بين مدرستي الدار البيضاء وتطوان: الفن المغربي من التجاذب إلى الحساسية

عز الدين بوركة
في المغرب نتحدث، منذ سنوات الخمسينيات من القرن الفائت، عن مدرستين أكاديميتين لا ثالثة لهما، مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء (1952) ومدرسة الفنون الجميلة في تطوان (1945). وفي الوقت نفسه نتحدث، ارتباطا بهاتين المدرستين، عن الفن التجريدي وفن التصوير الصبغي (الواقعي/ التشخيصية)، الأول ارتبط بالأولى (الدار البيضاء) والثاني ارتبط بالثانية (تطوان).
بعيدا عن هاتين المدرستين، وقريبا من التحقيب التاريخي، استضاف المغرب منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر، أولى البعثات الفنية الاستشراقية، إذ ستتوالى على هذا البلد عدة زيارات لفنانين غربيين (أمثال دولاكروا وماتيس) لاستكشافه، وذلك لقربه من الجغرافية الأوروبية، فنانون جاءوا بحثا عن تلك اللمسة التضاريسية والطبيعية والضوئية والحياتية الساحرة التي تعرفها البيئة المغربية، مكنت لدولاكروا وماتيس، على سبيل المثال أن يجعلا من «الضوء مهرجانا لأعمالهما». زيارات ستسنح للمغرب أن يعرف تعاقب مدارس فنية عدة على أرضه، من وحشية ورومانتيكية وتكعيبية وفوق ـ واقعية، وصولا إلى أواسط القرن الماضي، حيث ستبزغ شمس فنانين مغاربة، سيحق لهم الضرب بقوة، قادمين من مدارس غربية، أمثال شبعة وبلكاهية والغرباوي والشرقاوي وغيرهم… وإن كان يُنسب للفنان المغربي بنعلي الرباطي فتح أفق الفن في هذا البلد.. وإليه يُنسب أيضا أول فنان مغربي سيعرض أعماله بشكل احترافي.
يُرجع بعض النقاد، تاريخيا، ظهور الفن في أرض المغرب، لأزمنة ساحقة، إلى ما قبل التاريخ، وجدران الكهوف، إلى تلك الرسومات المصورة على جدرانها الخشنة، وإلى تلك النقوش الصخرية، والآثار البدائية… ومنها إلى تلك الثقافة الصحراوية الأفريقية المتوسطة، والثقافة الأمازيغية والتصوير والرموز الموجودة على الزرابي والأواني والألبسة الأمازيغية والأوشام النسائية… ما يدعو إلى القول إن الفن المغربي «وُلِدَ بشكل تدريجي.. كما تعبر الناقدة توني مارياني، بلا أب واحد ولا آباء».
إلا أنه بعد ظهور ما سُمي بجماعة 65 (مجموعة الدار البيضاء)، وقبيلها بقليل جدا، كل من الفنانين الشرقاوي والغرباوي، بتنا نتحدث عن اتجاهين فنيين في المغرب، الحديث عن الفن التشخيصي والفن التجريدي الذي تبنته مدرسة الدار البيضاء، التي كان غالبية الفنانين الذين درسوا فيها قادمين من مدارس أوروبية وفرنسية بالتحديد، انفتحت آنذاك على هذا التيار الفني، معتبرة إياه ثورة وقفزة فنية، تتجاوز بها التصوير الواقعي، الذي صار آنذاك تعبيرا عن الاتجاه الاشتراكي والشيوعي في أوروبا (المعسكر السوفييتي). مما يجعلنا نقول إن الفن التجريدي كان ثورة فنية وسياسية في آن، فقد لعبت السياسة لعبتها في اتساع رقعته والمهتمين به، أثناء الصراع الغربي – الغربي، وأعتُبر الفن التجريدي ثورة على الإيديولوجية الأحادية، مدعوما من السياسة الغربية/الأمريكية، خاصة زمن الحرب الباردة. «فبقدر ما كان الفنانون في المعسكر الشرقي يدافعون عن الذات الجماعية ارتأت الآلة الدعائية في المعسكر الغربي أن تدفع بالذاتية والفردانية في الفن إلى أقصى الحدود» (موليم العروسي). والحال نفسه بالنسبة لفناني المغرب – ولو باختلاف بسيط – الذين أرادوا أن يتمردوا على أي تبعية استعمارية والبحث عن هوية بصرية مغربية خالصة، معتبرين أن الفن التصويري الصباغي من مخلفات المستعمر الفرنسي، مثله مثل «الفن الفطري»، على حد اعتقادهم، لهذا اعتبروا الفن التجريدي أفق الحداثة، وهذا ما سيؤثر على مجموعة من الفنانين الذين فتحو أعينهم على الفن في هذا البلد أواخر القرن 20.
وإن كانت اشكالية العلاقة بين فن التصوير والواقع، آنذاك في قلب اهتمام وحوارات الفنانين المغاربة، ومعهم نقاد ومؤرخون. فاليوم لا تعد هذه النقاشات إلا تأريخية، ولا تشكل أي صراعات وجدالات، كما كان الحال عليه في العقد السادس وما بعد من القرن 20. فقد رأى فنانو الدار البيضاء أن التصوير الصباغي (الواقعي) ارتبط بالمستعمر، الذي أراد أن يخلق أبوية وتبعية على الفن المغربي، وحورب في الوقت نفسه بشكل عنيف الفن الفطري، نختار مصطلح «الفن الخام» إذ تم اعتبار أنه قد فُرضت على مدرسة تطوان قوالب أكاديمية وأسوار جمالية يصعب القفز عليها، وظل فنانو هذه المدرسة مسجونيها. «ورغم أن برامج مدرسة الفنون الجميلة في تطوان ساهمت في ظهور فنانين مغاربة تأثروا في بدايتهم بالتشخيص الأكاديمي مثل مكي مغارة ومحمد السرغيني ومريم أمزيان، إلا أنها، كما يخبرنا محمد شيكر، لقيت نقدا وممانعة من قبل لفيف من مرتاديها مثل، شبعة الذي ثار على سياسة الدون ماريانو برتوتشي الفنية وعلى أنموذج التشكيل الأكاديمي».
ولم تتخل مجموعة من الفنانين التشكيليين عن فن التصوير الصباغي (الواقعي)، أمثال بنسفاج وبنسيف والسرغيني، وقد والم البعض منهم بين التشخيصية الواقعية والتجريدية أمثال بوعبيد بوزيد… وإنه في العقدين الخامس والسادس، وظهور الفن الخام/ مع فنانين من طينة الشعيبية وبن علال والركراكية وغيرهم.. تشكل شكل فني خاص، منطلق من رؤية عصامية متمردة عن الأكاديمي… ومنبعثة من الذات، غير مكترثة لأي صراعات سياسية أو أبويـــــة وغير مهتـــمة إلا باللون في خامته وتلك الساحرية والعفوية التي تعبر عنها لوحاتهم. فقد عرف الفن التشكيلي المغربي المعاصر، ميلاده بهذا المعنى منذ العقد السادس من القرن الماضي، حيث ثار على الأشكال الأكاديمية، أولمبيتها وأسوارها الأفلاطونية العتيدة… ليخرج من الكهف نحو منبع الضوء. ومنذ أواخر العقد الثامن وبداية سنوات التسعينيات، ستظهر موجة من الفنانين الجدد… فنانون متأثرون بالفن المفاهيمي وغيره، ومتشبعون بالهُوية المغربية الفنية التي تمّ ترسيخها من قبل سابقيهم.
فاليوم الفن التشكيلي في المغرب يعرف ديناميكية وتطورية كبيرة تمنح له تعددا لامتناه في التصوير الفني بمختلف أشكاله ومذاهبه، كما بشتى تياراته ومناحيه التشكيلية (من نحت وصباغة، ومفاهيمية، وإنشاء فني وتركيب فوتوغرافي وفيديو آرت).
فنانون نصطلح عليهم بـ؟فناني الحساسية الجديدة»، لكونهم يمتلكون حساسية رهيفة مصقولة أكاديميا، ومنفتحة على مختلف التعابير الفنية، ما يسمح لهم بالتفاعل والتأثر وتجاوز كل شكل فني… فإن كان الفن الغربي الحديث قد انطلق من القطيعة مع التراث الغربي (المسيحي والنهضوي) فإن الفن الحديث، كما المعاصر في المغرب بدأ من الإدراك الكبير بأهمية الانطلاق من التراث (المغربي، الصحراوي، الأفريقي، الأمازيغي، الإسلامي) والرجوع إليه واستدماجه.. ثم التجاوز. بحثا عن أصالة واستقلالية، تحققت لغالبيتهم.
(القدس العربي)