تراحيل لعبد المجيد فرحات: ترحال الراوي أم ترحال الشخصيات؟

الجسرة الثقافية الالكترونية

رياض خليف *

المصدر / القدس العربي

يظل الواقع المادي مصدرا مهما للتخييل السردي ويظل للسرد المتصل بالواقع والذاكرة نكهة خاصة، إذا أحسن الكاتب الانتقاء والتوظيف واكتسب اللغة الموحية القادرة على الاقتراب من المتلقي وإثارة الذاكرة الجماعية، واستطاع إحكام اللعبة السردية، وهذا ما نعتقد أن عبدالمجيد فرحات قد استطاع إنجازه في مجموعته القصصية «تراحيل»التي تولى تقديمها صلاح الدين بوجاه بنوع من الفرح «أمتعتني هذه المجموعة الرائقة إذ أعادتني إلى السنوات العشر الأولى التي قضيتها في ريف سيدي فرحات مبتهجا بسعة البادية حولي…».
ولعل الكثير من الكتابات التي اطلعت عليها والتي تناولت هذه المجموعة اتجهت نحو هذا المنحى نفسه واستطابت العالم السردي لهذه المجموعة…
وقد أحالت لفظة تراحيل الواردة في العنوان الروائي صلاح الدين بوجاه على الوجه التراثي للتسمية وحركت فيه ذاكرة أزمنة المرحول، وهي التسمية المحلية لوفد الرحيل الذي كان يتشكل زمن البداوة والبساطة والتريف، زمن كان الناس يرتحلون من مكان إلى آخر بحثا عن لقمة عيش الإنسان والحيوان «كم من المراحيل جابت هذه القرى والوهاد على إيقاع موزون من خطى الإبل يلفها الصمت فلا بقاء إلا لصدى اجترارها الصبور… المرحول كلاب وقطط ورؤوس ماعز نحيلات وغنمات لا صدى لثغائها إلا في الأحلام، إضافة إلى ناقة أو اثنتين للحليب وجمل تستقبلها الصورة العتيقة لاستكمال الجمال والأناقة في رحيل الرجل والمرأة من السباسب حتى الأرجاء الخضراء التي لا حدود لها في سهول أفريقيا وجبالها…»(ص9)
إن هذا المشهد التراثي يخيم على القارئ وقد يوحي بأن المجموعة القصصية تنحصر في هذا البعد وأنها ستعود بنا إلى حكايات الترحل التي كانت تشهدها جهات تونسية كثيرة، ولكن تأمل المجموعة يوسع المشهد ويعطيه أبعادا أخرى.
فلا بد أن ننطلق من لفظة العنوان، ولكن من زاوية أخرى فتراحيل وهي جمع ترحال تختلف عن لفظ المرحول، حسب الاستعمال المحلي، فالترحال هو القيام بفعل الرحيل، أما المرحول فهو مشهد الراحلين جماعيا ومعهم حيواناتهم وأمتعتهم.. والمجموعة كما يتبين لا تتضمن مثل هذه المراحيل ولم تكن حوادث الرحيل التي مررنا بها على هذا النمط، بل كان رحيلا ضيقا ومحدودا… لهذا فالتراحيل التي نجدها أقرب إلى سمة العنوان هي تراحيل الراوي الفنية بين المكونات السردية، والمجموعة لا تندرج ضمن أدب الرحلة مثلما قد يوحي عنوانها، وهذا التقديم الذي بدأنا به الحديث عنها، ولكنها أقاصيص قصيرة متفرقة متنوعة المشاغل والألوان ولا تخلو من حديث الرحيل. وقد كانت الكتابة فيها رحلة سردية قادت الراوي إلى أمكنة وأزمنة مختلفة وجعلته ينتقل من شخصية إلى أخرى ولعلنا في هذا النص نقتفي ملامح ترحاله…

المكان

تغلب الفضاءات المكانية المفتوحة على هذه النصوص التي تلوح فيها أماكن قرى وأرياف تنتمي غالبا إلى الوسط التونسي وقد حرص الكاتب على تسميتها والإشارة إليها لذلك سجلت هذه الجهات المهمشة ذات الطابع الريفي والتقليدي حضورا لافتا ودارت القصص في قرى مختلفة مثل، المساعيد والذهيبات وسيدي علي بن نصرالله وكسرى ومكثر غيرها من الأماكن التونسية التي يرد بعضها على سبيل الإشارة مثل رجيم معتوق…
ولعل تمركز القصص في هذه المناطق جعل الفضاءات المفتوحة ذات الطابع الريفي تحتل حيزا بارزا وجعل المجموعة غنية بمناظر الحقول والأودية والجبال ومن هذه الأماكن وادي البياض: «من الغد سرح سعيد منذ البكور شويهاته إلى مرعى شرفة وادي البياض في منعطف شلال المحاقن يسري مع رقة نسائم الفجر العليل…»(ص17) كما نجد الطرقات والمسالك الريفية الصعبة ومن بينها الطريق إلى مدرسة المنصورة بكسرى: «…ثم هو رجلان فتيتان تنسابان في مسرب الوادي صوب مدرسة المنصورة ترقبه الأم بقلب وجيب ولسان داع له بالسلامة. نط كعادته غير مكترث بأنياب الطريق الملتوية ومنزلقاتها… بلغ جوف الوادي فتباطأت خطواته وهو يصعد الضفة الأخرى، سمع إيقاع مطرقة العم علي في مقطع الحجارة المعهودة تفتت عنت الصخور فتوقف يتملى مشهد الرجل النحيل يقارع الأيام وثقل المطرقة وصلابة الحجر، ثم تابع السير فبلغ المدرسة الواقعة في الرصيفة مدخل القرية الجبلية….(«ص25).
ومن الفضاءات الريفية الأخرى ما اتصل بالجبل فالعم يوسف «شيد منزله أعلى قرية سيدي علي بن نصرالله قبالة جبل شراحيل موقع منزله من سفح الجبل، جعل الغروب والصباح كليهما يسبقان إليه… في السحر يقصد العين في تجويفة القرية لينال نصيبه من الماء الوافد من عمق الجبل عبر قنوات الصخر الرومانية…(62 ) كما نضيف إلى هذه الفضاءات البدوية ما تعلق بأسواق البدو مثل، الحديث عن سوق المساعيد… كما نجد فضاءات ذات طابع تراثي ولكنها توجد في المدينة مثل مقبرة قريش بالقيروان…
ولعل ترحال الكاتب بين هذه الأماكن قد أصفى على قصصه نكهة خاصة ألا وهي نكهة الوصف اللذيذ والممتع فالقارئ يجد متعة في وصف هذه الأماكن المنسية وحنينا إلى هذا النمط الجميل من الحياة رغم ما فيه من تعب…

الزمان

لكن لرحلة الراوي وجه آخر فهي أيضا ذات مسلك زماني وهي عودة إلى الماضي وتذكر له فليست الكثير من الشخصيات والظواهر غير نماذج منصرمة لم يعد لها وجود في المجتمع التونسي…إنها رحلة نحو الماضي على متن الذكرى…ولهذا نجد في هذه القصص إحالات على محطات مختلفة من تاريخ البلاد ومنها زمن الخير والبركة حينما كانت الحياة بسيطة والعلاقات غير مثقلة مثل الآن».
أما مهرة الحصدة من أهل القرية فقد تجمعوا متطوعين في حقل الجليلة يجيلون المناجل في سنابل القمح تحت أهازيج الرجال وزغاريد النسوة… ظل سعيد ينتظر وفود موكب العم أبي بكر إلى صخرة النحر، وما هي إلا لحظات حتى تراءى لي الشيخ يؤم فريق الجزارة ويقود نحيرة الحصاد…»(19). كما نجد إشارات إلى الزمن السياسي القديم، فالعم يوسف يتحدث عن انتقاله مع ابن ريفه الأستاذ الوزير الأسبق في زمن بورقيبة مصطفى الفيلالي باعتباره ابن قريته الريفية إلى ضاحية رادس وهو يبجل أهل العلم ويتحدث عنهم «فيصل أسماءهم باللقب التشريفي سي مصطفى الفيلالي وسي الهادي صالح…(«63). كما تحيلنا إحدى القصص إلى الاعتقالات السياسية الشهيرة في تونس وحالة القمع التي كانت تطال الجميع، ففي قصة استضافة مباغتة حكاية طالب اعتقل ثم عاد إلى دراسته ونجح وشرع في العمل، غير انه تعرض فجأة للاعتقال فهو «قضى في معتقل رجيم معتوق شهرين ثم عاد إلى دار المعلمين العليا يتدارك دروس التخرج، فنال شهادة الأستاذية والتحق بمعهد القصر يباشر عمله في غبطة من أمن تبعات الاعتقال….» وبعد سنوات من التدريس وذات أسبوع «ما أن بلغ باب المعهد حتى وجد اثنين في استقباله على غير العادة…(«76). فالذاكرة في هذا النص ترحل إلى زمن القمع…. ولعل التذكير بمعتقل «رجيم معتوق» في الجنوب التونسي تذكير بتعمد السلطات التونسية يوما في السنوات الغابرة اعتقال الطلاب المحتجين ونقلهم إلى هذا المعتقل …
ونلاحظ في هذه الأقاصيص أن زمن الأحداث في كل قصة مسترسل وطويل قد يدوم أشهرا أو سنوات، لذلك يعتمد الكاتب مرارا الإيجاز والتخلص بعبارات من قبيل «مرت السنون» (21) و»’انقضت سنواته الأربع «(30) و»انقضت بعض الأعوام (ص42). ولعل هذا يعبر عن طول صراع الشخصيات مع الزمن، وهو ما يجعل هذه الأقاصيص ترصد معاناة هؤلاء البدو وكفاحهم في سبيل الحياة…

الشخصيات

المتأمل في شبكة الشخصيات يلاحظ أنها ذات منحى واقعي وهي شخصيات مألوفة في المجتمع التونسي وينحدر أغلبها من أصول ريفية بدوية، وقد عني الكاتب بتوضيح هذه النقطة وتحديد النسب الجغرافي لشخصياته، فهذا من «الذهيبات « والآخر من قرية سيدي علي بن نصرالله، وذاك من المساعيد والمتأمل فيها يلاحظ نزعة إلى اختيار شخصيات طريفة ترتبط بالذاكرة مثل، الحنش ويوسف وغرس الله ودباب وتهامي، وهي شخصيات تقترب من الفلكلور الشعبي، كما اختار الكاتب شخصيات كادحة تصارع الحياة مثل سعيد الراعي الصغير وحبيبته سلمى أو حميد العامل اليومي أو البنت زهور… وكل هذه الشخصيات عاشت صراعا من أجل لقمة العيش الصعبة ومشاغل الحياة، ويبدو أن حدث الرحيل كان سمة بارزة في حياة هؤلاء جميعا… إنه رحيل من أجل لقمة الحياة أو ظروف مختلفة ففي قصة باقة السنابل رحيل جماعي: «تتالت على القرية أعوام جفاف فنصبت العيون وجحدت الحقول وخلت المدرسة البعيدة من أطفالها سوى بعضهم واحتكرت مدن الساحل الناشئة لقمة عيشهم، فحلت مواسم الترحال محل أفراح القرية وهاجر شبانها يقتطعون زهيد الأجر بعسر من معالجة الحديد والآجر والاسمنت (20).
أما رياض فاستقر بعد الدراسة «في إحدى مدن الشمال طبيبا لامعا»(28) واما حميد فنزح وزوجته إلى ضواحي مدينة سوسة فتيسر لها عمل ومال أنفقته في التداوي لدى أكثر الأطباء شهرة في المدينة»(42). وأما دباب فـ»تخير من زوج النعل ما يحظى ببعض ثقته والتحف ببرنسه المصفر ذي الرتوق المتسربة، ثم ترك ريف المساعيد قاصدا مدينة القيروان لا يلوي على غير موهبة الكلام وبراعته في نسج قصصه العجيبة. سار بضعة أيام يمشي نهارا ويأوي إلى متاجر حفوز والشبيكة كلما همت الشمس بالغروب…(«92)، ففي حركة الشخصيات حضور متميز للرحيل، ولكن الملاحظ أن الراوي مر على هذا الحدث بنوع من الإيجاز في كثير من الأحيان…

الراوي المتفرج

لقد كانت رحلة الراوي مكانية وزمنية لكنه ظل راويا متفرجا وغير مشارك في الأحداث محافظا على الحياد في أغلب القصص متابعا من رؤية خلفية، ما عدا قصة واحدة هي قصة يوسف والجبل، حيث يبدو الراوي مشاركا ومتواصلا مع الشخصية الرئيسية «عرفته من عقدين هماما شديدا ثابتا بسط علي رؤيته للحياة العمل والبذل من دون حدود…».
لعلنا نستنتج في النهاية أن في العمل ترحالين: ترحال الراوي بين الأماكن والأزمنة والشخوص وترحال الشخوص أنفسهم وصراعهم من أجل الحياة…

*تراحيل مجموعة قصصية لعبد المجيد فرحات صادرة سنة 2014 في طبعتها الأولى عن مطبعة النصر في القيروان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى