ثيمة «الجندي» في هوليوود وصناعة السلام على الطريقة الأمريكية

عبدالله الساورة
لا تبتعد هوليوود كثيرا عن أفلام الحرب، فهي من الأفلام المحببة لها التي دعمتها منذ وقت طويل.
طيلة القرن 19 و20 وبداية القرن 21 عاشت البشرية حروبا طاحنة.. ظل فيها الجندي الوقود الدائم لهذه الحروب.. لذا عمدت السينما إلى تكريم الجندي المجهول في مجموعة من الأفلام العالمية التي لخصت مغزى الحروب وهمجيتها وبينت كثيرا من حالات الانتصارات وخيبة المنهزمين. الجندي في السينما ليس فقط المنتصر، ولكنه أيضا المنهزم نفسيا وماديا.
الفيلم العسكري أو أفلام الحرب أو الجندية شكلت وتشكل خلال مراحل من تاريخ السينما القلب النابض للسينما، لكن التساؤل المطروح لماذا يذهب المتلقي لمشاهدة هذه النوعية من الأفلام؟ ألا يضع المشاهد نفسه في خانة المنتصر والمتقمص الدور وهو يقود حربا نفسية في داخله من أجل أن يتجاوز البطل الصعاب ويفوز بالحرب.
ثيمة الحرب في السينما شاسعة نظرا لحجم ما خلفته البشرية من حروب وكذلك ما خلفته السينما من ترسيخ لهذا النوع السينمائي ذي الميزانيات الضخمة وقافلة لا تنتهي من الأبطال المشهورين. انتهت الحروب الصليبية وتركت الفرصة سانحة لتغترف السينما من نبع أرشيف هذه الحروب. وعاشت الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1800 أي منذ بداية القرن 19 حروبا لم تنقطع؛ بدأتها مع إسبانيا وأنهتها في نهاية القرن مع إسبانيا … وعاشت هول الحرب الأهلية ومقتل رئيس الدولة إبراهام لينكولن وهو يردد جملته الشهيرة «سياستي بسيطة وواضحة مثل رقصة امرأة عجوز».
عاشت السينما أجواء الحرب العالمية الأولى وفصلت في أسبابها وخرجت السينما الوثائقية وهي ترصد كل كبيرة وصغيرة في هذه الحرب وتبعتها السينما الروائية، بالتركيز على لحظات الانتصار وعلى أبطال هذه الحرب وكيف دخلت الولايات المتحدة عام 1917 مرتاحة بعد بيعها للأسلحة والغذاء، لحسم نهاية الحرب إلى جانب الحلفاء وتكبيد ألمانيا والدولة المنهزمة مذاق الاتفاقيات المجحفة. انتقلت السينما بنوعيها الروائية والوثائقية وحتى الرسوم المتحركة لتنقل مجريات الحرب العالمية الثانية بكل أهوالها، وخصصت جزءا كبيرا لمشروع مارشال وكيف قاد الجنود الأمريكيون بلا خوف وبلا جزع وهم ينزلون على شواطئ نورماندي وشواطئ المغرب استعدادا لحرب لا هوادة فيها. فقط أن ما أنتج حول الحربين العالميتين يمنح الباحث مادة للبحث لا تنضب في ماهية هذه الحروب، في منطلقاتها وأسبابها وكذلك نتائجها الكارثية. هل يختلف جندي الحرب الأهلية الأمريكية عن جندي الحرب العالمية الأولى والثانية؟
حطت الحرب أوزارها لتدشن السينما مفهوما جديدا للحرب الباردة بين العملاقين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وبين المعسكرين الغربي والشرقي. وحدها السينما عاشت هذه الحروب لنتعرف من خلالها؛ وأحيانا من وجهة نظر هوليوودية، قلب الحقائق رأسا على عقب في حرب فيتنام الشهيرة، إذ بدا الفيتناميون كقبائل من الخوف والتسول وبدت الفيتناميات عاهرات يعرضن أجسادهن على الأمريكي في حالة من الخوف والاستعطاف. وحدها السينما خاضت حربا أخرى، حرب بروباغندا همها الأول كيف يغدو الجندي الفيتنامي الشرس خائنا وهاربا وراميا للسلام ومفضلا الذل والهوان على لغة الشرف والكرامة.
تنقضي حرب فيتنام بفصولها المريرة لندخل أزمة برلين ويختلط خيط رفيع بين أفلام الجاسوسية وأفلام الحرب؛ ولتتشابك الكثير من الخيوط في سؤال من يسيطر عسكريا بتحالفاته ومن يهيمن بثقافته وطرقه الناعمة على العالم.
السينما تاريخ طويل من الحروب لا تنتهي حتى تبدأ حروب أخرى أكثر خرابا وهولا وحرقا للزرع والضرع… صورت السينما مآسي اللاجئين والقتلى واليتامى والشيوخ والأرامل وعويل الأطفال المر كصرخة إنسانية في أفلام ظلت خالدة لا تخلو من نبرة تحيز، لتأتي الأزمة الكوبية وتدخل هوليوود بترسانتها الإعلامية في تشويه ثورة وليدة في كوبا وفي تصوير فيدل كاسترو وتشي غيفارا قطاع طرق ومجرمي حرب. وحدها السينما الهوليوودية لها هذه القدرة الكبيرة بفضل إمكانياتها في تشويه خصوم وأعداء مصالح أمريكا أينما كانوا.
ينال العربي حظه من الحروب مع إسرائيل وتدخل السينما الهوليوودية لتعكس وجهة نظر اسرائيل وأمريكا المتحيزة لها، فنجد الجندي العربي يقاتل دون أن يعي لماذا يقاتل… عاشقا لسفك الدماء.. لا يستخدم عقله وليس له القدرة على المساءلة ونقد الأوضاع. في حين تصور سينما هوليوود ومعها السينما العبرية أن الجندي الإسرائيلي والأمريكي بطبعه محب للسلام.. يضحي بنفسه في سبيل إنقاد الأطفال والنساء ويفضل الموت دفاعا عن الآخرين ليحقق لهم سبل النجاة.
كم هي غريبة هذه السينما وهي تحيط نفسها بهالة كبرى وترصد رحى الحرب الباردة في أفغانستان، ليظهر رامبو بطلا لا يقهر، وتتسلل السينما الهوليوودية إلى مخيمات صبرا وشاتيلا ويصبح الفلسطينيون أكبر صناع للضغينة والقتل والموت.
مسارات الجندي في السينما يمكن تقسيمها إلى الجندي العدو المتغطرس الذي يستحق الموت والقتل بلا رحمة والجندي الأمريكي الذي تتعاطف معه السينما وتصوره وهو يودع قريته النائية ووالدته تذرف الدموع وأخته من شدة حبها لأخيها لا تستطيع توديعه وهي تذرف الدموع من وراء النافذة… يجتاز فترة التدريب القاسية ويلقن خلالها كيف يحب الوطن ويستعد للموت من أجله، ثم يرحل إلى العراق، سوريا، ليبيا واليمن… حيث تصورها هوليوود في صورة «القبائل الهمجية» و»شوارع الدم» و»المتعطشين للهجومات الانتحارية». وحده الجندي الأمريكي يعرض نفسه للخطر في سبيل انقاد العراقيات وهن يتعرضن لأشد أنواع الإهانة والذل والاغتصاب… وحده الجندي الأمريكي والسينما الهوليوودية وهي تقيس درجة تخلف المواطن العربي وتصوره كأنه من زمن آخر. بدت كلمات الرئيس صدام حسين فاترة بلا جدوى وهو وينام والمسدس تحت رأسه ويستيقظ مرعوبا باحثا عن سرواله، يا لها من صورة يظهر فيها الزعماء وهم أقل شأنا «يذوبون» في نزواتهم الصغيرة، وحده الجندي الأمريكي قادر على معرفة خرائط بغداد والصحراء الكبرى للجزيرة العربية.
لا تكتفي هذه السيطرة وهذه الهيمنة للسينما الهوليوودية حتى يظهر جندي من طينة حرب النجوم يلاحق الأعداء حد السماء، ويدافع عن الأرض فيصبح الأمريكي حامي هذا العالم.. تظهر أنواع من المركبات الفضائية، هنا تختلط الحبال بين أنواع سينمائية من أفلام المغامرات والتجسس وحرب النجوم والخيال العلمي. الأعداء أو الجنود الأعداء لهم صفات غير بشرية، فهم متحولون.. ممسوخون، همهم السيطرة على الأرض وتحويل سكانها إلى عبيد وحرمانهم من الماء… صورة قاتمة ترسمها سينما هوليوود عن الآخر بوصفه «الجحيم».
فجأة واستلهاما من جندي حرب النجوم يظهر جندي آخر من طينة سوبرمانية: مواطن أمريكي عادي بفضل ما وصلت له أمريكا في مجال الأبحاث يظهر هذا الأمريكي السوبرماني بخلفية الضفدعة والعنكبوت.. القادر على الغوص في أعماق البحار الذي يصبح لهيبا في مواجهة الممسوخين من الأعداء. السينما الهوليوودية قادرة بفضل مؤثراتها أن تحارب الشر المقبل من خارج كوكب الأرض ومن داخله معلنة عن مرحلة جديدة من النظام العالمي الجديد. سوبرمانية أمريكية سينمائيا تفرض ذوقها وحيواتها المختلفة على باقي الشعوب.
يظهر الصوماليون والإريتريون والروسيون والكوريون الشماليون.. أشرارا وقراصنة وإرهابيين وقطاع طرق.. ويظــــهر الفلسطيني مجبولا متعطشا للدم ويبدو النازي وقد استيقظ لتوه ومعه الفاشستي كطغاة يحملون ضغينة كبرى لهذا العالم.. ويظهر الاشتراكي والشيوعي والعربي والبوذي والهندي… مخلوقات هشة تنتظر من الأمريكي صانع السلام أن يعيد تأهيلها.
لم يسلم التاريخ القديم ولم تسلم الميثولوجيا الإغريقية هي الأخرى من التزييف، فحرب طروادة نفسها شهدت فضاعات هوليوود وحولتها من حقيقتها الأسطورية إلى مجد أمريكي تنتصر فيه على قوى الشر.. تلك هي السينما، كما قال جون كوكتو «شعب لا ينتج الصور محكوم عليه بالإعدام».
(القدس العربي)