جماليات كلاسيكية بالأبيض والأسود احتجاجا على الزمن

الجسرة الثقافية الالكترونية

*سليمان الحقيوي

المصدر / القدس العربي

فيلموغرافيا المخرج الكسندر باين تدعو إلى البحث عن التشابهات الكامنة فيها، وعمله الجديد (نبراسكا Nebraska) يدفع إلى استحضار المؤتلف والمختلف في هذه التجربة، فمن جهة تصبح الطريق سياقا حكائيا معشوقا لديه، بعد عملين قدمهما غير بعيدين عن هذا المنحى، حيث يجعل جاك نكلسون في فيلم «عن شميت «About Schmidt (2002) يطارد ابنته، في رحلة طويلة لمنعها من الزواج، وفي فيلم «طرق جانبية Sideways» (2004)، يرصد رحلة رجلين عبر مزارع العنب في كاليفورنيا. ومن جهة أخرى يحرص باين على تقديم سينما العائلة فقد قدم قبل عامين فيلم «الأحفادThe Descendants «، الذي عالج فيه محاولة بارون احياء علاقته بابنتيه بعد إصابة زوجته بمرض مزمن، وها هو الآن يعود في عمله الجديد «نبراسكا» ليقطف فيه من كلا الشجرتين؛ فالطريق حاضرة هنا في رحلة الأب وابنه، والعائلة أيضا في تسليطه الضوء على العلاقات الاجتماعية بين كبار السن وابنائهم، والأمر المؤكد هنا، استمرارية باين في التوجه إلى السينما بجديته الفائقة والمعهودة، وهذه الائتلافات لا تنم عن تكرار فني، بل تُبرز الرؤية الفنية الخاصة بالرجل المتمَكِّن منها والمُطوِّع لها.
لا يستغرق الأمر كثيرا حتى يعلن الفيلم عن السمات السابقة، حيث يعود المخرج في فيلم نبراسكا إلى قصة رجل مسن وودي (بروس ديرن) ويكشف عنه أول مشهد في الفيلم يقطع الطريق راجلا في محاولة للذهاب إلى نبراسكا، لِتَسلُّم مليون دولار يعتقد أنه فاز بها، ثم يعود به شرطي إلى مخفر الشرطة ويأتي ابنه دافيد (ويل فورت) لإعادته إلى المنزل، وعبثا حاول إقناع والده بزيف الإعلان الذي يعتقد أنه سيجلب له مليون دولار، المهم هنا أن الابن سيحاول إرضاء أباه وسيصطحبه في رحلة طويلة – رغم اعتراض الأم ـ يمران فيها بالبلدة التي نشأ فيها الأب ويعيد إحياء الصلة بالأصدقاء هناك، وفي الأخير يحقق ديفيد حلم والده ويشتري له عربة وجهاز ضغط هواء كهربائي. ورغم السير الخطي للقصة فقد تفرعت عنها أحداث أخرى كالعلاقة المتكسرة بين وودي وزوجته، أو بين الناس وجشعهم عندما انتشر خبر فوز وودي بالمليون دولار.
يحضر الماضي عنوة في هذا العمل فالمخرج في كل عناصره الفيلمية يستدرجنا إليه، ويطغى على القصة الحنين إلى الماضي، من خلال رحلة الأب وابنه والتقائهما بأصدقاء الأمس، وهي بمثابة رحلة في الزمن عاد بها الأب إلى حياته الماضية وتذكر فيها أشياء بدَّدت ـ نسبيا ـ حالة الفتور بينه وبين أفراد عائلته، الماضي حاضر أيضا من خلال الإيقاع الذي يحضن الأحداث، فالبطء هنا سمة مميزة للفيلم عموما، وهو يناسب قصة يمكننا اعتبارها، تجاوزا، تدور حول كبار السن، والمهم في الإيقاع أنه ناسب الحركة في الفضاء والحوار وسير الأحداث، لذلك لا أعتقد أن التسريع كان ليفيد القصة في شيء، وتستمر هيمنة الماضي أيضا في القطيعة مع المستقبل، حيث ظهر نفور المخرج من الألوان واعتماده الأبيض والأسود اللذين يمثلان الحنين والشوق والاسترجاع، رغم ما قد نلاحظه من عدم جدواهما في بعض المشاهد الطبيعية التي افتقدنا فيها الألوان الطبيعية، لكن رغم ذلك فالأمر يهون مقابل الرهان الكبير الذي راهن عليه المخرج من خلال كل هذه التلاقحات الفنية التي خالفت الاتجاه السينمائي الحالي في كل شيء.
لقد ظل المخرج وفيا لعديد من الاختيارات أهمها المضامين؛ فالعلاقات العائلية تشكل لديه مبدأ العناية الخاصة وهنا غاص فيها بشكل أعمق من خلال الزوجة المتسلطة مع زوجها التي تعتبر سببا وجيها لديه في إدمان الخمر، ثم هناك الابن الذي ساير أباه في حلم مزيف وحاول ترتيب بعض من علاقات الأسرة التي صارت متصدعة.
ومن ناحية الصورة فنلاحظ اختيار المخرج الاعتماد على الكاميرا الثابتة، ولم نكد نلاحظ حياده عن هذا ذلك، لأن الالتقاط الثابت يتماشى مع مجمل مقاصده، ففيه يتميز أولا بالإيقاع الهادئ، الإيقاع الذي يتحرك بحركة الشخصيىات الرئيسية نفسها، وتناغم هذه الالتقاطات مع طبيعة الرؤية الفنية للمخرج، من حيث تركيزه على الشخصيات في كل تحركاتها داخل الفضاء المغلق أو المفتوح، كما انتقل بأدواته إلى الفضاء الخارجي/ الطريق حيث رصده في وضعيات كثيرة ومن زوايا مختلفة، سواء عند مرور الشخصيات راجلة أو على متن سيارة، والأهم هو مساهمة الثبات في نقل المكان وجعله يعبر عن نفسه، وتتجلى وجاهة منطلق المخرج في اعتماد الكاميرا الثابتة في مزاوجتها بالالتقاط البعيد بزوايا جانبية ومتوسطة، ثم الالتقاطات الكبيرة في أثناء الحوار وتركيزه على الشخصيات بدءا بالملامح وكل الجسد بحسب مقتضيات التعبير. أما السيناريو فلم يخرج عن الجو الفني العام للفيلم، واشتغاله على الهدوء بطريقة لا تجعل الحوار متسرعا أو غير مناسب للحركة، بل ترك فجوات تعوض الشخصية فيها عن الكلام بالنظرات أو التعبير بالوجه. والسيناريست أخرج الفيلم في كثير من الأحيان عن دائرة القلق، سواء المنبعث من الألوان أو المتردد من صدى انكسار العلاقات، بمقاطع حوارية هي أقرب إلى الكوميديا، مما كسر الرتابة، والجميل في المشاهد التي تضمنت حوارات كوميدية أنها لم تقتحم جدية العمل ولم تنل من سير الأحداث وفق الأبعاد الإنسانية التي وضعتها القصة.
قد يتفق الكل في الذهاب إلى جدوى الأبيض والأسود في عمل يقدم سنة 2013، وهو الزمن الذي تتحدث فيه السينما لغة التقنية، لماذا أصر المخرج على اللون الأبيض والأسود إذن؟ صحيح أن فيلم الفنان الذي أُنتج سنة 2012 عُرِض بالطريقة نفسها، لكن شتان ما بين العملين، ففيلم الفنان يتناول حقبة تاريخية وقصة ملائمتين للونين الأبيض والأسود، لكن هنا الأمر مختلف. وعلينا أن نستحضر هنا فكر المخرج فهو ليس من مطاردي الأرباح وليس من الساعين لإرضاء شركات الإنتاج، فالرجل يشتغل بحسب رؤية فنية خاصة، واللون هنا هو استعارة بصرية تختزل البحيرة الكبيرة من الحزن التي تسبح فيها الشخصيات، وتهدم العلاقات الاجتماعية، كما أن غياب الألوان هنا هو طريقة احتجاج فنية فتعدد الألوان هو ترف بالنسبة إلى المخرج الذي يعبر عن قصة أغلب شخصياتها تعاني من أزمات مالية وعاطفية، هذا الكلام لا ينفي افتقادنا للألوان، لكن حتى غيابها هو مقصد فني آخر يجب أن يُنظر إليه في سياقات القصة والأحداث.
فيلم «نبراسكا» يقع داخل إطار فني رفيع تفتقده السينما اليوم، ورغم اختلاف النقاد حول مستوى الجمال فيه، فهم لم يختلفوا إطلاقا حول حتمية وجوده، وعلينا أخيرا أن ننظر إلى هذا العمل ككل متراكب، وعندها سنتذوق مستويات التعبير بمجازاته الفنية، وجماليات كلاسيكية تعود بنا إلى سينما الزمن الجميل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى