تأثر بالتشكيليين الأمريكيين ولوحاته عامرة بـ «البياض»: كونية الاشتغال عند عبد الله الهيطوط… إيغال في المتعة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عز الدين بوركة

المصدر / القدس العربي

فَرح منثور، هو، بعناية وحسن دقة.. وجمالية اختيار للألوان.. ألوانٌ تتنفس حياةً.. وتضُخّ السائل الحيوي للأبدية في شرايين اللوحة وسندها.. السند المتغيّر دوام تغيّرِ أفق الفنان.. الفنان هنا، ليس غير عبد الله الهيطوط.. القادم من الفن ومدارسه ومدارجه.. الفن المالِئ للمساحة الهندسية- بتعدد متغيراتها- للسند: القماش.. الكارتون.. الورق.. الخشب.. وكل ما يلائم الرؤية والحسَ الفني لهذا التشكيلي، المتوشح بوضوح اللون داخل عمله..
عبد الله الهيطوط، جاعل هو.. من الشكل أن يذهب عابرا التجريدَ في بعده التجريبي التعبيراني.. (مُجرِب، هذا الفنان، بلا انقطاع، كما مبدعٌ، هو، داخل مُنجزه)..
الشكل الذي يقيس/ يلمس الإبداع الفني في عمقه، ويهرب به إلى الحداثي في جمالياته.. عبر دقة الرؤية والاشتغال.. الموفّق بعبقرية اللغة التصويرية المهذبة، لديه، والبعيدة كل البعد عن الثرثري التكراري.. الثرثرة الجاعلة من عضلات الغير مسارا ومنهجا لها.. أما الهيطوط فيجعل من البحث والتجريب المستمر، طريقا وطريقة للعمل لديه.. بعناية باذخة الحضور وبهاء الوضعِ، يضع هذا الفنان الأثر في زاويته، حيث عليه أن يكون..
وأنت تُلقي بناظريك.. الإلقاء هنا ليس شبيهَ التطلع على قطة شرودنغر.. أو المرورِ بقولة بالفيلسوف الألماني إ. كانط الشهيرة.. على منجز عبد الهيطوط.. لأننا لا يهمنا هنا إلا أبدية العمل لديه وقابلية دوامه.. أما الانطباع المتروك (لا علاقة له، هنا أبدا، بالمدرسة الانطباعية)، عندك أنت المتلقي- الذات الخارجة عن الفعل- القادم إليه لِتَلِجَه بقوة المشاهدة والامتعان والتمعن.. ولك أن يترسّخ في الذاكرة لديك ذلك الشكل.. ليس الحديث هنا إلا عن ذلك الشكل المخروطي، دائم الحضور فوق المساحة الهندسية للسند، كبصمة خاصة بالفنان.. الشكل لا المتغير (رمْزا) ودائم التغيّر (رسْما وحجْما).. شكلٌ نتساءل عبره ومعه وبه:
هل هو «جرة».. إناء ثمالة الفنان.. الثمالة بعذوبة السُكَر والسُكْر التصوفي باللون وشطحاته.. الآخذ إلى أفق الإبداع داخل عالم التشكيل ومنجزاته… ومدارجه ومدارسه.. وما هو – أي الأفق- إلا التعالي بالشكل على الشكل.. وجعل الذات الفنانة تسمو وتُعلي من قيمتها كذات حرة مبدعة.. تمتزج بالعمل وتتعإلى عليه.. أم هو- أي الشكل- مهراس/ «مهراز».. ذلك الرمز الرامز لدقة الخلط الوصفة/ اللون.. وعجنه وتمحيصه واختياره.. الخلط، هنا، الشبيه بتلك الخلطات الشعبية السرية للغاية.. خلطات الجدات.. المحفوظة بإخلاص.. مما يجعل منا متسائلين، بدوام النظر للوحة، أي سرّ، هو، مختبئ خلف هذا العمل/ الفعل/ المنجز..؟ أم هو-الشكل.. «آنية»/ مِحْبَق/ مِغرِس، حيث تتشكل زهور بديعة البهاء.. في سديم اللون.. المسكوب على فضاء/ كونية السند.. غير أننا ليس بإمكاننا، غير التأكيد.. على كون هذا الشكل قد ضمن مساحته داخل أعمال عبد الله الهيطوط.. مُذْهِبا عليها فضاءً ثلاثي الأبعاد 3D.. عن هذا البُعد قال ذات صدقٍ في حق هذا الفنان، الناقد عبد الواحد مفتاح: «البعد الثالث واللافت، الذي يحضر دائما بمنطق المعالات، هو هنا بعد المعنى وتعدده على لون، جندي يرفع رشاشه ولا يخطئ، متراس في استقامة البياض الذي هو الأكثر حضورا في أعمال عبد لله الهيطوط، البعيد عن كل ما هو ضيق، حتى في الحقل التنظيري والهوياتي: كارتكاز لأصالة البحت والتجريب والتأمل، لفنان لا يحفل بكل رسومية جاهزة سواء في البعد الواقعي أو حتى التخييلي، ذلك ما يهب العمل بهاءه الفذ الطافح عن علبة التجريب، وهي علبة قلما خرج منها أصدقاء كثيرون سالمين».
عبد الله الهيطوط، المتأثر، التأثر هنا، رؤيوي وليس نقلا أو إعادة الصنع.. متأثر بالتشكيليين الأمريكيين من سنوات الخمسينات من القرن الماضي (كلين، دو كوونين، بولوك، وغيرهم كثر.. من النجوم التي لمعت صباغاتهم في منتصف القرن)، ومن الفنانين المعاصرين الأوروبيين نذكر منهم: Tapiés و Clavé و Barcelo.. ممن تأثر، هو، بهم أيضا.. نظريا.. شذريا.. وعبر الشكل أيضا عند G. T. Carmel.. وتقنية المحو والمسح والإخفاء والإظهار عند آخرين.. غير أنه يبتعد عبر أساليب خاصة، ورؤى تنحل من التراثي وتدمجه في المرآة الحداثية، مرآة فنان وليس غير ذلك.. ليندرج بالتالي، فنانا هنا، داخل الحقل التجربة التجريدية، بشكل أو آخر.. غير أنه «يبتعد عنها» عبر الإبداع داخل «التطورية»، التي يعرفها «العالَم التشكيلي» السائر نحو اللاتجنيس داخل الإبداع.. وجعله كونيا إنسانيا واحدا..
أما عن الحرية؟
الحرية فن..
عبد الله الهيطوط المنفلت من المسطرة الأكاديمية، إلى براثن الحرية وحصون التجريب.. ليثمر كل هذا معارض دولية وجماعية وفردية.. لا تنضب، ونصاعة اللون لديه.. عبر صباغيات/ لوحات/ أعمال توغل في «المتعة»، حيث يصير المنجز راقيا.. باذخ الحدوث.. هذه «الحرية» التي تبلور تجربة تشكيلية يضمها، هو، في عمق أعماله.. مستعملا تقنيات وأدوات وأساليب «مدرسية» و»لا-مدرسية».. متطورة وحداثية.. من قطعٍ وكولاج ولصقٍ، وحذف ومحوٍ وإضافة.. ليجد المشاهد/ المتلقي نفسه أمام عملٍ طلائعي، يُمارس عليه الفنان سلطةً ما، عبر منجزه.. السلطة هنا، دخول بالقوة في متعة التلقي..
الأبيض.. السندُ ومسنود..
أما اللون.. فله أن يُوجَد ويوجِد بلا حدود.. اللون هنا الأبيض الناصع، صفاء روح الفنان، وطهارة البحث عن الصلح مع الذات.. الأبيض الرامز للسلم.. في عالم الألوان.. له أن يكون ويصير الخلفية للسند المستعمل سابقا (ذات حين) وجزءًا منه أيضا.. في تداخل بين الجزء والكل.. فيتخذ منه الهيطوط الأساس الركيز للطخاته، ورتوشه.. كأنه، وهو المثقف أيضا، ومن النادر أن تلتقي مثقفا- فنانا، وعبد الله الهيطوط ذلك، يذهب لما ذهب إليه الفيلسوف التنويري إيمانويل كانط «إن الدارس وهو يدخل حقل التجربة.. فهو إما مغيّر لها أو مضيف عليها»- من أن الأصل في العالم السلم..
بالفعل هم نادرون أولئك الفنانون المثقفون، غير وأنا أجالسه، في مقهى، في مدينته، المخضرة، هناك في الرباط، حيث يعيش ويشتغل.. كان لي معه حديث مطول عن الفن وأصوله ومدارسه وآلياته.. كما تطوراته وتحديثه وتقدمه.. يحدثك بابتسامة عريضة، لا تفارق وجهه المشرق دوام الإشراق.. فنان مثقف وواع بالفن وتدرجات ألوانه وتعدد أسناده ومراجعه.. متطلع هو بدوام القراءة والعمل.. على مستجدات اللوحة وعالمها.. على التقنية ومتجدداتها.. عجيب أليس كذلك! وجميل أيضا..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى