بعد إصدار روايته الأولى «التين البري»: جميل إبراهيم: ثقافتي عربية وكتابة رواية بالكردية مغامرة

ابراهيم اليوسف
أثارت باكورة أعمال الروائي الكردي جميل إبراهيم، ابن مدينة قامشلي، الصادرة عام 2016 العديد من الأسئلة حول واقع الرواية المكتوبة باللغة الكردية الأم للكاتب الكردي، ماذا عن عوالمها واستفادتها من البيئة والتراث الكرديين، ضمن معادلة حداثيتها وعلاقتها بالواقع وأسئلة المتلقي وغيرها.
في روايته» التين البري» التي يصل عدد صفحاتها إلى 300 صفحة من القطع الكبير، والصادرة مؤخراً عن إحدى مطابع ستوكهولم، ضمن سلسلة منشورات جريدة «القلم الجديد» عن الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الكرد في سوريا ـ يقدم جميل إبراهيم أوراق اعتماده روائياً، كامتداد لكتاباته بلغته الأم إلى جانب مقالاته وتحليلاته المكتوبة باللغة العربية، التي ظهرت وتظهر لاسيما خلال فترة اشتغاله في الصحافة الحزبية الكردية والشأن الثقافي.
شغل إبراهيم مواقع قيادية في أحد أقدم الأحزاب الكردية، قبل أن يستقيل من العمل الحزبي ويتفرغ للشأن الحقوقي، محاميا وعضوا في إحدى المنظمات الحقوقية الكردية، ورئيسا سابقا لأول منظمة بيئية كردية، مرافعاً عن المعتقلين أمام المحاكم السورية. وهو يعكف الآن على ترجمة بعض الأعمال من اللغة العربية إلى لغته الكردية الأم، كما أنجز مخطوطاً معدا للطبع في أدب الرحلات بعنوان «رحلتي إلى السليمانية»، إلى جانب الكثير من الكتابات في مجال الشعر والسرد. فكان معه هذا الحوار..
■ لماذا كان عملك الروائي الأول بلغتك الأم/الكردية؟
□ الكتابة باللغة الكردية، أشبه بالسباحة في مياه دافئة، سلسة وهادئة، أشعر معها بلذة أكبر، وأجد فيها نفسي بقوة وبكامل الهيئة. من جانب آخر، وهو الأهم، أرى بأن المكتبة الكردية فقيرة بالقصة والرواية، ما يتطلب رفدها وإغناءها. لزمن طويل كنت أكتب باللغة العربية، مقالات إعلامية وسياسية وفكرية، لكنني لم أجد فيها ما يعبر عني كإنسان كردي، كنت وما زلت أشعر فيها وحيالها بشيء من الغربة، أو من تغيير المكان، وأحياناً بأنها ليست سوى ترف فكري لا غير.
■ ماذا عن الرواية وعوالمها؟
□ أردت أن أنقل من خلال هذه الرواية، صورة أقرب ما تكون إلى الواقع عن نمط حياة ومعيشة جزء من شعبنا الكردي في المنطقة الواقعة بين مدينتي ماردين ونصيبين، في القرن ما قبل الماضي ــ الربع الأخير من القرن التاسع عشر ــ حياة الناس العاديين والبسطاء بكافة جوانبها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية، والعلاقات القروية والعشائرية، بحلوها ومرها، وصراعاتها وتوافقاتها وتناقضاتها. حاولت جاهداً أن تعكس هذه الرواية، إلى حد كبير، صورة تقريبية للمجتع الكردي بشكل عام آنذاك، وامتداد ظلال بعض مفاصل الحياة الأساسية في تلك الفترة إلى المراحل اللاحقة لها، فأغلب الأحداث تدور في قرية «سريجكي» الواقعة غرب مدينة نصيبين بالقرب من طريق الحرير الدولي. والحدث الأول هو صراع بين واحد من أشجع رجال القرية وذئب يعترضه ليلاً، ثم يهبط شخص آخر من منطقة أخرى ضيفاً على القرية لعدة ليال، عند زعيم القرية (حسين آغا)، كان الضيف قد تعرض في قريته لمكيدة اضطر معها لقتل ابن عمه وزعيم قريته، فهجر القرية وكل أقاربه. وهناك تحدث مكيدة مماثلة من بعض رجال (حسين آغا) ينشب صراع بينه وبين ابن عمه (خليل آغا) زعيم القرية المجاورة، إثر إقدام (حسين آغا) على قتل شقيق (خليل آغا)، وتنتهي الرواية بمصرعهما، إذ يقتل كل منهما الآخر في عراك وجهاً لوجه. تتخلل هذه الأحداث قصص تعكس عادات وتقاليد الناس آنذاك وسبل معيشتهم، وطرق تفكيرهم وتعاملهم، قصص عن الشجاعة والدهاء والمكائد، وعن الحب ومغامرات عاطفية أخرى.
■ كيف تنظر الى الأدب الكردي المكتوب باللغة العربـــية؟
□ الأدب الكردي المكتوب باللغة العربية، أو التركية، أو الفارسية، مع كل الاحترام والتقدير للكتاب وجهودهم وإبداعاتهم، هو أشبه ما يكون ببيض الدجاجة التي تقتات من قوت مالكها وتضع بيضها في سلة أو قن الجيران، وأحياناً يشعر المرء بأن نتائج سلبية كبيرة تتمخض عن ذلك، فالكتابة بهذه اللغات الثلاث، تغري القراء من أبناء شعبنا بالإقبال عليها أكثر والعزوف عن القراءة باللغة الأم، لكون هذه اللغات هي لغات التعلم والدراسة في المدارس والجامعات، ونتائج ذلك معروفة وغير خافية، أقلها انعكاس ذلك سلبياً على القراءة والكتابة باللغة الأم، وحتى على التحدث بها، وإن ذلك يحد ويعيق تطور اللغة الكردية والثقافة الكردية.
■ ما تأثير الآداب غير الكردية في كتاباتك؟
□ ليس خافياً أن دراستي كانت باللغة العربية، وكذلك معظم ما نهلت كان من الثقافة العربية، حتى نتاجات الآداب الأخرى قرأتها مترجمة إلى العربية. أكثر من تأثرت بهم من الأدباء العرب كان نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم، كما كنت مولعاً بالأدب الروسي والفرنسي والإنكليزي المترجم، وقد قرأت مؤلفات الكثيرين من أدبائهم مثل تولستوي وتشيخوف وهوغو وباسكال وشكسبير وهمنغواي وغوته ونيتشه وغيرهم كثير. لاشك أن لكل هذه الآداب والأدباء الكبار الأثر البالغ عليّ.
■ كانت لك علاقات مع مبدعين كرد من أمثال: جكرخوي، تيري، ملا أحمد نام، وكلش. ما الذي يمكن أن تذكره عن هؤلاء وغيرهم من جيل الرواد؟
□ في صيف عام 1963، وكنت وقتها طالباً في الصف السابع، عكفت على قراءة الديوان الثاني للشاعر جكرخوين في خفية حتى من أهلي، وكنت أجد صعوبة في ذلك لعدم اتقاني للقراءة بالكردية، وبقراءتي تلك، وبعد جهد جهيد تعلمت قراءة قصائده البديعة، عرفته فيها شاعراً عملاقاً، قومياً صادقاً حتى النخاع، مناضلاً ثورياً لا يلين، ومضحياً بلا حدود، إضافة إلى أننا كنا نستعين به في العمل الحزبي، خاصة النشاطات الجماهيرية. أما تيريز، وهو عمي، فإن ذكرياته لا تعد ولا تحصى، ما لا أنساه هو أنني منذ أن كنت صغيراً جداً كان يتلو عليّ بعض قصائده المفضلة لديه، وأنا في الرابعة أو الخامسة من عمري، فأحفظها بعد سماعها منه لمرة أو مرتين. ولاشك في أن ذلك ترك أثراً عميقاً في نفسي، وجعلني أكتب الشعر مبكراً، وخلق لدي ميلاً للأدب والكتابة. ملا أحمد نامي هو والد زوجتي، لم أتعرف عليه ولم ألتقه في حياته، فهو كان مثل رفيق دربه جكرخوين قومياً خالصاً، متفانياً في خدمة قضية شعبه، متميزاً في الاهتمام بالجيل الجديد ورعايته وإعداده جيداً، أشعاره تدل على مشاعره الرقيقة وحسه المرهف وحبه اللامتناهي لشعبه ووطنه. أما كلش فقد عملنا معا في هيئات حزبية لسنوات، وسكنت في داره ثلاث سنوات، أعتقد أنه امتهن كتابة الشعر وأجاد فيه في سن متأخرة، ومع كل الأسف كان ككثير من الشعراء غيره عاثر الحظ دائماً، قليل التوفيق في عمله.
■ عملت في مواقع متقدمة في أحد الأحزاب الكردية المعروفة، غير أنك تركت العمل السياسي متفرغاً للكتابة، كيف تقوّم العلاقة بين المثقف والسياسي؟
□ في البداية أجد من الأصح أن نستبدل في هذا السؤال كلمة الحزبي بالسياسي؛ فقد تركت العمل الحزبي بعد أن وجدت أن تحولاً كبيراً قد طرأ على هذا العمل، أو أنني اكتشفت ذلك متأخراً، ففي بداية الانتساب الحزبي كان الهاجس الأساسي لديّ، وأفترضه لدى الغالبية العظمى من أمثالي، هو الدافع السياسي القومي، المتمثل في رفع الظلم والاضطهاد عن كاهل شعبنا، وتمكينه من نيل حقوقه القومية المشروعة، ولذلك كنا نبذل في سبيل قضية شعبنا هذه أقصى جهودنا وكل الإمكانيات المتوفرة لدينا، لكنني تركت العمل الحزبي لأنني لاحظت منذ فترة، أن الدافع أو الهم السياسي القومي لدى القيادات الحزبية ينحسر إلى زوايا ضيقة وهامشية مهملة، ويبرز بدلاً عنه العمل الحزبي والعصبوي الضيق والمقيت، ورأيت وعايشت كيف كان يتم تقديم المصالح الحزبية والشخصية الضيقة على مصلحة القضية القومية، وكيف بات (القادة) المهيمنون على الأحزاب يشجعون ويكرسون ما يمكن تسميته بعبادة الشخص أو التبعية العمياء له، بدلاً من قدسية القضية والإخلاص لها وتقديم المصلحة القومية على غيرها، وكان هذا من أسباب الانقسامات الحزبية المتتالية وغير المبررة، لذلك فإن القيادي الحزبي من هذا النوع يخشى المثقف الحقيقي، ويبتعد عنه، أو أنه يبعده عن (مملكته الخاصة)، ويفضل مدعي الثقافة وضعاف النفوس والانتهازيين، ونتيجة لذلك نجد أن المثقفين الحقيقيين بعيدون عن التنظيمات الحزبية وخارج أطرها، إن لم نقل إنهم غالباً ما يكونون على غير وئام مع الأحزاب.
■ إلى أي حد كنت تصالح في ذاتك بين السياسي والثقافي؟
□ هذه المصالحة غير واردة في الوقت الحاضر، ولاسيما مع التركيبة الحالية لأحزابنا الكردية (السورية). بالنسبة لي كنت على الدوام أضع كل ما نهلت من ثقافة ــ ولا أدعي أن ثقافتي واسعة وكافية ــ في خدمة العمل السياسي الذي كنت أؤديه، لاعتقادي أن الثقافة سلاح السياسي الأساسي، وأن المثقف سنده القوي.
■ ثمة تبدلات فكرية هائلة حدثت وقناعات سقطت، كيف تنظر إليها الآن؟
□ في الكثير من المراحل والفترات تحدث تبدلات في مختلف المجالات، ومنها التبدلات الفكرية، ولكن لا يجوز لنا أن نخضع الفترات السابقة لمعايير الفترة اللاحقة، كما لا يجدر بنا أن نتشبث بما فات أوانه ونتزمت ونتهرب من متطلبات ما تغير وتبدل، فالأفضل إبداء المرونة الكافية حيال كل ما هو جديد ومفيد، لكل مرحلة تبدل أفكارها ونظرياتها، ولا شك أن كل تبدل يحمل في طياته إيجابيات وسلبيات، يجب التعامل معها بواقعية وموضوعية كافيتين. فإن لم تسقط القناعات والأفكار السابقة لا تولد الجديدة، فتلك القناعات والأفكار السابقة كانت جديدة بالنسبة لما قبلها، ولربما تم اعتبار ولادتها ثورة تجديدية تركت آثارها العميقة على مجمل نواحي الحياة، ولا غرابة في أن يتم اعتبار التبدلات الأخيرة أيضاً ثورة تجديدية لا مثيل لها، أو نعمة حررتنا من تبعات ما قبلها، وهكذا.
■ كيف تنظر إلى مصير الإنسان الكردي بعد كل هذه التحولات؟
□ التحولات الأخيرة تسببت للشعب الكردي في بعض الأضرار في بعض الأماكن، لكنه على صعيد قضيته العامة حصل على تقدم ملحوظ، وأعتقد أن الأيام المقبلة تبشر بالخير.
(القدس العربي)