بلاغة الاشتعال في ديوان «رغوة الغيب» للمغربي محمد الشيكي

الجسرة الثقافية الالكترونية

#اسماعيل هموني

ما بين الرغوة والغيب الكثير من التلاشي، الرغوة رضاب يطوف وفقاعات تعلو ورهان على زمن ينزلق سريعا نحو الانطفاء، لكن سمتها الابتهاج والالتذاذ والتسويغ. والغيب، ما توارى عنا قسرا وما لا نعلمه يقينا وهو ما وراء الطبيعة، سمته المفارقة والإيمان به ضرورة لأهل اليقين، وسمته الخفاء والمجهول والاقتراب منه بصيرة يحقق التفيؤ بالرهان المستحيل. ولأن الشعر وحده من يحقق المصالحة مع المفارق واللايقين، فقد جاء ديوان «رغوة الغيب» منشورات وزارة الثقافة ـ المغرب 2013 محققا لهذه الحدود، ومتخطيا لنواميس القيود، أي أن المنجز الشعري فيه محقق بالمفارقة والمغايرة، لا بالمشاكلة والمشابهة. فكل شعر ينحو نحو الاختلاف ينَّسب المعنى ويُصَير القول الشعري مفتوحا على منطق الاحتمالات. فكل معنى يصبح مخصوصا بما يشتغل به في منظومة القول الشعري، ويذوب شيوعه في الاستعمال الجديد. أي أن الأصل في المعنى الإرباك، وليس الاستواء. عندها يكون النص مشكاة من الدلالات المتنوعة، وفاكهة شهية للتأويلات.
أما بلاغة الاشتعال، فلن تكون سوى الرؤية التي نحقق بها الاقتراب من «رغوة الغيب «، والإنصات لما يمور به النص من تجويفات، وإمكانات للإصغاء. فالبلاغة لم تعد زينة توشي أرتال الكلام، ولا هي توصيف لتواشيح القول بجمالية التحليل، ولكنها عين ثانية تنسرب منها محاليل الجمال لتذوب في كأس النص، وعندها تتقاسم البلاغة والنص جمالية الإبداع.
أما الاشتعال، نورانية التصوير في القول الشعري، في التقاط مؤشرات نصية تحدد ماهية الرؤية الشعرية في النص، أسلوبا ولغة ومفارقات وتَسانُد مكونات وتضافر عناصر بلاغية وغير بلاغية. والاشتعال محمل برضاب صوفي لا تخطئه العين، أي أن القصيدة في بعدها الإشراقي إتحاف للناظر والوجدان الباطني وعمقها الداخلي طبقات من شهي القول ونمير المفردة. بهذا البعد القرائي
المتواضع نتواشج مع النص الشعري للشاعر محمد شيكي عبر أيقونات ثلاث: اشتعال الذات، فتنة الاشتعال، مقام الاشتعال.

اشتعال الذات
للذات حضور لافت في شعرية محمد شيكي، تجليه حيازة قابضة للكينونة. فالذات ليست مجرد لون رومانسي يتغني بوجدانه النمطي، ولن تكون انحسارا خائبا في اليأس والبكائية الممعنة في البكاء أو الترمد في حواشي الطبيعة. الذات هنا فاعلية شعرية ترسو على وجود فائر، وحركية ذائبة لا تستقر على حال، ومستقبل يتمدد من كون غائم وغائر في زمن ينفلت من حاضر مر، وماض مذبوح. فتكون ذاتا منحازة للضوء ومنتمية للحب، تجوب الظلال وتعبر الجهات في ما غير مواربة. أي ذات تعي فعلها وتحدد شرط حكايتها. ذات تقبض على معناها الخاص في صوفية تزكو عند الكأس وتفيض عند الورع.
هذا الاحتراق الذي يتجاوز الاشتعال إلى اللوعة والمثابرة على صيرورة الفناء، هي ذات ترحل في التقلب بين الرحلة والراحلة. الذات هنا مشيئة شعرية تعبر الفيض إلى قيامة النور:
من مدخل بــابي فيضي
من بين قبابي فيضي
من غيم سحابي فيضي
فيضي مني فالفيض كتــابي
فالفيض هنا تشكل نوراني من الاشتعال المشكل لرؤية الشاعر، أي التبجس من وخز الألم والارتداد من مخاض الفراغ والتوجس من واقع فاقع، وهتك سديمية الألوان، فيجيء الشعر/الاشتعال ضد الانبطاح والتدنيس، فالذات في اصطلاء وصلاة. اصطلاء بنار :
«جند هولاكي» تمزقت النجوم من طول صولته،
وصلاة غضب ترتوي من «مجمع الألوان» :
يا مجمع الألوان، قتلت ما تاه عنه البحر من غضب»
تطرز الذات اشتهاءاتها الرافضة للّعنات بما تشعله في وعيها من الحرص على المقاومة وعدم الانكفاء إلى الوراء، أو المطاوعة للكائن المهيمن على صوت الشاعرالمبحوح.
للذات أن تشتعل كـ»خيط من القش يربطني بالكلام…»
يرتق نظمة الكون، ويحدد صيغة الاشتعال
يا سيد النار أوبعت اشتعالي
أو غللت يدي لأرسم بعض الضفاف بمداد الرعاف
بحجم نزيف المـرايـــا..»
لأن الموت يقين، يكون الاشتعال ضدا على الخسارات، وجسارة ضدا على الرهبوت. هو الاشتعال حين يفتح باب التحدي، ويؤجج ثورة الجرح، مانحا للمعنى أن يتوالد من عتبات الغضب،
« كن ما تشاء، لكن جبنك يا سيد النار
لن يقتل المزن الذي يزدهي بقشيب الهواء
يغرس في الأفق عمق التجدد
قل: إنك الآن خصمي وخصم السماء
لماذا تصادر صوت البلابل تحرق صك الدعاء
وتدعو انتشائي إلى خمرة الليل تحت رماد الفنــاء»
لن أطاوع في البلاد يدا، تقايض بالركوع مدامعي
أبدا، أطاوعها يدا تغتال عشبي
أوتحاصر فرحتي «
هذه اليد الآثمة التي تغتال فرحتنا بالجرح النازف وإطالة أمد البكاء، لن يكون الاشتعال إلا تمردا فجائعيا، يروم كبح الموت بالموت، مادام الموت أرقى أشكال الحياة. فيحضر الاشتعال نوبة من حياة.
«وأقتفي أثر اشتعال العشب
في الأفق النضيـــــــــر «
هذا اشتعال يتخطى مساحات الجغرافيا، ليشمل آيات من نسغ الحياة في العشب، وفي أفق يتمدد عميقا في وميض الماء. أي أن الاشتعال ليس خمودا بُعيد لهيب حارق، ولكنه اشتعال حياة ينبثق من رماد الممات، عبر علامات مائزة تكون القصيدة مهجعها ومرساها، القصيدة حين تعلن دندناتها التي تشرب من الحياة اللهيب والشرارات
«قصيدتي مضجعي، ولهيبها يكفي جيوش مقاتلي دددن ددن،
وشرارتي غطت فضاء رجامهم، سقطوا إذن دددن ددن..»
هذه القصيدة مدرج العشق وحالة التمرد والتفرد ترقص كما يكون العشب انتصارا للحياة، وديمومة التحول قصيدة بحجم الأرض مسكنا للوجود، فيه يعبر الوقت مسافات من الوجد مادام الزمن الذي يكبر هنا لا قياس لوحداته، إلا بما تخلفه القصيدة من أثر جمالي في وجدان العشب:
«تمشي القصيدة، وانبعث جلاجلا، ورنينها ملأ الوجود
بوحدتي وتفردي في العشق
يا أرضي الحبيبة زغردي»
إن القصيدة لا تلبس صوفية الاستسلام والتسليم بعلوية القضاء والقدر، القصيدة هنا قضاء وقدر، وتخط طريقا جديدا للتصوف الذي يتطاول عن التزلف أو المسخ الشائه. القصيدة اشتعال الذات في معرفة حقيقة الإنسان العارية إلا من حب وثني للأرض، ينفجر فيه الصمت عن صمته. ويتحول فيه الزمن عن عاداته السلبية

«يا زمنــــــــــي،
أحرقت أنساغ الأماني في نـزوة الصحو وكنت لها اللهب،
صيرت من لدغ انكوائي رمادا من رفاتي وكنت لها الحطب..»
أن تعيد الذات اشتعالها من خلال تدوير زمن القصيدة، يعني أن الشاعر يعي لحظته الإبداعية، حي في تمام سكرته، واقف في هبوب اللهب، وهو يحتطب وقود اشتعاله من أودية مماته. هنا يكون زمن الاشتعال ممتدا في البلاغة، وقائما في الكلمات، محايثا للوعي الشعري لدى الشاعر. يمتلك الجرأة على الإفصاح، والقدرة على التفسير، رافضا التدثر بالمجاز الأعمى الذي يطيل مرحلة التأويل.
ويرتقي النص زمنه الشعري موسعا من دائرة التبصر، كي يغزو أعماق القارئ، ويعيد تشكيل أعماقه، مثلما تكون كتابة النص إعادة لتشكيل اللغة. إن اشتعال الذات تشكيل لطبيعة اللغة، وتحويل مساراتها الوظيفية والتعبيرية والجمالية إلى مقصدية ذات الشاعر بما يقتضيه الجهد المبذول في بنية الديوان، وتفريغها حسب رؤية شعرية تتوق إلى تشكيل للغة، وللقصيدة نفسها..

2 – فتنة الاشتعال
فتنة الاشتعال حقيقة الانتماء، انتماء للضوء والحب والأنثى. أي أن فتنة الشاعر لا تكون من أجل حد يتلاشى بعبور زمن الافتتان، لكنها فتنة يجوس خلالها القلب والديار ومدارج الحياة. تبدأ الفتنة بالنداء:
«يــا فتنتــي،
اشتعلي بالحب حتى تضيئي مواويلي،
أومضي في ذبيبي،
أوقدي في الجـوى،
أنت الهـوى
لما استوى في شذى عينيك تبحر منيتي «
ينتعل الشاعر فتنته مجاهرا بالحب، هذه الفتنة الجنوبية الهوى، لا تهادن في حرارة النداء. ولأن الفتنة لا تكون إلا في غواية التأنيث عمد الشاعر إلى تمديد الوجدان لتصير الفتنة (يا طفلتي)). حين تتجاسر الفتنة والتأنيث تصير اللغة غاية في حد ذاتها، ويكون المعنى رهين الرغبة، أي نشوة التأصيل في نشوء القول. كأن الكلام أول البدايات، لم يخترق من ذي قبل، اللغة تحب بكارة المعنى.
والفتنة تشتد حين يمور السؤال في كون الشعر «صديق» الافتتان. أي أن الطفلة / الصديقة ليست « شخصا خارجا، وليس ظرفا ولا مثالا تجريبيا، هناك تكون الفتنة مشيئة تعبر خرائط الوقت إلى انتماء الطين.
« امتدي – عبر الخرائط كلها
وانتعلي، جنوب بابي الخلفي، سيري نحو نزع مشيمتي»
إن فتنة الاشتعال في تواطؤ بين الغياب والحضور، بغية تشريح الحلم والواقع، وفصل الحياة عن الموات، ففي فتنة الاشتعال تكون كل الجهات قيامة الظل والماء، وتستوفي الحكاية عرافها لتكون القصيدة مرتع التأنيث. «إن كنت أنت شفاهي فأفصحي»، وحده الشعر يفسر الشعر، لأن الفيض ينبوع «الكأس العشيقة «، والمعنى سليل الجرح، وفورة الاغتراب.
« الفيض مس هفهفة ارتعاشي.(……
قلبي أنا شمع يضيء سواد جوانحي»
هذا التلاشي في مصير الاشتعال يجسد صلات الذات بالتعدد، أي أن الهوية الشعرية للذات لا تنفصم عن مبتغاها الجمالي الذي لا يتحدد بانتماء لغير الجمال الذي لا هوية أصلا له. فالجمال محو للانتماء الضيق، شساعة في الأفق، فيه تتشظى الأنا إلى ما لا نهاية له، بحيث تغدو الذات صنيعة ذاتها فحسب. وهنا يتحقق شرط الكتابة بالافتتان، لا بالانتماء الجدلي للمكان أو الزمان. شرط الكتابة هنا أن يكون الشعر مشيئة تبتلع الألوان وتغالب الحجب والإغلاق وعنف الإطمار، تلك هي الفتنة النشوة، الغاية منها التجلي في سكرة الكلمات، ومعاقرة نبيذ الجمال. فتنة التوحد بالانثى، والذوبان في جلال الانجذاب : كأنه أنثى الربيع، وليس لي غير التوحد بالجمال… فيكون الضوء خارجا من عناصر الطبيعة والتوحد بها، هذا الضوء الذي يجيء من دواخل الروح، في تفاعلية بين العناصر والأنفاس، تتلبس القصيدة فيها أشياء الوقت، وتكبر دوائر العشق:
أضيئي بالعشب قصيدتي، تهفو إليك رشيقة وقشيبة كأنها الشهادة ساعة الموت، أو هي الحياة حيث يبدأ الرحيل/ السفر إلى تشوف أنضر من «ألق الشهيد».
3- مقامات الاشتعال

مقامات الشعر مدارج الروح، حيث يقوم خيط دقيق منسدل بين البوح والمقام. حين يشف القول وترسو دوائره على دقائق الحال، تكون الكتابة في أعسر مضايقها، وتروم اللغة أقصى كهنوتها. فيأتي الحرف مشبوبا بين المقامات والاشتعال. تتسع المقامات، وتضيق العبارة لتكون الإشارة أخصب وأندى، وتطفو على المجاز نذوب القهر واليتم. أي أن المقامات تكون أكبر من أعطاف العبارة، وأن الاستعارة أضيق من عيون المحارة. لكن اللؤلؤ مخبوء بين النفث ودبيب البوح. فتعمر المقامات بالأسرار والتسارر، ويفيض القلب من عزلته حتى يترقرق من عطشه المعتق في خوابي الوقت. والمقامات في «رغوة الغيب» ثلاثة:

3.1- مقام التشرد/ مقام الزوابع:
التشرد اجتراح للمحال، وظل مستباح، فيه يمد الشاعر يده للريح، فلا تصل أبدا للقلب، أبدا تلبس الوهم ويتقلص حجم المعنى إلى ما دون العطب. هل المقام المعطوب دليل السبيل المطلوب..؟ الإرباك في المعنى والتوتر في الرؤية حمية الاشتعال حتى تتوالى الآيات الصغرى (الخضرة، الرحيل، الرياح…). هذه الأعطاب الأولى مدارها التيه، أي الخروج من غفلة الظل إلى سهو المقام، والسهو هنا مطلب يُعشي العين، ويغشى الروح، كأنه صلاة التأمين. فلا مقام للشعر من غير أعطاب، بها تعرف أصالة القول من زائفه. في التشرد يكون الإفصاح عن الماهية والهوية والكينونة. هذا التشرد الذي يزف زوابعه بالتياع اليتم. أي من لم يخرج عن سطوة الإتباع لن يكون له مقدار في الإبداع. فالتشرد آية صغرى للعبور إلى فحيح الريح.
«واهم سفر المدى
ريشة عجلى
تدور تائهة في فلك الرياح
فكيف لا يأتي الدوار إذا تسامق الشجر الكثيف
ولم تطوق ما استباح الريح منك، ولم تكن لغة
تماهيت في دبيب روحك الأخرى لظل لا يدور….»

3.2- مقـام الرقــص/ رقصة العشب :
لا يكون الوهج إلا بالرقص، أي لا تظهر الدواخل إلا بالجذبة. فيها تزهر مباهج الرؤية والعشب. فالعشب هنا رؤيا حالمة تروم تحويل واقعها إلى خصوبة مضيئة تلاحق العتمات.
«ها العشب يرقص في إيقاع قصائدي دددن ددن
متفاعلن، متفائل بسنا جمال غوايتي
بضحى نهار الحلم في عيني غــــــــدي…».
لم تكن الغواية غاية لذاتها، ولكنها مفتاح للحلم الذي يغوص في الغد. الغواية اشتعال للآتي وإنارة للمعتم في الحياة. وهي تفرد في تشكيل رؤية ممانعة للسقوط ومقاومة للانهيار. لأن القصيدة حياة وحركية تنتشلنا من «فداحة السكون والدوار (….) وتعزز التبَصَّر ببواطن الزمكان» . فالمقام هنا شاهد ومشهود:
«كن ولها نورانيا،
واجعلني مرقاة صعودك نحو الأرض
حتى أكون الظل، أو شاهدك الأوحد…»
نورانية الاشتعال عروج إلى المعنى المطلق الذي سكتت عنة المشيئة، صعود إلى الأرض التى تظل مظلمة بفعل الرتابات، واجتراح التيئيس. فيجيء صوت الشعر كاشفا للولاءات ومنتصبا ضد المرارات.

3.3- مقــام الوجــد/ الكــأس العشيقة:
هو مقام صامت تباشره اللغة بالاجتراح والانخطاف والجنون، كأن الوجد لا يكتمل من غير تربص بالعقل، التحرر من سطوته الواجفة. أي أن الجنون رديف المغايرة والمخالفة وليس امتناعا عن التعقل. والوجد وإن جاء ممهورا بالعشق، إلا أنه حالة من الفيض التي تتجاوز حد القيد العقلي وتطول مقاييسه الصارمة.
« يا رب الجنون لم رصعت أشفار الجمال على أبهى رداءات الشموس
أودعت في رحم الظلام سجية القمر العنيد «
هذا الجنون المتلبس الذي يسكن مواطن الجمال والقابع في سجايا الكون المنير، هو نفسه الذي يسلب الشاعر «عقله» الذي يبدو شاحبا أمام إدراك مصيره. فيكون الجواب: ( سمعا). أي طوعا، ولبيك، حالة ينتفي فيها العقل، وتتوارى شكوكه، ويظهر بؤسه الفج. ولأن الوجد عطش أبدي في مقام الكأس، عشق ملتهب في حالة الجذبة، يأتي النداء مبتهلا:
« يا سيدي،
شذب برفقك شطحته الظمأى إلى الكأس العشيقة».
لا يمحو العطش سوى الماء، ماء الدواخل الذي يعبر أحراش الجسد، ويعلو فيض المجانين. ولأن الماء مطلب عزيز في صحراء الوجد، يستمر اللهب، وتمتد عوامل التصحر الداخلي التي تؤوب إلى عالم ما وراء الطبيعة. عالم الغيب المكنون، والمكتنز بالأسرار. عالم أول معارجه الوجد، وليس العقل. مقام الوجد شهوة العطش فيها تحرق الشمس أذيالها المتبقية في «شبق الكلمات». الكلمة أنثى في هذا المقام، أي أن العشق حين ينوجد في الذات، لا يتناسل، بشكل دائري، إلا حين يتغلغل في الكلمات. فالصياغة اللغوية محكومة بالتجلي الصوفي في حضرة الذات العلوية، كأنها تتوق الى أصلها العلوي المفارق. وهكذا يلجأ الصوفي في التعبير عن ذاته إلى لغة الإشارة الخفية، وإلى بلاغة التجريد الذهني التي تقرر واقع حال الصوفي، وتلامس عمق الهزة الباطنية التي خضت دواخله.

4- خـلاصات :
ينتهي بنا السفر بين ثنايا «رغـوة الغيـب» إلى عناصر بلاغة الاشتعال ومكوناتها التي تؤثث الأبعاد الجمالية والرؤية الشعرية والتساند الفني في كل نصوص الديوان. ونجمل هذه الخلاصات في: اشتعال الذات دليل حركية، ومور وجداني يتفاعلان مع واقع لا يرتفع، ويسموان عن الترهل والتراخي: ممانعة ومقاومة. فجاءت اللغة تشكيلا جماليا أنيقا، وإيقاعا مدروسا باذخا، وتحويلا من التواصلية إلى الشعرية: مفارقة ومخالفة.
– فتنة الاشتعال نداء داخلي يتحرر من سطوة الموت، والسعي إلى حياة أنقى. فتنة تروم التعدد في الذات والمشيئة في التقدير والسعي نحو الأعالي. وباتت العبارة محك الاشتعال، والإشارة دليل الافتتان.
– مقامات الاشتعال، باب الكتابة عبر :
– مقام التشرد، للقبض على الريح في أعطاب صغرى.
– مقام الرقص، جذبة الروح لتكون الغواية ممانعة للسقوط بين يدي «سيد النار»، واختيارا للولاء المطلوب.
– مقام الوجد، فيه اللغة إشارة أبلغ، والجنون أعقل، والكلمات أنثى ولود.
………….

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى