جمال أبو حمدان.. عامان على الغياب

ابراهيم خليل

من المؤسف والجارح ، أن تمر الذكرى الثانية لرحيل الكاتب الأردني جمال أبو حمدان بدون أن يشار إليه بمقالة، أو تعليق صحافي في إحدى الصحف الأردنية، مع أن هذه الصحف، ومع أن الكتاب الأردنيين، أدموا خدودهم لطمًا حين فوجئوا برحيله في 4 نيسان/إبريل من عام 2015.
وهذا يبدو طبيعا، فما إن تمر على المبدع في الأردن سنة واحدة من رحيله حتى يطويه النسيان. وهذا ما جعل شاعرًا هو حميد سعيد يتساءل في حوارٍ صحافي يتضمنُه كتاب «سنين عمان» عن سبب عزوف الكتاب في الأردن عن الكتابة حول الراحلين من المبدعين، شأن الكتابِ في البلادِ العربية. ولأن أبو حمدان كاتبٌ متعددُ الجوانبِ، فقد حق علينا إحياءُ ذكراه بمقالة قصيرة كهذه، وهذا في رأينا أضعَفُ الإيمان.
وُلد جمال توفيق أبو حمدان في رْساسْ القريبة من السويداء، حاضرة جبل العرب، في القطر العربي السوري، سنة 1944. وتنقل في بيروت، والقاهرة، التي درس فيها الحقوق، وعمان، التي استقر فيها موظفًا لدى الإذاعة الأردنية، معدًا لبرامج، ثم مستشارًا قانونيًا في الخطوط الجوية الملكية الأردنية (عالية) من 1971- 1989 ومحررا ثقافيًا في «الرأي» من 1971- 1973 اختير عضوًا في هيئة التحرير لمجلة «أفكار»، ومجلة «جسور»، ومجلة «2000» التي تصدر في لندن، ومجلة «صِفْر» التي تصدر في باريس.
كتَبَ القصة والرواية والمسرحية والشعر والدراما المتلْفَزَة وقصص الأطفال، ونال الجوائز في كل منها عدا الرواية، ومن أشْهر أعماله المنشورة: «الخروج الثاني- دراسة (1968) أحزان كثيرة وثلاثة غزلان – قصص (1970) قصائد حب من العالم – مختارات (1972) النهر (قصص أطفال) 1973 حكاية شهرزاد الأخيرة (مسرحية) 1982 ليلة دفن الممثلة جيم- مسرحية (1993) نصوص البترا (قصص) 1994 الموتُ الجميل (رواية) 1998 مملكة النمل (قصص) 1998 البحث عن زيزياء (قصص) 2000 زمان آخر (5 نصوص مسرحية) 2002 زمن البراءة (قصص أطفال) 2002 قطف الزهرة البرية (رواية) 2002 وموتُ الرجل الميت (قصص) 2005صندوق الدنيا (4 مسرحيات) 2005 أمس الغد (قصص) 2010 مكاور (يقظة سالومي) 2017».
ومن أعمالهِ التلفزيونية: «الطريق إلى كابول، ذي قار، الحجاج، امرؤ القيس، زمانُ الوصل، شهرزاد، ومسلسل: مالك بن الريب». ولو لم يكنْ جمال أبو حمدان كاتبَ روايةٍ وقصةٍ قصيرةٍ ومسرحيةٍ وسيناريو، لكان شاعرًا، بلا رَيْب، ذلك لأن منْ يقرأ آثارهُ، تتكشفْ لديه ظاهرةٌ تَطْغى على ما يكتُب وُيؤلفُ، وهي ظاهرةُ الشعر، التي تنْبَعث بإشراقاتها من خَلَال السطور والحوار، وحتى منْ خَلَال الألفاظ النفاذة العَبِقَةِ بما تخثر فيها منْ ماءِ الشعر وروْنقِ القريض. وما يتصادى في أنْساقِها منْ إيقاعاتٍ موسيقية، وجروسٍ رخيمَةٍ، يتعمدُ الحفاظَ عليْها في السرْد والوصْف والإنْشاد، وكأنها ضرْبةُ لازم، مما يقربُ نثرهُ من الشِعْر؛ سَلاسةً، وتراكيب.
ففي أعْمالِه المبكرة نجدُ الرمْزَ، وهو أداةُ تعْبير في الشعر أكثر منَ النَثْر، ولو أن النثر لا تُعْوزهُ الرموز في قليل من الأحيان. فأبو حمدان يتوسلُ بالرموز في قصص «أحزان كثيرةٌ وثلاثةُ غِزْلان»، فالبندقية في يد الجندي المهزوم رمزٌ، والصحراء التي يتيه فيها الجندي المدْحور رمزٌ أيضًا، وزليخة، التي تحيلنا إلي شكل غير مبسط من التناص الديني، هي الأخرى رمزٌ. وهذه الرموزُ لا تظهر في قصَصِه ظهور الماركة المسجلة التي تلصقُ على البضائع الكاسِدَة، شأن غيره من الكتاب، بل هي رموزٌ لها جذورٌ بعيد في ترْبة النص. ونستطيع أن نشيرَ للطابع الرمزي لقيْس بن الملوح، في قصة «من هنا طريق قيس». ومثلما يعتمد الشعرُ على الأساطير، يعتمدُ أبو حمدان في خطابه القصصي على الأسْطورَة، وإنْ لمْ يعتمد على الأسطورة، اتخذ من النموذج التاريخي، الذي لهُ حضورٌ شبه أسطوري في الوعي الجمْعي، بديلا للأسْطورَة. وهذا واضحٌ في قصص فراس الصابي، وقصة أبي ذر الغفاري، وقصة سبارتاكوس، البطل الأسْطوري الذي يرمز لثورة العبيد في العصر الروماني. ومن المؤسِفِ أنْ يَذهبَ باحثٌ أكاديميٌ في دراسَةٍ له عن المرْجعيات المعرفية في القصة الأردنية القصيرة، للزعْم بأن مفلح العدوان هو أول من كتب القصة القصيرة، معتمدًا على الأسْطورة في مجموعَتِهِ «الرَحى»، فضلا عن أنه رأيٌ متسرعٌ، لا يقومُ على دراسة، وبحثٍ جاديْن- فإنه مخالفٌ للواقع، فأبو حمْدان كان قد أصْدر مجموعته «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» قبل مفلح العدوان بنيفٍ وعشرينَ عامًا، وقد أتبعها بمجموعاتٍ أخْرى، وقصص نشرتْ في مجلاتٍ، وفي أوقاتٍ متباعِدَة، علاوةً على أن كتابًا آخرين، منهم فخري قعوار، التفتوا لاسْتخْدام الأسْطورة، وذلك واضح في مجموعَتَيْه «البرميل»، و»الخيل والليل» وغيرهما. وفي «مكانٌ أمامَ البَحْر» نجد القاص أبو حمدان يبتعثُ السندباد حيًا من أوراق ألف ليلة وليلة، مثلما ابتعث شهرزاد في مسرحية له بعنون «حكاية شهرزاد الأخيرة في الليلة الثانية بعد الألف» وزرقاء اليمامة في مسرحية بعنوان «رؤية أخيرة». ومنْ يقرأ قصَة السندباد المذكورة، يستولي عليْه أسلوبُ الكاتبِ بما فيه من حديثٍ عن الزورق الورقي، وهو حديثٌ يجعلُ من النَثْر القصَصي شبيهًا بقَصيدَةْ نثْر لشاعرٍ لا يخلو شعرهُ من بَراعةٍ وجوْدة، لا كشعْر المتشاعرينَ، ممن لا يقْدرونَ على التفريق بيْنهُ، وبيْنَ النَثْر.
والعَجيبُ، الذي يسْترعي النظرَ، أن مَسْرحية « ليلة دفْن الممثلة جيم» وهي نثْرية، تكادُ تكونُ في بعْض المشاهد، والحوارات، شعرًا لا يُعْوزْهُ الوَزن، ولا تنقصُهُ القوافي. ها هوَ ذا يقولُ على لسانِ أحَدِ الشُخوص:
في يوم الفرْحَةِ والأشْواقْ
تدهمُنا ذكْرى موْتانا
فيهِل الدمْعُ منَ الأحْداقْ
في يوم الندْبِ على الموتى
يدهمُنا نِسْيانُ الماضي
ويفجر ضَحِكاً في الأعْماق.
وهذا الأسلوبُ الذي يغلبُ عليه الشعر نجدهُ في الحوار الذي يحتد فيه النقاش بين المتحاورين والخلاف. ومن يتتبع ذلك بصبْر يجد الكثير من الأمثلة التي تدل دلالاتٍ مؤكدةً على ما تتسمُ به لغته الدرامية من خياراتٍ أسْلوبية تميزُها عن لُغة النثر، وتقربُها من لغة الشعر، بعيدًا عن ركاكة المسرح الهابط الذي يُهيمن على هذا الفن منذ عقود ٍكثيرةٍ. أما مسرحيته «صندوق الدنيا» (2005) فتكادُ تكون كلها شعرًا. وفي مسرحية «القضْبان» نقرأ هذا الوصفَ على لسان السجان «كانتْ عيناها حقلا أخضر، يمتد.. ويدعونا.. وكنا خيلا كابيَةً.. وفرساناً مهزومين.. ولا نقدر على الخروج من هذا الجلْدِ العَفِن. الضيق. ولا نتجاوزُ هذه القضبان». فهذا قولٌ يتضمن دلالاتٍ عدةً يومئ إليها، ويوحي بها، البعدُ الرمزيُ للحقل، والخيل، والفرسان، والعفَن، والقضبان.. ونستطيع الوقوفَ على مثل هذا الأداء في مسرحيته «حكاية شهرزاد الأخيرة في الليلة الثانية بعد الألف». ونقرأ ما يستهل به أبو حمدان روايته «الموتُ الجميل» قائلا: «المكان قصيٌ عن كل المواقع، مغلفٌ بصمت غامض، وعلى جدرانه حشائشُ شرشتْ بين الشقوق.. ثم اشرأبتْ رؤوسها اللدْنة تستطلعُ مَقْدَم الشمْس ومغيبها.. النور يسقطُ من شقوق مُوارَبَة.. ويختلط بغبار دقيقٍ كأنه طلْعُ زهْرة الزمَن الذابلة» فهذا استهلالٌ طافحٌ بالنعوت المجازية المبتكرة: مغلفٌ بالصمت..الصمتُ غامِضٌ.. رؤوس الحشائش اللدْنَة.. طلْعُ زهرة الزمَن. الزمنُ ذابلٌ.. وهذا التكثيفُ المجازيُ لا تفتقر إليه سُرودُه، ولا حِواراتُه، ولا مشاهدهُ الوصْفية، لا في القصص القصيرة، ولا في الرواية. ومع ذلك، لا تخلو، أيضًا، روايتهُ من ومضاتٍ تظهر هنا، ووَمَضاتٍ تظهرُ هناك، تقربُ خطابه القصصي والروائي، من لغة الحديث اليومي. ولا يخلو خطابُه الدرامي من استعمالاتٍ تقتربُ بهِ منَ الأداءِ التداوُلي، وتحقيق التوازنِ بيْن الشُخوص والحوار الذي ينطلقُ على ألسِنَتها، ما كان منهُ حوارًا فرديًا داخليًا، أوْ ما يُعرفُ بالمونولوج، أو حوارًا غيرَ فردي، متعدد الأصْوات، أو ما يُعرف بالديالوغ. وهو، في جُل الأحْوال، لا يفتأ يُلقي على خطابه رداءِ الشعْر الرقيق، المتناغِم، الذي يؤثر في المتلقي تأثيرَ السِحْر، ويعْذُبُ في سمْع القارئ عذوبَةَ رناتِ المثالثِ والمثاني. ولهذا نرى في آثارهِ ما يَحفِز المتتبعَ، والباحِثَ، ليتناوَلها محللا، مُبرزًا ما فيها منْ مزايا ينْفردُ بها عنْ غيرهْ منْ الكتاب الذين تملأ أسْماؤهُم الساحات، وتُسلط الأضْواءُ على أعْمالهِم في الصُحُفِ والفضائيات، وتدارُ كؤوسُ التقْريظِ مُتْرعَة في الثناءِ عليْهِمْ في المؤتمراتِ والملتَقَيات. فآثاره في القصة والرواية والمسْرحِية، فيها الكثيرُ مما يُلقي الضوءَ على تميزه في هذهِ الفُنون، ويدْعو للإشادَة بذكْرهِ، فهْوَ كاتبٌ، وفنانٌ، قريبٌ من الذاكِرَة، بعيدٌ عَنِ النِسْيان.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى