الوثائقي «حبيبي بيستناني عند البحر»: آلام فلسطينية تبدأ في مخيم اليرموك في دمشق ولاتنتهي في القدس

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سليم البيك
المصدر / القدس العربي
حبيبي بيستناني عند البحر»، اللهجة التي ترنّ في عنوان الفيلم، وتحديداً كلمة «بيستناني» الفلسطينية بامتياز، والعفوية التي يشي بها العنوان، يناسبان طبيعة الفيلم الوثائقي للمخرجة الفلسطينية ميس دروزة، يناسبان أولاً التلقائية التي نسمع فيها أحاديث لفلسطينيين في الفيلم، وثانياً سيرَ الفيلم الذي ينتهي عند البحر حيث ينتظر الحبيب حبيبته (الحلم وتحقيقه)، عند البحر حيث بدأ الفيلم، وقبل بدئه حيث حلّت فكرته، من غرق الفنان الفلسطيني حسن حوراني، ثم ينتهي الفيلم أخيراً على بحر عكا مع أولاد يقفزون أمتاراً عالية إلى بحرهم.
الفيلم الذي يُعرض حاليا ضمن جولة على عدّة مدن فلسطينية سيكون آخرها بيت لحم في 16 يناير/كانون الثاني، يجمع بين الواقعي والشاعري، الواقعي لما يصوّره من توثيق لشهادات فلسطينيين من أكثر من مكان، شهادات حقيقية وآلام عاشها الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه، والشاعري لما يرويه هؤلاء، لمضمونه، فالشاعرية في الفيلم تصلنا من أفواه المتحدّثين، مما يروونه من أوجاعهم وأحلامهم كفلسطينيين، كلٌّ من مكانه. تضيف على ذلك دروزة الفكرة الأساسية التي أتت بالفيلم، وقد تشكّلت أساساً من جمع بين الشاعري والواقعي.
الفكرة هي قصّة حسن حوراني، فنان فلسطيني وُلد في الخليل، ذهب مرّة كما في أمنيات الكثير من أهالي الضفة الغربية، إلى الساحل الفلسطيني، هناك في بحر يافا نزل إلى البحر ولم يخرج، غرق. أحلام/أمنيات يقتلها واقع بتحقيقه لها، هو المصير القاتل للحب، فتخلق شاعريّة ليست غريبة على الفلسطيني وواقعه. من هنا بدأت دروزة فكرة فيلمها، فأتى الفيلم كنوع من سير على خطى الأحلام/الأمنيات الفلسطينية، بدأ بلاجئ فلسطيني في مخيم اليرموك في دمشق حيث سنعرف تنويعة الآلام التي يعيشها الفلسطيني، آلام تبدأ بابن المخيم ولا تنتهي عند آخرين موزّعين على الأرض الفلسطينية.
بلهجة فلسطينيي سوريا، وفيها ما يميّزها، نسمع هموماً يشاركها معظم فلسطينيي المخيمات خارج الوطن، (وذلك قبل المآسي الفلكيّة التي أوقعتها الحرب – حصارُ النظام وقصفه – في سوريا على أهالي المخيمات هناك)، هموماً شاهدناها كذلك في فيلم ممتاز هو «عالم ليس لنا» لمهدي فليفل الذي صُوّر في مخيم «عين الحلوة»، هي هموم لا تخلص بغير منفذ واحد، الهجرة، ترك المخيم وحالة البؤس فيه إلى أوروبا، نسمع الشاب هنا يقول بأنه وصل لمرحلة ما بعد بعد بعد الإرهاق واليأس والإحباط، مضيفاً أنه انتهى من الإحباط منذ زمن، أنه عاشه كلّه وصار الآن بعيداً جداً عنه. هو والكثير من شباب المخيمات الآن يعايشون هذه المرحلة.
ينتقل الفيلم إلى داخل فلسطين، كنوع من ممارسة فيلميّة لرحلة العودة، حيث يبدأ في اليرموك في سوريا، وينتقل إلى الداخل، في الضفّة فالقدس فيافا فعكا.
في رام الله، نلتقي بسيّدة في مخبز تنتظر طلبها من المناقيش، تحكي عن نوع آخر من معاناة الفلسطيني، هي عدم السماح لابنها بالقدوم إلى البلد لا عبر مطار بن غوريون ولا عبر الجسر في الحدود مع الأردن، رغم حمله جواز سفر ألمانيا، تقول بأنه مُنع من القدوم حتى كضيف ألماني.
في القدس نلتقي بشباب، وبتنويع في الآلام يحكي أحدهم بأنه يكره شرطياً إسرائيلياً يراه كلّ صباح، يكرهه لأن الأخير يتبسّم في وجوه الفلسطينيين، يقول الشاب إنه يريد أن يكون الاحتلال أكثر عدائية بشكله الصريح، وإنه يكره الشرطي مفتعل الابتسامة أكثر من آخر يجبره على إظهار هويته دائماً ويعامله كما يتوجّب على المحتل أن يكون، وذلك كي يتذكّر يومياً أن الاحتلال موجود ولا بدّ من مقاومته.
شاب آخر يحكي عن معاناة أهالي القدس في الإبقاء على ملكيتهم لبيوتهم وعلى محاولة دولة الاحتلال الدائمة لمصادرتها أو منحها بطريقة ما ليهود، ثم إلى آخر في مخيم العروب في الخليل، يحلم بالبحر، بالالتقاء به وإن كان يتوجّس من إمكانية الغرق فيه، لحينه يكتفي بالجلوس على سطح بيته في المخيم وتشغيل أصوات الأمواج والنوارس من مكبّرات صوت، مطلّاً على الجدار الإسرائيلي.
ثم إلى عائلة صغيرة في الناصرة، يقول الرجل بأن الحلم هو أن يزرع شجرة برتقال، إنّما من المفترض أن يكون ذلك عملاً عادياً نقوم به هو وغيره كل صباح، فحلمنا هو أن نكون طبيعيين، كغيرنا، أن تكون لنا حرّية كغيرنا، هذا حلم لدى الفلسطيني، لكنه واقع لدى الآخرين.
في يافا يقول أحدهم ساخراً بأن إسرائيل لم تُبق أي بيارة برتقال في المدينة، وأن لا عروس بحر هنا. آخر في يافا كذلك يقول بأن الحق لا يضيع وأن «عروس البحر» هنا قريبة، وأنه فعلاً الشارع المطل على البحر، يتحدّث بشغف وبعيون دامعة، يؤكّد بأن الشارع كان ممتلئاً بالناس والأسواق والحياة، عارضاً اصطحاب الكاميرا إلى هناك. ينتهي الفيلم في عكا، مطلّاً على البحر، كمآل الحلم الذي يراود فلسطينيي المخيمات والشتات والضفّة، رأينا أحدهم في أوّل الفيلم، وينتهي كحلم أراد حسن حوراني تحقيقه فانتهى غريقاً في واقعه/واقع بلاده، هو حلم تحوّطه أحلام أكثر تفصيلية ويوميّة كزرع شجرة برتقال في يافا، كإقناع الناس فعلاً بأن عروس البحر، واقعاً، في يافا وأنه شارع امتلأ بالحياة قبل الاحتلال، وملأ الناس بها، كحلم التقاء أم بولدها المهاجر إلى ألمانيا، كحلم الشباب المقدسيين الثلاثة الذي قال أحدهم بأنه يصير ملكاً لمدينة القدس في الثالثة فجراً عائداً في الطريق الخالي من الاحتلال، من عمله إلى بيته.