تُقى المرسي: ما لم يكن الشعر نابعا من الواقع فهو إبداع خادع

منى حسن: تقى شاعرة مصرية ولدت في 17 إبريل/نيسان 1969 في قرية الشيخ ضرغام في محافظة دمياط. وهي حائزة على البكالــوريوس في آداب اللغة العربية من جامعة دمياط. تكتب شعر الفصحى والعامية، وهي من الأصوات الشعرية المميزة في المشهد الشعري المصري. صدر لها ديوانان بالفصحى: «معراجٌ لسماءٍ تحترق»، و«أخطأتني الرصاصة..لم يخطئني الموت».
ونشرت قصائدها في العديد من الدوريات العربية ، كما تُرجم العديد من نصوصها للفرنسية، ونشرت ضمن كتاب «مختارات من الشعر العالمي» كتاب بالفرنسية لمحمد صلاح بن عمر. ولها تحت الطبع: «للموت در» ديوان فصحى، «عاريةً تجيء القصائد» نصوص، و«شطين كلام» ديوان بالعامية المصرية. أدناه حوار يستعرض تجربتها الشعرية ويطل من خلالها على المشهد الشعري النسوي في مصر:

■ متى وكيف كان اللقاء مع الشعر؟
ـ بين النهر والبحر تعثرتُ بالشعر، عرفتُ معناه من ابتسامة أبي، وتعلمتُ فصاحته من قلب أمي الذي لم يعرف يوماً غير المحبة. ربما كانت بدايتي مع الكلمة في وقتٍ مبكرٍ جدا؛ حيث كنتُ في التاسعة من عمري حين بدأ تعلقي وشغفي بكل ما يقع في طريقي من شعرٍ موزون، سواء باللغة العامية المصرية أم الفصحى، ولسهولة العامية بدأتُ الكتابة بها في سن العاشرة بتقليد بعض الأغنيات الشهيرة، ثم انتقلتُ لمحاولة كتابة أول نص خاص بي في الحادية عشرة وكنتُ في الصف الخامس الابتدائي وقتها، وكتبته أيضا بالعامية وما زلتُ أتذكره رغم ذاكرتي المثقوبة.
يراوغني الشعر كثيرا؛ أغيبُ عنه فيطاردني، وحين أطيعه يهرب مني، وما زلنا طفلين يشاكسان الوقت؛ والوقت لا وقت لديه ليشاركنا اللعب.
■ تكتبين شعر الفصحى بطلاقة، رغم تخرجك حديثا في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، والذي جاء بعد إصدار ديوانين شعريين، مما يثير فضول قرائك عن المناهل التي استقيت منها موهبتك، وكيف كانت بداياتك مع كتابة شعر الفصحى؟
□ علاقتي بالفصحى قديمةٌ أيضًا، حيثُ شغفت باللغة العربية منذ دراستي الابتدائية، وكنتُ لا يهدأ لي بالٌ إذا صادفتُ كلمةً لا أعرف إعرابها؛ حتى أبحث عنها أو أسأل أساتذتي؛ ولعل هذا كان سبباً في مواقف محرجة أثناء دراستي في كل مراحلها، وبمرور الوقت أصبحت لازمة ترافقني حتى الآن. فاللغة العربية كانت فطرتي وهوايتي قبل أن أهوى الشعر والكتابة، رغم عدم دراستي لها، فقد توقفتْ دراستي عند الثانوية العامة منذ ثلاثين عاما تقريبا، لم تتوقف عندها لغتي ولا محبتي لتلك اللغة، بينما هجرتُ الكتابة نحو عشرين عاما، قرأتُ خلالها في كل المجالات تقريبا، وكونتُ مكتبة لا بأس بها كانت زادي اليومي، الكتب وشقيقتها الموسيقى، رفيقا عزلتي في غياب القلم؛ غيابٌ طويل لا أدري أكان نعمةً أم نقمة، أفقتُ بعد هذا الغيابِ لأعود إلى الشعر على استحياء لعله يغفر لي.
■ في مصر شوقي وحافظ إبراهيم، وطه حسين والعقاد الحافلة بإرث أدبي ونقدي ثري ومميز، أين تقف الحركة النقدية من المنتج الأدبي، بمعنى هل تواكبه أم تتأخر عنه؟
□ في ظل ما تشهده الساحة المصرية من «تخمة أدبية» أدت إليها سهولة النشر كما نعلم، سواء النشر الإلكتروني أو الورقي؛ التي يضيعُ فيها الجيد القليل بين أكوام وأكداس الرديء، لا عجب أن تتراجع حركة النقد الأدبي الجاد، أو تتوه ملامحها وسط آلاف الدراسات البالية لمدَّعي النقد، وهم كثر. ويشترك الجميع في هذا القصور، بدءًا بالمبدعين أنفسهم والنقاد، وليس انتهاءً بالمؤسسات الثقافية والأدبية والعلمية، بما فيها الجامعات وأساتذتها.
■ يقول ريمي دوغورمون: «إن تكتب بصراحة ما تفكر فيه، هي اللذة الوحيدة للكاتب»، فهل نستطيع القول إن المرأة العربية الشاعرة استطاعت كسر القيود التي طالما كبلت شعرها وأطَّرته في أغراض الرثاء والمدح، نحو تحليق في رحاب أوسع؟
□ نستطيع القول بأن الكاتبة أو الشاعرة العربية استطاعت مؤخرا التخلص من بعض القيود التي كبلتها سابقا؛ فانفتحت كتاباتها على عالم أكثر رحابة لكنه بالطبع يظل أضيق من عوالم نظرائها من الشعراء الرجال، باستثناء بعض التجارب النسائية الجريئة، التي ربما كان تميزها في جرأتها وتحررها من القيود الأخلاقية التي يحاكم بها المجتمع كتابة المرأة محاكمته للمرأة نفسها، في حين يتاح للرجل مطلق الحرية في الخروج عن المألوف والأخلاقي في كتاباته وغيرها في ظل تقاليدنا الازدواجية؛ التي يدافع عنها بعض الكاتبات والشاعرات أنفسهن، باختصار نحن بعض قيودنا.
■ يشعر القارئ لشعرك بثقل الهم الوجودي، الذي تجاوز هم الذات الشاعرة نحو الهم الإنساني، الذي يتجلى في سحنة حزن لا تكاد تفارق نصوصك، فهل تشكل الكتابة لكِ وسيلة للهروب من الواقع أم محاولة للتعايش معه؟
□ يحضرني هنا قول صلاح عبد الصبور: لست شاعرًا حزينًا، ولكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوةً لإصلاح العالم، وهذه الشهوة هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلٍ منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه، ويجعل دأبه أن يبشر بها»، فالحزن هنا ربما يكون صرخاتٍ خافتة في وجه أوجاع العالم وليس هربا منها بقدر ما هي مواجهة لهذا العالم بحقيقته الزائفة، الحزن في نصوصي يشبه وجوهنا جميعا في عالمنا العربي الحزين. وفي هذا قلتُ: «للمنكرين سوادَ خطي في الكتابة.. أيَّ لونٍ تشتهون، ولم تزل.. تمطرُ الدنيا كآبة».
■ يُلاحظ تصالحك مع الأشكال الشعرية المختلفة فهل تؤيدين الصوت القائل بأن الشكل التقليدي للقصيدة العربية القديمة هو العائق أمام تجديد المضمون الشعري وتوسيع الرؤية فيه؟
□ رغم كل ما قيل ويقال في هذا الشأن فأنا أرى أن الشكل الشعري يمكن أن يمثل عائقا بالفعل لأصحاب الموهبة المحدودة، في حين يبرع بعض شعراء الشكل التقليدي أو الشعر العمودي بطزاجة اللغة وحداثة الفكر والصياغة في انسيابية مدهشة، لا تكاد تشعر معها بأي قيد أو تعثر، سببه هذا الالتزام بالشكل القديم للقصيدة، كذلك تتراوح مستويات النص الحديث في أشكاله المختلفة بين شعر ولا شعر، رغم تحرره من إطار أي شكل تقليدي؛ إذن ما الفرق بين نص ضعيف في شكل تقليدي ونص آخر ضعيف في شكل حديث؟ فرغم تعدد أشكال الكتابة لا علاقة لجودة النص بشكلها قديما كان أو حديثا؛ الفارق والمعيار في نظري بين نص وآخر هو شاعرية النص وطريقة صياغته، ومدى الإمتاع والأثر الذي يتركه لدى قارئه؛ فليكتب من يكتب كما يشاء، المهم كيف يكتب. فالساحات والأوراق تعج بآلاف الجرائم التي يسميها أصحابها قصائد.
■ هل تعتقدين أن المهرجانات العربية الحالية، تكرس حقيقة لفعل ثقافي يهدف لتعزيز مكانة الشعر العربي، وكيف تقيمين دورها قياسا للمسابقات الأدبية؟
□ رغم هذا الحراك الظاهر الذي يشي بنهضة أدبية من خلال تلك المهرجانات والمؤتمرات، إلا أنها – ككل ما في بلادنا- محكومة بالشللية والوساطة والمجاملات، فنجد الأسماء والوجوه نفسها التي لا تتبدل من مهرجان لآخر ومن بلد عربي لآخر؛ وعادة لا يكون هؤلاء المشاركون هم الأفضل، إلا أنهم تحت دائرة الضوء لسبب ما؛ بينما يقبع في الظل من يستحقون الصدارة؛ ولولا الحرج لذكرتُ أسماءً لمبدعين نوابغ كثيرين تغيب عنهم اهتمامات أصحاب المهرجانات وسدنة الأضواء الكاذبة؛ وبالتالي فمثل تلك المهرجانات تظل منغلقة على بعض الأسماء، وعليه فمعظم ما تقدمه نهضة زائفة، وهنا لابد من استثناء بكل تأكيد، لا أعلم أين لكن أمنّي النفس بالأفضل. أما عن المسابقات فرغم المآخذ عليها أحيانا من شروط لا تلائم الشعر نفسه، أو وقوعها في منطقة المحسوبية والمجاملة نفسها، إلا أنني أجدها فرصة طيبة للتعريف ببعض الأقلام الحقيقية والجادة والواعدة، وقد أتاحت فرصا عظيمة للتعريف بالشباب المبدعين بالذات وهذا في حد ذاته إنجاز، ربما كان يصعب تحقيقه لولا تلك المسابقات.
■ في ظل الأحداث الصاخبة من حولنا، ومطالبة المجتمعات بصورة مباشرة وغير مباشرة الشعراء بتوظيف أقلامهم في خدمة القضايا المصيرية، هل يمكن للشاعر الإبداع بمعزل عن السياسة؟
□ لم يعد الشعر كما كان يظنه الحالمون، ولم يعد الشاعر هذا الكائن المحلق تاركا الأرض بما فيها ليرفرف مع العصافير ويداعب وجنة القمر؛ فكيف للشاعر وهو إنسان في المقام الأول أن يتجاهل أوجاع الإنسانية ومآسيها وهو يعاني ما يعانيه أهل مجتمعه ووطنه وعالمه؟
■ وهل تلك المآسي والخيبات إلا نتيجة للواقع السياسي في صراعاته التي ليس من أهدافها صالح الأوطان بقدر ما تهدف إلى صالح الحكام، طاحنة بين فكيها البسطاء وقود المعارك؟
□ إن لم يكن الشعر نابعا من الواقع بكل تفاصيله فهو إبداع خادع، تماما مثل حكوماتنا العربية.
■ ما أبرز المعوِّقات التي تواجه الكتابة الإبداعية النسوية اليوم، وكيف تقرأين المشهد الشعري النسوي بمصر؟
□ في مجتمعاتنا العربية يعدون الكتابة الإبداعية النسوية «درجة ثانية» تماما كما ينظرون للمرأة نفسها، فإما أن يتم تجاهلها، أو ينفخون فيها مدحا واهتماما ليس لإبداعها، ولكن لأشياء أخرى في نفوسهم؛ فتقع المرأة المبدعة دائما في التشكيك في ما تكتب ولو كان يجاوز كتابات المبدعين من الرجال. فكل امرأة في نظرهم هناك من يكتبُ لها أو يجاملها؛ رغم أنها تستحق الإشادة، لكن ذنبها أنها امرأة وكل النقاد ذكور. وكما ذكرت تقع كتابات المرأة غالبا تحت مجهر الأخلاق والتقاليد؛ فيحد ذلك من انطلاقها في الكتابة بحرية، باستثناء مبدعات قلائل تجاوزن هذا.
المشهد الشعري النسوي في مصر حافل بالمبدعات الحقيقيات، وهنا أقصد الشعر عموما سواء بالفصحى أم بالعامية، لكنني سأخص بالذكر شعر الفصحى ومن يمثلنه من الشاعرات اللاتي أفخر بهن بالفعل على تنوع أشكال قصائدهن، ولغاتهن، وأساليبهن الشعرية، ربما لا يتسع المجال هنا لذكر أسمائهن؛ لكن هناك بالفعل شاعرات مجدات وذوات تجارب إبداعية متميزة يستحقنّ الاحتفاء.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى