ترويض الثقافة وأسئلة الاستبداد

الجسرة الثقافية الالكترونية

*علي حسن الفواز

 

المشهد الثقافي العربي يبعث على الكآبة، ويكشف عن هشاشة مريعة، وعن بنى منخورة، وعن عجز عضوي في قراءة ما يجري من استعمارات جديدة، ومن صعود لأصوليات لا علاقة لها بالتاريخ والنص والجماعة..

العطالة الثقافية- كما يبدو لي- نتيجة وليست سببا! لأن تحت تفاصيلها تكمن الشياطين، التي لها حتما بتاريخ الاستبداد، وبتابعية الثقافة والمثقف، وفقدان الأهلية الثقافية لمواجهة رعب الهزائم التاريخية، ولعل استعادة قريبة لما حدث ما بعد حزيران/يونيو 1967 حينما انهار النظام العربي التقليدي، والأيقونة الرومانسية للدولة العربية أصيب العقل الثقافي بفوبيا الهزيمة، وتحوّل كل شيء إلى لعبة مازوكية في القتل الرمزي، وتلبست المثقفين روح الخيبة والإحساس باللاجدوى، لكن لم يتحدث أحد عن سبب العجز والهزيمة وعلاقته بطبيعة الحاكميات المتضخمة، ومنظومة استبدادها المرعبة، سوء قراءتها لما يجري، وفقدانها القدرة على صناعة مشروع واقعي للدولة العادلة..

عجز الدولة يعني عجز المؤسسات عن أداء وظيفتها، وهو ما يعني أيضا عجز الجيوش من أن تكون بمستوى التحديات، وعجز القوى المدنية من أن تكون جزءا من منظومة أي تحوّل ديمقراطي، لأن دولة ما بعد مرحلة التحرر الوطني، كما تسمى في الأدبيات السياسية تحولت كلها إلى أنظمة ديكتاتورية، وإلى سلطات رعب لشعوبها، وتعطيل لإراداتها وتنمياتها، لذا تبدو الهزيمة نتيجة طبيعية لهذا الهشاشة، وهذا التضخم.. واليوم فإن ما تجلى في مرحلة ما بعد (ثورات الربيع العربي) من معطيات يكشف- هو الآخر- عن عجز دولتي وعن حاكميات منخورة بالاستبداد، إذ كشف انهيارها عن عري فاضح، وعن خواء تعليمي وثقافي واقتصادي وسياسي و(ديمقراطي) وأحسب السبب الرئيس لصعود الأصوليات الجهادية التي تنادي بالدولة الإسلامية، والتي احتشد حولها الكثيرون! يكمن في نمطية السلطة ومركزيتها، وفي سياسات الإفقار والتجهيل، وفي غياب المؤسسات المدنية والديمقراطية، وهشاشة الوعي المجتمعي بالحريات والحقوق والشراكة والتنوع والتعدد الثقافي والهوياتي والقبول بالآخر دونما عقد أو حساسيات..

السؤال الأكثر رعبا هنا: ما الذي فعلته المؤسسات الثقافية العربية إزاء ما جرى، وما يمكن أن يجري؟

هذا السؤال ليس دعوة لجلد الذات كما يمكن أن يدّعي البعض، بقدر ما هو دعوة للمراجعة والنقد، فنحن تعطلت لدينا حساسية النقد، وصرنا جميعا بلا غرائز نقدية، نخشى أي سلطة بدءا من سلطة الحكومة إلى سلطة الحزب وسلطة العقيدة والأيديولوجيا والقبيلة، وأخيرا سلطة الجماعة.

هذه الخشية هي الوجه الإجرائي للعطالة، فاتحاد الأدباء العرب ظل في أغلب مواقفه مؤسسة للثقافات الحكومية، والجامعة العربية والأونسكو العربية، كلها تمارس وظيفة مكررة، ومتجاورة النتائج، ولا علاقة لها بالأسباب التي تتضخم، والتي ستقودنا إلى تاريخ جديد من الحزيرانات العربية الجديدة.. فتشوا عن الاستبداد! قد يكون هو الشعار الذي يجب أن نفكر فيه، لأن المسؤول عن صناعة المركزيات والديكتاتوريات، وعن تعطيل الإرادات والمشاركات، وكل شيء مع وجود الاستبداد سيكون عاطلا، أو مغشوشا، ولعل أي مراجعة لكل ما جرى منذ أكثر من نصف قرن ثقافي أو سياسي سنجد أنفسنا أمام ركام من القرارات والوصايا التي ساكنها الغبار.. كما أن صعود المدّ الإرهابي والتكفيري الآن هو أيضا تعبير عن مركزيات تعويضية، وعن سلطات تعويضية، لأن العقل العربي- للأسف- تحت يافطة تاريخ الاستبداد لا يملك القدرة على العيش إلا مع السلطة، بما فيها سلطة الضبط والمراقبة والحبس والتحريم..

الحديث عن النقد، وعن الأنساق المضمرة لهذا النقد هو الوخزة التي يمكن أن تنبّه الجسد العربي المعطّل، وأن تصنع حولها عصفا ذهنيا لعلم الكلام والجدل والاختلاف، باتجاه كسر رتابة الخنوع والخوف، لاسيما أننا محكومون من الجماعات أكثر من السلطات، بما فيها الجماعات المخابراتية! وربما الجماعات الدولية التي تهندس أمريكا الإمبريالية لسلطتها العميقة!

 

جدل بيزنطي..

 

ما يجري في مشهدنا الثقافي يكشف عن رهاب العجز والهروب إلى الأمام! مثلما فيه الكثير من الجدل البيزنطي، فالكل مختلفون في النظر إلى علاقة الثقافة بالسلطة، وإلى قدرة الخطاب الثقافي على ملامسة الأسئلة الفاجعة، وإلى التعبير النقدي عن لحظة وعي حقيقية مع الحداثة والتنوير والإصلاح، إذ ما يتبدى اليوم مظاهر فيها الكثير من التكرار والاجترار، والحديث عن وقائع كان قد طرحها طه حسين وعلي عبد الرازق وخير الدين التونسي قبل أكثر من ثمانين عاما! فضلا عن الهشاشة المريعة في التعبير عن أي أسئلة حقيقية لتحولات محتملة في الفكر والتغيير، وعن رؤية ما يجري في خبايا الفوضى، وزحمة التنافس على الوهم! 

العجز السياسي يستدعي الكثير من الجدل حول هوية الدولة العربية، وهويات الجماعات الجديدة، مثلما يعبّر في جوهره عن عجز ثقافي فادح، وعن تعويم لما تركته العقائد الثورية والرومانسية والحزبية من آثار على العقل الثقافي، إذ بدت هذه العقائد وكأنها كانت تؤسَس في الفراغ، وأنها عاجزة عن إجراء أي فعل حقيقي، وأن مثقفي الثورات والعقائد والأيديولوجيات اليسارية واليمينية والقومية والإسلاموية، لم يتركوا سوى أحلام شاحبة، أو ضحايا سرعان ما تحولوا للأسف إلى صور عالقة على الحيطان العائلية، كما هم ضحاياهم اليوم من المدنيين والمريدين الحالمين بالجنة أكثر، لأنهم بلا أغطية ولا أدلّاء يوهبوهم معرفة المسار الحقيقي إلى طرق الحرير..

ما نراه اليوم وسط هذه العتمة يضعنا أمام رعب الأسئلة الثقافية مجددا، إذ كيف للمثقف المُستَلب أن يكون فاعلا وسط كل هذه العطالة المؤسساتية والاجتماعية؟ وكيف له أن يضع خطابه بمستوى تحديات المرحلة وإشكالاتها المعقدة؟ وكيف سيجد هذا المثقف المُستلب دوره وسط أدوار مجاورة ومضللة وضاغطة؟ هذه الأسئلة تعيد كشف لعبة العري من جديد، والكشف عن ضعف الدولة الوطنية في التعاطي مع أي مشروع ثقافي وطني حقيقي، وهو ما يعني الحاجة إلى مكاشفة جريئة ناقدة ونافذة للواقع المعطوب، ولأسباب ما جرى، ولتداعيات تضخم مظاهر العنف والإرهاب والطائفية، التي تضع الصناعة الثقافية أمام استحقاقات لازمة، وأمام أسئلة جديدة، لاسيما ما يتعلق بالتاريخ الذي فتح فمه شاغرا، وعادت إلينا أحداثه وهي مسكونة برعب التأويل والكراهية، فضلا عن تضخم مظاهر العجز السياسي وتشوهات قيم الحرية والديمقراطية، التي تضع الكثير من علامات الاستفهام، إذ أن هذا العجز ليس بريئا، ولم يأت من فراغ، وأن من أكثر مبرراته حدوثا كانت البيئة الثقافية المشوهة، ورعب السلطة القديمة التي عمدت إلى تفكيك كل البنى الثقافية، وإخضاع المؤسسة الثقافية إلى سلطة الحكم والرقيب الأيديولوجي والفكري، والتي أسهمت في صناعة المنفى الثقافي، والرعب السياسي، والخندق الطائفي، وتشوه القيمة الوطنية والهوية الوطنية..

الأسئلة هنا: كيف يمكن مقاربة الحالة الثقافية بعد كل ما جرى؟ وهل يمكن استعادة الوظيفة الثقافية لتكون ساندة للسياسي والأمني والاجتماعي؟ وهل يمكن للدولة العربية الجديدة أن تُعنى بالملف الثقافي أُسوة بالملفات الأخرى؟ 

فبقدر ما تكون هذه الأسئلة ضرورية، فإنها تستدعي معها الوعي بخطورة معرفة المتغيرات، لاسيما مع صعود الجماعات الإثنية والطائفية، ومع تحول الصراع السياسي إلى صراع هويات وخنادق، والذي يحمل في جوهره الكثير من الشفرات الثقافية، التي عمد العقل السياسي القديم على تغييبها، وحجرها داخل محاجر السلطة بوصفها جزءا من المسكوت عنه.. لذا تبدو الحاجة إلى المراجعة والنقد والفحص قرينة بوعي خطورة السكوت عن هذا المسكوت، وتعويم إشكالاته، وهو ما يعني من جانب آخر الموضوعية في إدراك هذه المراجعة، والعمل على فك اشتباكها مع تاريخ الأزمات التي تحوطنا، وتحاصرنا بأوهامها ورعبها، والنظر بمسؤولية إلى مدنية الثقافة، وإلى تاريخ نماذجها التنويرية لتكون قدوة للمراجعة، وعنصر إضافة لحماية مشروع الدولة الجديد، وتعزيز قيمها في قبول ثقافوية الحوار والتنوع والتعدد والتحديث وتلمّس الأسباب التي تثيرها أسئلة العصر الذي نعيشه…. 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى