من العوائق الأخرى التي تقف في طريق تأسيس وسط فوتوغرافي عفي من الناحيتين العملية والنقدية، هو أن ثمة مصورين ومصورات، الذين أصبحوا أكثر عددا في العصر الرقمي، غير معنيين بإشكالية غياب النقد الجاد في الصحافة، وغير معنيين بإشكالية الكتابة الهزيلة في الفوتوغراف في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي الكثير من الأحيان يكونون جزءا من الإشكالية، حيث أنه ليس لديهم أدنى مشكلة في استمراء المديح، حتى إن كانت تتناول أعمالهم بشكل يفتقر لأبسط أسس النقد والاستقراء، في صفحات إلكترونية، تمنح الألقاب والعضويات والشهادات والدروع الرقمية الوهمية، وكذلك الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية للصور.
على الرغم من أن مواقع التواصل الاجتماعي قدمت الفرصة للوصول للتجارب الفوتوغرافية الأخرى، التي تتصف بالرصانة والاحترافية، ولكنها أصبحت كذلك مصدرا لتكريس الممارسات الرديئة فوتوغرافيا ونقديا، حيث يتفاقم فيها ترويج الرداءة الفوتوغرافية، وتضخم الأنا لدى مصورين ومصورات بلا منجز حقيقي، حين تنهال عبارات المديح والثناء على صورهم، التي أقل ما يمكن وصفها بالعادية والمستهلكة. والحديث هنا ليس فقط حول مصورين هواة، بل بعض أولئك المصورين والمصورات يعملون في الساحة الفوتوغرافية منذ سنوات، ولكن دون تطوير للذات والرؤية الفنية الفوتوغرافية، إلا ما منحتهم إياه التطورات الرقمية للكاميرات وبرامج المعالجة.
لتأسيس بنية تحتية حقيقية، وتأسيس مجتمع فوتوغرافي عفي، يجب أن يتم الكثير من عمليات الهدم والتجريف، فلا أحد يقوم بالبناء فوق بناء متهالك ومهترئ، أو البناء فوق أساسات مختلة، فالفعل الأول في البناء في هذه الحالة هو الهدم. يقول الفيلسوف هيدغر، «الهدم أمر إيجابي لأنه يكشف الزيف»، لذلك وفي سبيل التغيير وتحريك المياه الراكدة، لا بد من فعل واضح ومباشر، فالمجاملات ومديح الصور الرديئة والعادية، والتغاضي عن الخلل في الممارسات المؤسسية، والتغاضي عن السرقات الفنية والتزييف في السير الذاتية والمنجزات الفوتوغرافية، لاعتبارات اجتماعية وشخصية ومصلحية، هي من الأمور التي تجعل واقع الفوتوغراف أكثر سوءا، والتي تجعل واقع الفوتوغراف على ما هو عليه في الأردن، وفي الوطن العربي، وهو ما يمنع حتما محاولات التغيير والبناء.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى