بخور عدني لعلي المقري… صهر إنساني للأديان والأعراق

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد السلام كوكش
المصدر / القدس العربي
ينشد الروائي اليمني علي المقري في روايته الأخيرة «بخور عدني» ـ دار الساقي، إمكانية التعايش السلمي بين مختلف الأعراق والأديان، مضيفا إلى ما حكاه في روايات سابقة تتعلق في الفكرة ذاتها، مسألة أخرى تتناول إمكانية الوطن البديل، بعيدا عن وطن اكتوى بنار الحروب.
هناك في عدن، تدور الحكاية خلال مرحلة تاريخية مهمة تمثلت في الحرب العالمية الثانية، حيث كانت المدينة اليمانية تحت الانتداب البريطاني وقتذاك، حاملة طابعا تعدديا لافتا، بعشرات اللغات والديانات، إذ يلتقي فيها المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، ويسكنها العربي والإنكليزي والفرنسي والتركي وغيرهم، في تركيبة غريبة أراد منها الكاتب صهرا للهويات، تقابله هوية واحدة هي العدني، التي ذكرها الكاتب مرارا على لسان بطله أيشي.
عند أيشي مربط فرس الحكاية، فهو الفرنسي الأعرج، الهارب من الحرب، الحامل لاسمين تنتهي الرواية ولا نعرف أيا منهما له، فهو فرانسوا أو ربما ميشيل، هو الأعرج أو السليم، هو الطالب للحرب أو الهارب منها، هو على أي حال بلا هوية، حتى في حبه لشانتال التي اكتشف أخيرا أنه ليس الوحيد الذي بدأ معها أولى خطوات العشق، لكنه أحد أربعة آخرين.
هذه الشخصية المثيرة للجدل، تفتح لنا أبواب الصراع المرتبط بالوطن ومعناه، فـ»أيشي» وإن حاول نسيان بلاده فرنسا، إلا أن عقدة الذنب المتمثلة بفكرة الخيانة طالما ترافقه، فضلا عن البحث المطول في فكرة الوطن، وإمكانية بديله من حيث مدى نجاعتها، وقدرتها على التعويض، وتحطمها مع التطورات التي يمكن أن تصيب المكان الذي اخترناه بديلا. فعدن التي اختارها أيشي لكوزموبوليتيتها، لم تعد كذلك بعد الحرب، حيث بدأ صراع الديانات، وتفاقم خصوصا مع المسألة اليهودية، بعد ضياع فلسطين، والانتقام من يهود عدن بطردهم منها، وأصحاب الطرق الأخرى بدأوا بهجرتها خوفا من متشدديها.
كل ذلك يصيب فكرة التعايش في مقتل، ويطل علينا بعدن جديدة بعد الاستقلال عن بريطانيا، بوجه قاتم رافض للآخر، مهددا إياه بالموت في أي لحظة، كما حصل مع اليهودي الذي أحرق بيته مجبرا على الهجرة التي كان لا يفضلها. من هارب الحرب، يتحول أيشي إلى مستشرق، يبحث في وطن لجأ إليه عما يثبت استيطانه فيه، فمتطلبات العمل تجبره على قصد اللغة العربية، ليتعلمها على يد العارف، ليكون أيشي بعد ذلك عربي اللسان، قارئا لعدن قديمها وجديدها، منجزا تصوره عن الحياة العدنية، عبر عشرات السنين التي يعيش فيها داخل المدينة المتقلبة على جمر التغيرات، منخرطا في خضمها حين يلزم الأمر، ومنصهرا فيها كما البخور العدني على الملابس في عادات العدنيين، حيث يأكل من أكلهم، ويتزين بأزيائهم، ويرى رقصاتهم ويتعلم ويسمع أغنيات عدن وموسيقاها ونفحاتها الدينية.
في بخور عدني، يُصَوّرُ الإنسان كنقطة مفصلية بعيدا عن أي اعتبارات أخرى، ويكون الواعز الإنساني أجدى من أي أفكار أو معتقدات دينية، فالحب مثلا يكسر حواجز الدين، ورسائل العشاق التي كتبها أيشي بيده تشي بحكايا ولهٍ دارت بين مختلفي المذاهب والأعراق، حيث يبدو العشق هنا، كجرعة مهمة للتغلب على داء الاختلاف الديني، ما ينتج مجتمعا مدنيا يؤمن بالإنسان بعيدا عن أي إيمان آخر.
ولعل أشد ما يمثل الإنسان في رواية المقري، شخصية المطربة شمعة، التي اجتمع العدنيون على حبها والهيام بصوتها على اختلاف معتقداتهم، بغض الطرف عن يهوديتها التي أجبرتها لاحقا على هجرة عدن.
إلى جانب شخصية أيشي، تظهر ماما كبطلة تمثل أحلامها أفكار بطل الرواية الفرنسي، فهي الحالمة دوما، والمؤثرة بأحلمها بالسارد أولا وبالمجتمع ثانيا، مثلما ظهر في رؤيتها للملكة البريطانية وهي تزور عدن، فيتحول الحلم إلى خيال جمعي للعدنيين الذين يقصون الحكايا حول الزيارة، فيعدون عدتهم ويزينون المدينة بالأعلام متيقنين باللاواقع الذي سكنهم جراء حلم.
لا نهاية لبخور عدني، فالكاتب لم يشأ أن ينهي نفحاته فهو على لسان البطل – الذي صار لقبه العدني مثل من سبقه إلى هذه المدينة- يقول في خاتمة مفتوحة: «لا أعرف هل أبقى أم أمضي. فما لي أذهب من دون عدن وما لي أبقى من دون ماما، سأتبع قولها» إن عدن ليست سجنا له جدران وباب واحد، عدن بحر.. بوابة من البحر إلى البحر لا يمكن لأحد أن يغلقها». لكنني لم أعد أعرف من أكون أنا فيها.. من تكون أنت؟ هل ستعترف في الأخير بما لم تعترف به من قبل؟ من قال لك إن الوطن كذبة كبيرة، هل صدقت أن الوطن وهم».