حتى «الخبز» يعاني من الاحتلال الإسرائيلي في القدس العتيقة

الجسرة الثقافية الالكترونية
#فادي ابو سعدى
لا يمكن لك ان تمر في القدس المحتلة مرور الكرام، فهناك الكثير من الطقوس التي عليك ممارستها وتجريبها، وإلا فالزيارة ستكون ناقصة، ولم تتعرف على المدينة كما يجب.. كأن تتوقف عند أحد أبواب القدس العتيقة، وتحديداً باب العامود، لتشرب فنجان من القهوة العربية، أو تتذوق كعك القدس بالسمسم، وتراقب وجوه الناس وتحركاتهم، قبل ان تهم بالدخول إلى داخل أسوار البلدة القديمة فيها، لاكتشاف المزيد من خبايا المدينة وحكاياها.
ورغم ان تفاصيل البلدة القديمة كثيرة، وفيها الكثير من المواقع الدينية وغيرها التي لا بد من المرور اليها.. سواء المسجد الأقصى المبارك، أو كنيسة القيامة، أو التراث المعماري، أو السوق القديم، إلا ان نسبة الألم فيها قد يفوق أحياناً كل ما فيها من تاريخ وجمال، حيث استولى المستوطنون على عشرات المنازل القديمة، واستوطنوا في أجمل المواقع المطلة على المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، والكثير من المواقع الأثرية الأخرى.
في السوق القديم داخل أسواق البلدة العتيقة، ترى أصل التوابل، وسوق القماش، والمصنوعات اليدوية من الأكل حتى التراث والتطريز، ولا بد من تذوق بعض أطباق الفول والحمص والفلافل، في أقدم الأماكن وأصغرها، حتى تقول انك زرت القدس. وداخل حارات القدس القديمة، وتحديداً في حارة الشرف، لا بد ان تقودك رائحة زكية، إلى فرن صغير جداً، رغم انه بدون لافتة تدلك عليه، كون الاحتلال الإسرائيلي هناك بالمرصاد، ويحاول تغيير معالم الحارة بأكملها، حتى انه أطلق عليها «حارة اليهود»، وليس فقط الفرن، لكن هذا الفرن بالذات، له حكايته مع الاحتلال ومستوطنيه.
هذا الفرن، كان قد بني خلال عهد المماليك، وأصبح بعد ذلك وقفاً إسلامياً، استأجرته عائلة أبو سنينة وما زالت أجيال هذه العائلة حتى الآن تديره، لكن القصة ان سماسرة الاحتلال بدأوا، في محاولة إقناع أصحابه ببيعه، ما جعلهم يدفعون ثمن ذلك عبر الكثير من المضايقات، التي بدأت بالكلامية، ثم تطورت إلى الكتابة على باب الفرن، وتهديد أصحابه مثل «الموت للعرب- الانتقام قريب».
ومع مرور الوقت، ازدادت اعتداءات المستوطنين على الفرن وأصحابه، حتى تم إرغامهم على إغلاق الفرن أيام السبت، رغم انه اليوم، الذي يأتي فيه الفلسطينيون من فلسطين المحتلة عام 1948، إلى مختلف المدن الفلسطينية لقضاء الإجازة والتسوق، خاصة في القدس العتيقة.
بعد ذلك بفترة، قام المستوطنون وعن طريق أكثر من جهة دينية تابعة لهم، بـ»تحليل» خبز الفرن لليهود المتدينين ما يعني السماح لهم بشراء خبز هذا الفرن، بعد إجبار صاحب الفرن على تعيين موظف يهودي، ليقوم بدوره برمي قطعة من العجين، داخل قطعة من القصدير داخل الفرن كل صباح، حتى يتمكن اليهود من شرائه، دون أي تحريم حسب ديانتهم.
ورغم ان هذا العامل اليهودي في الفرن، منذ ثلاثة عشر عاماً، إلا ان وزارتي الأديان والصحة في حكومة الاحتلال، لا تزالان تحاولان الضغط على أصحابه، لإغلاق الفرن، ما أجبره على طرد العامل اليهودي، وان يعتاش مرغماً على المتسوقين العرب، وهم قلة قليلة، خاصة وان من يريد شراء الخبز منه، قد يكلفه ذلك الكثير، فاليهود المتدينيون المسيطرون على تلك الحارة، لا يحبون رؤية مقدسي أو أي فلسطيني يقترب من المنطقة، أو الفرن فيها، ومن يقترب منه يتعرض للضرب، أو الرش بالغاز، أو إذا كانت امرأة فيحاولون نزع حجابها، والكثير من أشكال الاعتداءات.
ضغط سلطات الاحتلال على أصحاب الفرن، لم يتوقف بالمطلق، فقد أصدرت السلطات الإسرائيلية، أمراً يقضي بإغلاق للفرن في أيام الأعياد اليهودية، وكانت الحجة في ذلك، كي لا يشتم اليهود رائحة «الخميرة» التي يوضع منها في عجينة الخبز، ويؤدي لإفساد صيامهم، لان اليهود لا يأكلون الخبز في أعيادهم، فأجبروا عائلة أبو سنينة على الالتزام بتعاليم ديانتهم. وكان سكان البلدة القديمة، يقومون باستخدام الفرن، عبر إحضار بعض المأكولات لعائلة أبو سنينة لإعدادها لهم، كـ»القدرة وصواني الدجاج»، ما كان يساعد الفرن في مزيد من الدخل، كي يبقى صامداً في وجه كل هذه التحديات والمضايقات، لكن الفلسطينيين لم يعد باستطاعتهم القدوم إلى المخبز، إلى درجة ان أصحابه يشعرون بالسعادة الكبيرة ان أتى «زبون» عربي، كونهم أصحاب الحق، ولا يجب عليهم التسليم بالأمر الواقع.
وذهب المستوطنون إلى حد تحذير السياح الأجانب الذين يزورون البلدة القديمة بالآلاف يومياً، من مغبة الشراء من هذا الفرن «الفلسطيني»، كما أصدروا أمراً بمنع أصحابه من استخدام الحطب أي «الخشب» وأجبروهم على استخدام السولار، وليست الكارثة في ذلك، بل بمنعهم من وصول سيارة السولار إلى الفرن، بل يوضع عند أبواب البلدة القديمة، ليجبر أصحاب الفرن على استئجار عامل لحمله على عدة مرات وإيصاله إلى الفرن.
ورغم الضرائب الإسرائيلية الباهظة، التي تفرضها إسرائيل على السكان الفلسطينيين في القدس المحتلة، إلا ان أصحاب الفرن، يحاولون قدر الإمكان دفع ما عليهم ومنع تراكمه، كي لا يستخدم ذلك ذريعة عند الاحتلال ومستوطنيه، وإجبارهم على إغلاقه أو مصادرته، رغم محاولات كثيرة من المستوطنين، بعرض مبالغ طائلة على العائلة، كي يشترونه وبالمبلغ الذي يريدون، لكنهم يرفضون كافة هذه العروض.
هذه هي حكاية عائلة، بسام أبو سنينة، البالغ من العمر 50 عاماً، متزوج، وأب لخمسة أبناء، فانه يفعل المستحيل للبقاء في مكانه، وفرنه الذي ورثه أباً عن جد، ولانه حقه، وكونه في فلسطين المحتلة، وفي عاصمتها التي يعاني حتى الخبز فيها من الاحتلال الإسرائيلي
#القدس العربي .