تحت سقف من ريش النوارس… عن الترجمة والآثار المنهوبة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*منصف الوهايبي
المصدر / القدس العربي
مررتُ برسْمٍ في شَياثَ فراعَنِي
بهِ زجَلُ الأحجارِ تحت المَعاولِ
أتُتْلِفُهَا شُلّتْ يَمِينُكَ خلِّــــــــــها
لمعتبِـــــــرٍ أوْ زائرٍ أوْ مُسائِلِ
منازلُ قومٍ حدّثتنا حـــــــديثَهم
ولمْ أرَ أحْلَى من حديثِ المنازلِ
أبويعْلَى المعرّي المعروف بابن الفرّاء (380هـ 1059م /458هـ 1131م) وقد مرّ برجل يحطّم آثارا وتماثيل؛ لبناء بيته.
كان يقف حذو شاحنته الديمكس. قال لي هامسا: إصعد.. وانطلق. حتى إذا اقتربنا من فسقيّة الأغالبة في طرف القيروان، فتح مؤخّرة الشاحنة. كانت هناك شاهدة من الرخام، عليها كتابة قديمة. قال أحبّ أن أعرف ما هو مكتوب.. حتى أعرف قيمة هذا الأثر. قلت ضاحكا: هذا خطّ كالهيروغليف المصري.. لا أفكّه.. ولكنّني سأدلّك على من يستطيع ذلك. وعرفت بعد يومين من زميلي المؤرّخ المتخصّص في التاريخ القديم، أنّها شاهدة قبر ثمينة لا شكّ؛ قد تكون لملك فينيقيّ. وسحب ورقة من جيبه؛ وقال هذا هو النصّ المنقوش، وقد طُمِس بعضه: «أنا (بياض وحروف ممحوّة) كاهن عشتارت، ثاوٍ بهذا الصندوق، فأيّا من تكون أيّها الإنسان الذي يقع على هذا الصندوق؛ لا تفتح قبري ولا تقلقني، فليس لدينا فضّة ولا ذهب، ولا أيّ نوع من الزهريّات، بل أنا ثاوٍ ـ مجرّدًا وحيدًا ـ في هذا الصندوق. فلا تفتح قبري ولا تقلقني. فإنّ ذلك أمر منكر عند عشتارت. فإذا تجاسرت على فتح قبري، وتجرّأت على إزعاجي؛ فليأذن الربّ بألاّ يكون لك عقِبٌ بين الأحياء تحت الشمس، ولا مهْد للراحة (بياض وحروف ممحوّة)».. قال لي زميلي: تجارة الآثار مزدهرة الآن في تونس كلّها.. خاصّة نبش القبور.. وبلقاسم النبّاش يأتي ما يأتيه كثيرون..
أجدادنا الفينيقيّون يسمّون القبر «بيت الراحة».. ابتسمت.. قال»: لا.. لا.. ليس هذا.. طبعا.. القبر ليس بيت الخلاء. هم يسمّونه أيضا بيت الأبديّة.. قلت «عجيب..العربي الجاهلي يسمّيه «البيت الأبدي».. دريد على ما أظنّ.»
قال: الفينيقيّون يعتقدون أنّ روح الميّت تظلّ حيّة.. لكن من دون حركة أو متعة، لابدةً بين الضفاف والظلال؛ ما بقي الجثمان سليما في القبر. كانوا يحرصون على إخفاء مدافنهم، وتمويه مداخلها. وربّما وضعوا التابوت في كهف أو في بئر بعيدة المَهْوَى. كانوا يقلّدون المصريّين، ويحنّطون جثامين عظمائهم.. وحولها أدوات من الحلي والفخّار. كان نبش القبور شائعا في العصور القديمة، ولذا نقشوا على الشواهد: «الميّت لم يدفن معه كنز. رجاء لا تزعجه. لا تطرده من بيت راحته».
هل يعرف الترجمة إلاّ الذين كابدوها ودُفِعوا إلى مضايقها؟ أليسوا هم الذين تعلّموا مرارة الصبر على الكلمة أو الجملة حتى تختمر، ليحوّلوها إلى عجينة لدنة سوداء أو زرقاء، بحسب الحبر المفضّل لديهم. للكلمات سُبُل خاصّة وألوانٌ مختلفة، بل لها بيوت وطيئة أو تحت الأرض؛ وكأنّها تلوذ بها من وحشة السماء أو وحشيّتها. ثمّة كلمات همجيّة تمشي في نصّها الأصلي، أعني في رحمها بشكل آلي.. وكلمات تصدر أصواتا رتيبة مثل مشية جندي في ثكنة مسيّجة.. وكلمات تطقطق مثل حوافر الدواب أو طقطقة عجلات الأخشاب على طرق الرومان، أو مثل عتيق الأسرّة، تلك التي كان يجلبها آباؤنا من أسواق الخردة؛ لتسقط عمدانها في الليل، ونحن في عزّ الحلم أو الكابوس.. والخردة كلمة فارسيّة تدلّ على ما صغر من الأمتعة وتفرّق.. والكلمات تخرد فيطول سكونها ويقلّ كلامها.. وبعضها لؤلؤ خريد لم يثقب.. وثمّة كلمات تنكمش كالأرانب أو هي طرائد؛ وعليك ان تكون صيّادا ماهرا حتّى تدفعها إلى الخروج من جحرها أو وكرها.. ويا ويحك إذا أخطأت المرمى؛ فقد تتلاوى عليك كما تتلاوى الثعابين على بعضها بعضا. وكلمات تتدحرج مثل كرة البولينغ.. وكلمات تزدرد كلمات، ثمّ لا تلفظ إلاّ نفسها..وكلمات لابدّ أن تضغط عليها حتى يطفر الحبر منها؛ ولكنها قد تتورّم قليلا أو كثيرا.. وتقضّي الليل كله، وأنت تبحث لها عن مرهم في صيدليّة ابن منظور لتطلي به جرحها.. وقد يكشّ ابن منظور في وجهك؛ لأنّك نغّصت عليه نومته الأبديّة، ثم تتذكّر أنّهم اقتلعوا لسانه بالملقط وقدّموه للكلاب؛ فهو منذ تلك اللحظة مصاب بالحُبسة مثل حكاّم العرب عاجز عن الكلام.. وها هو «لسانه» اليوم أشبه بشواهد القبور.
ثم تجلس إلى مكتبك ثانية، وقد طويت «لسان العرب».. تقوّم جملة محدودبة.. وتشدّ قامة أخرى تكاد تنكفئ.. أو تخلع عن استعارة نظّارتها البلاغية السميكة.. أو تحرّر كناية من أسر المتنبي.. حتى إذا استوى لك النص.. ضحكت أو ابتسمت؛ وأنت تعتذر لنفسك ذلك الاعتذار اللائق: «أوَ ليست الترجمة خيانة؟»، ثم تندسّ في فراشك.. ولكنّك لا تكاد تغمض عينيك حتى تطلّ عليك الكلمات بعيون أوسع من الرعب في عيني طفل فلسطيني أو عراقي أو سوريّ أو يمني… الكلمات التي لا تستطيع أن تشير إلى الأرحام التي أسقطتها.
يعرف كلّنا العبارة المأثورة «الترجمة خيانة»، وأقدّر أنّ من أطلقها شخص ذكيّ جدا، بل خائن بامتياز أي «خائنة» (باستعمال التّاء للمبالغة على نحو ما نستعملها في «راوية» للكثير الرّواية). على أنّه صنع بهذه العبارة مشجبا يعلّق عليه الخونة من المترجمين ملابسهم الداخلية أعني خياناتهم! نعم «الترجمة خيانة؛ وفي ترجمة هذه لعبارة خيانة وقحة، لأنها في أصلها اللاّتيني عبارة موقّعة، يشدّ قامتها سجع، ويجري في دمها جناس .. ليكن كوجيتو المترجم» أنا أترجم إذن أنا خائن». ومع ذلك فهناك كلمات لها عطْر الضوء.. ولنا منها ذكرى لطخات الحبرعلى الأبواب.. في شهر جوان.. عندما تكون العطلة الصيفيّة قد هلّت شمسها.. وبدأ الأزرق يلمّ على مهل شمْل سطوح المنازل.. ونحن نتهيّأ لنركض حفاة تحت سقف من ريش النوارس.