ثقافة كتابة الرسائل وتقاليد لهفة انتظارها التي تحتضر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبدالله المدني

المصدر / القدس العربي

يتحدث خالد عبدالرحمن عبدالمغني في كتاب له بعنوان «بدايات الخدمة البريدية في الكويت» عن التواصل الذي كان قائما في الزمن القديم بين الأصدقاء والأهل والأحباب وأصحاب المهن الواحدة، كالتجار، عبر تبادل الرسائل الورقية بواسطة البريد، وهو يبشرنا بأن هذا النمط من التواصل بات يلفظ أنفاسه، وسوف يصبح قريبا شيئا من التراث، نتيجة لما يعيشه العالم من تطورات تكنولوجية مذهلة في مجال الاتصالات والتواصل بين الأفراد والجماعات.
فلا تستغربوا لو جاء يوم تغلق فيه مكاتب البريد، ويـُسرح موظفوها، وتـُباع سياراتها في المزاد العلني، لقلة المترددين عليها أو لانتفاء أغراضها، من بعد أن عرفت أقطارنا البريد كمكاتب وهيئات وموظفين وصناديق منذ أوائل القرن التاسع عشر.
ولا جدال في أن الباحث الكويتي خالد عبدالمغني محق في ما يقول، فاليوم مثلا لا قيمة لساعي البريد، الذي كان الناس يذكرونه في أغانيهم، ابتداء من أغنية «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي، وعيني لما بكوا دابت مناديلي» لرجاء عبده، وانتهاء بأغنية «بالله عليك ياموزع شي معانا بريد» التي غناها أكثر من مطرب بينهم طلال مداح. وكان الناس ينتظرون مجيئه بفارغ الصبر، وكان يحظى بالتكريم والحفاوة والاستقبال الحسن كلما جاء برسالة، بل كان يحصل على العطايا والإكراميات في ما لو حملت الرسالة أخبارا سعيدة.
وبالمثل لم يعد هناك اكتراث بحسن الخط، أو بجودة القلم، أو بنوعية الحبر، أو نعومة الورق، أو جمال المغلف. ومع كل هذا، توارت أيضا ثقافة كتابة الرسائل، وتقاليد لهفة الانتظار لمعرفة الأخبار، وصارت نسيا منسيا، لصالح «الفاكس» و»الإيميل» و»المسجات» الهاتفية وغيرها من وسائل التواصل، التي لا تحتاج لا إلى ورق، ولا إلى حبر، ولا قلم، ولا خط جميل، ولا تفكير، ولا مظروف أنيق متميز عن المظاريف الدارجة ذات الإطار المرسوم بالخطوط الحمراء والزرقاء المائلة.
هل تتذكرون يوم كان المحبون والعشاق يقضون الساعات في المكتبات بحثا عن ورق ناعم مزين بالورود والفراشات لينقشوا عليها آهاتهم ولوعتهم للحبيبة، فإذا ما وجدوا ضالتهم انتقلوا للبحث عن قلم «خطاط» لا يخدش نعومة الورق ولا يجرحه ولا يسكب دموعه عليه أكثر من اللازم فيشوهه. فإذا ما انتهت العمليتان على خير، اتجه تفكير المحب نحو أمر آخر مصيري هو ماذا يكتب؟ وكيف يكتب؟ وكان هذا يشكل معضلة للضعفاء في الإنشاء والخائبين في الإملاء.
وبطبيعة الحال كانت الأسواق في تلك الحقبة تزدحم بكتبة العرائض الجالسين على قارعة الطريق ممن كانوا على استعداد لكتابة ما يريده المرء مقابل مبلغ مالي متواضع. لكن اللجوء إليهم كان يحمل في طياته مصيبتين: الأولى هي افتضاح أمر علاقتك الغرامية وبالتالي تحولك إلى قصة تلوكها الألسن في الحي، والثانية أنّ كتبة العرائض كانوا في جلهم الأعظم جاهلين في أمور الشوق والهيام والغرام، بل كانوا في حقيقة الأمر لا يعرفون سوى صيغتين: واحدة لرسائل الشكوى والتظلم الموجهة إلى الجهات الرسمية والمسؤولين، وأخرى للرسائل الإخبارية الخاصة.
وكانت صيغة الأخيرة، بعد البسملة والصلاة والسلام على الرسول وآله وصحبه، ومن والاه إلى يوم الدين، تبدأ بعبارة «إلى جناب السيد الفاضل الأكرم المكرم الأحشم المحتشم صاحب المقام الرفيع والعلم الغزيز فلان بن فلان بن فلان الفلاني حفظه الله ورعاه ونوّر دربه وأصلح حاله ومدّ في عمره وأبقاه لأهله وأحبابه آمين يارب العالمين»، وتنتهي بعبارة «بلغوا سلامنا وتحياتنا إلى ابنكم وقــُرّة عينكم فلان حفظه الله لكم وحفظكم له، وإلى أخيكم وسندكم ويدكم اليمنى فلان بارك الله فيه وبورك من رباه ورعاه، وإلى كافة الأهل والأصدقاء، وعموم أفراد أسرتكم الكريمة فردا فردا. أما من طرفنا فيبلغكم السلام العم فلان والخال فلان وابن العم فلان وابن الأخت فلان، وجميع معارفكم ومحبيكم من أهل الفريج (الحي) والقهوة (المقهى) و»الميلس» (المجلس). تخيلوا فقط ردود فعل فتاتك إذا ما استلمت منك رسالة وفق هذه الصيغة! لاشك أنها ستكتم غيظها أو تسخر منك في أحسن الأحوال. أما ردة فعلها في أسوأ الأحوال فستكون «جردلا» من الماء الساخن أو «المرق» المغلي تسكبه فوق رأسك، على نحو ما فعلته الراحلة زينات صدقي مع المبدع عبدالسلام النابلسي في فيلم «شارع الحب».
وعليه فقد كانت الطريقة المثلى لتغلب الخائبين والفاشلين في الخط والإملاء على معضلتهم هي الاعتماد على صديق صدوق لا يفشي الأسرار، ولديه إلمام بشؤون الهوى.
شخصيا أتذكر أن أحدهم، وكان صاحب خط قبيح لا يـُرتجى من ورائه انجذاب أنثى له، خصوصا إذا كانت من المؤمنات بنظرية «أن خط المرء مرآة لشخصيته»، لجأ إليّ لمساعدته في كتابة «خط» (هكذا كانت الرسالة تسمى في الخليج قديما) إلى محبوبته، من منطلق أنني كثير المشاهدة لأفلام السينما المصرية ذات المضمون العاطفي والرومانسي، وليس من فرضية أنني صاحب سوابق غرامية، وبالتالي خبير في شؤون الهوى.
وأتذكر أنني وافقته لا شعوريا، ربما لأنه «كسر» خاطري بسبب نحوله الشديد الذي ذكرني فورا ببيت الشاعر العاشق: كفى بجسمي نحولا أنني رجل.. لولا مخاطبتي إياك لم ترني.
كنتُ على وشك أنْ أكتب له ما كتبه عماد حمدي لفاتن حمامة في فيلمها الخالد «بين الأطلال» لما استبد به حبها، ونصه: «وأنتِ يا تؤام الروح.. يا منية النفس الدائمة الخالدة.. يا أنشودة القلب في كل زمان ومكان، مهما هجرت، ومهما نأيت، عندما يوشك القرص الأحمر القاني الدامي على الاختفاء، إرقبيه جيدا. فإذا ما رأيت انكساره خلف الأفق، أذكريني».
لكنني سرعان ما اكتشفت أن في النص ميلودراما فائضة عن الحاجة، وقد تصيب المرسل إليها بالهم والغم والكآبة بدلا من الفرح والحبور والأمل، فقررت أن أستبدله بشيء من أغنية عبدالحليم المعروفة «بحلم بيك»، وتحديدا الجملة التي يقول فيها: «بحلم بيك يا حبيبي أنا.. ياللي مليت أيامي هنا.. بحلم بيك عارف من إمتى .. من أول ما عرفت أحب.. بحلم بيك وبحبك وانت.. أول حب وآخر حب». لكنني تذكرت أن صاحبنا يريد أن يبلغها أنه من شدة ولهه وعشقه لا ينام، فكيف يكتب لها ويكرر عبارة «بحلم بيك» التي لا يمكن إلا أن يـُستشف منها أن قائلها ينام ملء جفونه ويشــّخر أيضا.
وبعد محاولات مستميتة، وجدت ما يناسب صاحبنا، فكدتُ أقفز وأصيح: «وجدتها.. وجدتها» على نحو ما فعله عمنا أرخميدس. فكتبتُ بخط أنيق على ورقة تزين زاويتين من زواياها ورود الحب الحمراء، وتزين الزاويتين الأخريين فراشتان ملونتان: أحبك فوق ما تتصور.. وأعزك فوق ما تتصور.. وطول عمري.. وأنا عيني عليك يا عيني بتدور.. أحبك وأعزك فوق ما تتصور عندي لك أشواق كتير.. عندي لك أحلام كتير.
ولم أنس أن أطلب من صاحبنا الولهان أن يضع توقيعه تحت ما كتبته له، ولم ينس هو أن يسألني إن كان هناك من إضافة ضرورية كي يكسب قلب فتاته، فقلت له: نعم! أتمم الحبكة بتضمين الرسالة وردة جافة أو قطرة من عطرك، كما يفعلون في الأفلام. فوجدت في عينيه حيرة وتوسلا للمساعدة من جديد، لأنه لم تكن لديه ورود جافة، كما كان من جهة أخرى في خصومة دائمة مع العطورات، في ما عدا أيام الأعياد حينما كانت أمه ترغمه على رش قطرات من عطر «ريفدور» الرخيص على جسده. وهكذا لم أجد مفرا من أنْ أعطيه عدة قطرات من عطري الخاص.. عطر «بروت» الأمريكي الذي كان للتو قد راج في الأسواق وانتشر بين الشباب بزجاجته الخضراء الأثيرة والسلسلة الفضية القصيرة المتدلية من عنقها.
غير أن هذا أيضا لم يسدل الستار على مشكلة صاحبنا، إذ قرأتُ في عينيه سؤالا ملحا حول كيفية إيصال «الخط» إلى وجهته الصحيحة، من دون الوقوع في مزالق لا تـُحمد عقباها، مثلما حدث للكثيرين من الزملاء في زمن البراءة والعفوية والأحلام الوردية. ففقدتُ هنا صوابي، وأخبرته صراحة أنّ عليه أن يعتمد في هذا الأمر على نفسه ولا ينتظر مساعدة من أحد.
ويبدو أن صاحبنا تصرف بطرقه الخاصة فأوصل «الخط» إلى حيث ما أراد بسرية، كما بدا أن ردود أفعال فتاته كانت مشجعة لأنه اكتفى بذلك ولم يعد يطلب مساعدتي من جديد. هكذا كان «الخط» في الزمن القديم، يقرب المسافات بين الأحبة، ويجسد على الورق ما في الفؤاد من وله وعشق، ويأتيك بالأخبار والحكايات والطرائف أيضا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى