«حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله: ظلال الدلالة… العالم حين يصبح معتما

رامي أبو شهاب
يمضي إبراهيم نصر الله في البحث عن مجال لرؤية العالم، ولكن من على شرفته الجديدة، ونعني رواية «حرب الكلب الثانية» الصّادرة مؤخرا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، التي تأتي ضمن مشروعه السّردي «الشرفات».
وبين امتلاك الدلالة وتقديرها، تبدو الرواية ذات طابع تقني شبيه أو قريب الصِّلة بسلسلة الشرفات، غير أن «حرب الكلب الثانية» تتخذ نبرتها الجديدة أو مزاجها من جنون العالم الذي تستمد منه مادتها الرئيسة ما يجعلها أقرب إلى رواية توصيفية تختص بالحاضر، وإن بدت كأنها تحاول أن تستبق التاريخ أو الزمن بمدة وجيزة «المستقبل»، وهذا ما يجعل من القراءة على مستوى التلقي مخاتلة كونها ترتبط آليا باللحظة المعالجة، وعبر محاولة توصيف التطابق بين العالم المتخيل سرديا، ومرجعيته الواقعية، وفي بعض الأحيان تشعر بأن كلا العالمين اتحدا، وربما- يختلط الأمر على المتلقي- فيتحول إلى جزء من عالم لا يعرف إلى أيهما ينتمي، ولكن في كل الأحوال، فإنه يفضل أن يكون خارجهما من منطلق أن العالم بدا – واقعيا ومتخيلا- ملوثا في زمن لا قيمي، وكأن المنطق الأخلاقي بدا أقرب إلى ما عبر عنه نيتشه، حين رفض اعتماد المبدأ القيمي تبعا لمنظور تاريخي سياقي تحولت من خلاله الأخلاق إلى منطق بائس.
في المقاربة التي تنتهجها هذه القراءة السّريعة للمتخيل السردي «حرب الكلب الثانية» ثمة شكل من حيرة لا يمكن أن تنتهي إلا بأفعال من التّضحية ببعض المستويات التي ربما تحتمل وجاهة ضمن التكوين الدلالي العميق، وبوجه خاص لهذا النسق السّردي المتعدد المستويات، ولعل هذا النهج يبدو مفتعلا تبعا لهاجس عتيق بغية أن تختمر الوحدات السّردية في ذهن المنتج للنص، حيث تطالعنا في بداية الرواية «مقدمة قد تحذف»، وفيها ثمة بيان توجيهي لأجواء الرواية، كما بعض المداخل لفهم المبدأ المرجعي للنص، أو مناخه، هذه المقدمة كونها كانت معرضة للحذف بدت في جسد الرواية كنتوء صغير بعد أن تم صقل العمل، ربما لأن ثمة جوا عاما يحكم المغامرة السّردية.
ولعل هذا التّوصيف تبعا للهيكل السّردي كما الوحدات الدلالية، ينطوي على منحى تقني يعتمد البنية الحكائية، ولكن بنزعة سينمائية، ولا نعني هنا التجسيد أو الأسلوب السينمائي بتكوينه الصريح، إنما من زاوية تلقي العمل داخل ذهن القارئ، الذي ينبغي له أن يتخلص من كسله، ليعيد صوغ النص ذهنيا وبصريا ودلاليا حتى يتمكن من تحديد العالم المُتخيل كما ينبغي، وذلك للوقوف على المقاصد المُضمرة في بنية الرواية، وهي كثيرة.
تبرز الرواية بوصفها منحازة بالكلية للعالم السّردي بتقنياته المألوفة، ولكن ضمن التكوين الورقي ثمة حبكة سينمائية تطغى على الحبكة السّردية، ما يجعل هذه الرواية شبيهة بالعالم الذي نعاينه، حيث تختلط الأشياء، ولا نعرف أين يكمن الواقع؟ وأين الخيال؟
تستند مقاربتي إلى نهج انتقائي يستهدف تحديد مراكز الخطاب السّردي من منطلق أن عملية النقد مهمة انتخاب عناصر التأثير… مهما ادّعت غير ذلك، وهذا يستند إلى اعتماد البؤر السّردية التي يمكن أن تشكل مفاصل النسيج السّردي الذي يعتمد محورية شخصية «راشد» بوصفه نتاج عالم مُتخيل، ينتقل إلينا كضوء عبر ثقب يعكس واقعا مستقبليا، ولكني أراه أقرب إلى حاضر يتشكل، فثمة صورة في الرواية تنتج بفعل القمرة السّردية التي اتكأ عليها إبراهيم نصر الله في عمله، فالأحداث نراها ماثلة على ستارة عرض لا تنطبع عليها صور أو مشاهد فحسب، إنما ينبغي أن نرى ما خلفها، وكأن هذا ما يريده الرّاوي العليم الكلي حين يتجلى في الجسد الروائي بانتهاكات لاذعة تستجيب للمزاج النفسي المتشكك السائد في المتن.
سارعت بعض القراءات إلى خلع بعض التصنيفات على هذه الرواية، حيث نعتت بكونها تنطوي على عوالم فانتازية، أو عجائبية، وإن كنت لا أتفق مع هذا النهج لكون الرواية تمثل واقعا متجسدا، وليس محض سرد يعتمد لغة فوق واقعية، فـ»حرب الكلب الثانية» تتخذ من مبدأ الرؤية الذهنية الكنائية معتمدا دلاليا، فهي تختزن الواقع، وتعيد إنتاجه، ولكن ضمن منطق المعالجة السّردية التي تصوغ العالم بحدوده المُعاشة، أو ما سوف تؤول إليه بوصفه توقعا أو تنبّؤا مستقبليا، وهي الصّفة التي يتوق بعض الكتاب إلى تحقيقها، ولكن لا أعتقد أن كاتبا متمرسا كإبراهيم نصر الله سوف يعلق بهذا الشّرك الإبداعي من منطلقات سردية وفكرية على حد سواء، فهو يعتني بتجسيد الألم والقلق والمرجعية الحضارية ضمن تكوين تزامني شديد البراعة.
ومع أن الرواية توحي بأنها تستند إلى عالم مستقبلي مختلط، أو هو مقلوب رأسا على عقب، وبوجه خاص ضمن الوحدات السردية الآتية: الظلام أو الليل يطغى على النهار الذي كاد يتلاشى، كما أن الشخصيات أصبحت تعاني من وجود أشباه مما يؤدي إلى الخوف من التماثل لا الاختلاف، فضلا عن داء عشق النسخة لا الأصل، كما كان من انجذاب الشخصيات للسكرتيرة «شبيهة سلام» زوجة راشد، في حين أن الثائر الملتزم «راشد» يتحول إلى رجل أعمال، وخاضع لعلاقة معقدة مع السلطة، كما يتجلى في أدوار متعددة، وهنالك سيارات الإسعاف التي لم تعد مركبات للحياة إنما للموت والتجارة.
ومع أن الحرب الأولى حدثت بسبب كلب، في حين أن الحرب الثانية حدثت نتيجة إشكالية التشابه، أو التقليد، أو السخرية… التي غذّاها رمزيا «رجل يرتدي قميصا أحمر يقف على شرفة»، بالتراصف مع سياقات حضارية كما تتبدى في الكثير من الوحدات السّردية التي تشتغل ضمن تراتبية التكوين الدلالي، الذي لا يمكن له أن يكتمل إلا من خلال تحفيز ذهنية المتلقي، واعتماد ذكائه لتقدير الموقف، بحيث لا ينساق إلى محاولة تخيل المستقبل كما تنتجه الرواية ظاهريا، بل على العكس من ذلك، فالحاضر القائم في الرواية سينتج هذا العالم المتخيل الذي سيمسي واقعا مستقبليا كما تختزله الرواية، وهنا ثمة ملحوظات شديدة الأهمية في المجمل السردي العربي الذي ينأى بنفسه عن اكتناه بعض القيم الفلسفية الكونية للتّخريب الذي يبدأ لا من الإنسان، ومواقفه السّياسية فحسب، إنما ينعكس على علاقته مع الطبيعة، كما تصور الرواية التي تلتفت إلى هذه القيمة ضمن تصور متقدم، فهنالك رسم ملامح الانهيار البيئي كالظلام والعفونة والرائحة الكريهة والقمامة… كي ينسجم مع الأفول الإنساني القيمي الذي لم يدمر فقط ذاته، بل دمر العالم الذي يعيش فيه.
في الوحدة الأخيرة من الرّواية، يعود راشد ليظهر في خيمة بعد أن كان قائما في عالم أنجز قيم تطوره القصوى، وبعد أن تداخل مع الأشباه والقلعة، وبعد أن أضحت التقنية ملمحا بديلا للوجود، حيث تتراجع القيم الإنسانية وتتلاشى، ولكن الأهم أن نفتقد المنطق، وتختلط الأمور، فلا ندرك هل نحن الحقيقة أم الوهم؟ كما شخوص العمل التي تفقد يقينها بذاتها من شدة تداول الأشباه. وهنا تكمن فلسفة الرواية في عالم اليوم الذي ينطلق من حتمية افتقادنا للخصائص المتمايزة نحو نظرة كلية تسكن العقل البشري الذي يرغب بأن يتماثل بإرادة منه، أو بلا وعي، فالبغض القيمي والإنساني ينتج من أننا نبحث عن صورة واحدة هي قيمة التفوق والأفضل والأجمل، وبهذا السّعي فنحن نتجه إلى أن نخلق صورة مثلى نسعى لمماثلتها، أو مطابقتها، أو نرغب في أن نكون نمطا متفوقا، وفي الطريق إلى ذلك نفقد الكثير من إنسانيتنا وبشريتنا التي تنهض على معنى الاختلاف والتباين، كما أرادنا الخالق سبحانه وتعالى، وهكذا يتحول «التّشابه» إلى عامل من عوامل اندلاع الحرب والدمار، ولكن في ظلال تكرار النسخ، إذ لا نعلم من الحقيقي، ومن المزيف؟ وبهذا فإن العالم يسير إلى المزيد من الفوضى، فكلما اعتقدنا بأننا انتهينا من الفاسد الشبيه يتضح أننا لم نتخلص إلا من نسخة فقط، في حين ثمة نسخ أخرى.
لعل منطق الخرق يبدأ من تلك « القلعة» التي تجسد مفهوما سلطويا رمزيا، وهذا يتخذ من تكوينات ما بعد الحداثة التي تنتهج اعتماد الشركات العابرة للقارات، فالقلعة لم تعد حكومة إنما هي تكوين رأسمالي ينتج الموت والسلطة والخوف والقمع، وهذا يتحدد باتحاد مصالح بين راشد الثائر سابقا والمدير العام، ومن خلفه «حضرته» من أجل تحقيق أكبر قدر من الأرباح. ثمة تزاوج رمزي بين ما كان يمثل قديما قيمة الحق والثورة وبين السلطة بتكوينها الجديد، فراشد الذي اختبر التعذيب بين أروقة القلعة أعاد إنتاج ذاته تبعا لمنطق الحاضر، فانخرط في شراكة مع معذبيه، أو مع السلطة، وهذا تحقق رمزيا وسرديا من خلال زواج راشد من «سلمى» أخت الضابط الذي كان يعذبه سابقا، فضلا عن المشاريع التي عقدها مع المدير العام للقلعة، ولعل الانخراط في علاقة بهذا الشكل يعني أن العالم بات مقلوبا رأسا على عقب، وهو التجسيد الحقيقي لعالم بات يمتلئ يوما بعد يوم من أمثال راشد، فثمة أكثر من نسخة منه كالرّاصد الجوي والسائق، وهذا ينقلني إلى تمثيل ذكي لعالمنا الذي انتهكته قيم المراقبة، وفقدان الخصوصية، ويكنى عن هذا سرديا بقوة الإبصار التي تقاس بالبومة، فهنالك 3 بومات و4 بومات ، كما الراصد الجوي، والشرفة التي نتمكن من خلالها من رؤية مشهد ما، وربما المشاركة في صنع الحدث كما كان من صاحب القميص الأحمر الذى أسهم في تذكية نار حرب الكلب الثانية كما أسلفنا، والتي نتجت بالكلية من دافع قتل تمثل بالتماثل والرغبة بالبحث عن خصوصية الذات في عالم نزع هذا المعنى بالمطلق.
حادثة حرب الكلب الثانية تقودنا إلى الرغبة لمعرفة أسباب حرب الكلب الأولى التي نتجت بسبب كلب اشتراه شخص ما، وهنا أرى متعة في التنقيب أركيولوجيا عن أسباب الحروب التي نتجت عن دوافع غير مبررة ومعقولة، وهذا يبرز في تلك النبرات السّردية التي نتلقاها بين ثنايا العمل، فتأتي أقرب إلى خطاب هامشي يرغب الراوي من قارئه التنبه له، على الرغم من أن إبراهيم نصر الله «المؤلف» يشغلنا بمعاينة عالمه السّردي عبر وحدات سرية، تُعنى بتمثيل العالم المستقبلي كالشاشات الأثيرية والهواتف المدمجة مع الأثاث والسيارات ذاتية القيادة، وغير ذلك، ولكن الحقيقة الدلالية تكمن في هوامش العمل، بل في تلك العبارات والجمل ـ على لسان الرّاوي – التي تبدو كأنها غيمة شاردة أو لعلها خارج السّياق، كونها لا تحتفي بحرارة الحدث السّردي إنما تحضر على هامش الفعل، فالحروب التي خاضتها دولتان في أمريكا الجنوبية بسبب مباراة كرة قدم وحرب الآيس كريم والإيمو… تبدو من العمق الدلالي بما لا يمكن إلا أن نعتبره مركز التكوين العميق للنسق الإيديولوجي، ومقاصد الرواية المركزية، وهنا انتقل إلى عبارة عميقة… مع أنها بدت لي هامشية للوهلة الأولى، ولكن حين تأملتها أمست أقرب إلى حوار يكمن في اللاوعي لفهم تكوين العقل العربي القادر على خوض الحروب والقتل والتدمير لأتفه الأسباب، كما في المرجع التاريخي لحروب قامت من أجل سباق بين فرسين داحس والغبراء، وفي الحقيقة لا أعلم إن كانت كلمة الغبراء التي شكلت آخر الكلمات في المتن السردي الذي يتكون من 340 صفحة نتجت بفعل لا مدرك أو واع، ولكني أكاد أجزم أنها بدت وحدة دلالية، ولاسيما أنها جاءت في ظلال مشهد يتصل بالعودة إلى تكوين جاهلي، بقيمه المتجددة، وبهذا فإن كافة التكوينات المستقبلية أو الحاضرة بتمثيلها التقني والجديد بدت متصلة بمطلق عقل جاهلي كامن في الماضي، وبهذا فإننا لم نزل ضمن تشخيصنا البدائي، فراشد بعد أن اختلطت علينا أشباهه: راشد الحقيقي، والراصد الجوي، والسائق، وأشباه القلعة، يعود في مشهد أخير ليحيل إلى فعل اكتمال سردي، ولكن ليس هناك منجز دلالي، يتضح من النموذج الآتي: «من أمام خيمته السوداء التي أحاطت بها الأطلال من ثلاث جهات كسواتر حرب، كان راشد يراقب ما يدور، مرتديا عمامته الضخمة وثوبه الأسود الذي يصل إلى منتصف ساقيه. دعك لحيته الكثيفة الطويلة التي تخفي ملامحه وصاح بصوت رج المكان: ثكلتك أمك يا ابن الغبراء، ما الذي أعادة إلينا؟»
راشد الذي تحول من قومي أو ثوري إلى رجل أعمال متواطئ مع السلطة، ولكن هذا لا يكتمل إلا بتحوله نحو النموذج الأصولي الذي يخوض الحروب، ويدعي الدفاع عن قيم جديدة، وكأن ثمة فعلا تفسيريا أو لعله توصيف للتطور الذي ينتج عن قيم الإنسان الذي يقع في الأخطاء نفسها، في حين أن التاريخ لا يكرر نفسه، كما جاء في متن الرواية التي ما زال في جعبتها الكثير من الأسرار والحيل السّردية.
(القدس العربي)