ذاكرة القصيدة بين غرناطة وبغداد في «أوراق الموريسكي» لـ حميد سعيد

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سعيد الجريري
المصدر / القدس العربي
الشاعر العراقي حميد سعيد أحد أبرز وجوه الحركة الشعرية الجديدة في العراق منذ الستينيات، وتمتد تجربته الإبداعية في أربع عشرة مجموعة شعرية بدءاً من «شواطئ لم تعرف الدفء» (1968)، إلى آخر ثلاث مجموعات شعرية أصدرها في الألفية الثالثة هي «من وردة الكتابة إلى غابة الرماد» (2005)، و»مشهد مختلف» (2008)، ثم «من أوراق الموريسكي» الصادرة عن دار دجلة في عمّان (2012)٠
حيث يعيش في منفاه الجغرافي، على مقربة من وطنه منذ احتلاله، ويرى مدن الشتات العراقي، بإحساس الموريسكيين، عرباً وقشتاليين، الذين هُجّروا قسرياً من الأندلس بعد سقوط غرناطة قبل أربعة قرون، واستقروا في المغرب والجزائر وتونس وغيرها، وظلوا يرنون إلى مدى مفتوح على الضفة الأخرى، حيث الحنين والذكريات، لكن حميد سعيد لا يقف عند مستوى البكاء على مجد ماضٍ، وإنما يستجلي غداً مختلفاً، ويحشد الذاكرة ويشحذها عنواناً لوجود عصيّ على التلاشي والمحو والفناء.
ولعل مما ينماز به حميد سعيد في مجموعته الأخيرة، هو مستوى الخطاب الهادئ، وهو يصور تجربة الموريسكي العراقي، أو العربي المعاصر الذي غدت أوطانه مشاريع تهجير جديدة لموريسكيين جدد، فثمة موريسكي عراقي، وآخر سوري، وقبلهما الموريسكي الفلسطيني الموصولة مأساته بالموريسكيين، وتظل القائمة مشرَعة على ترشيحات مفتوحة بحسب استراتيجية المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية، لكن حميد سعيد – شاعراً ومثقفاً عربياً يعي أبعاد تلك الاستراتيجية وتداعياتها – يحتشد باستراتيجية شعرية وثقافية موازية، هي التمثل الإبداعي لموقفه ورؤيته للأحداث وتحولاتها في اللحظة التاريخية التي هو شاهد عليها، ومكتوٍ بجحيمها، كملايين الذين ضجّ بهم الشتات، أو من هم في مواجهة يومية مع الموت ومحاولات المحو والتزييف التي لا تنتهي.
ولعل قناع «الموريسكي» أحدث الأقنعة الشعرية التي يتم توظيفها في مجموعة شعرية كاملة، بالموازاة مع حضور الموريسكية في النصوص الإبداعية السردية، كرواية «الموريسكي» التراجيدية التاريخية للروائي والمؤرخ المغربي حسن أوريد (2011)، أو ما سبقها من نصوص في الأدب الاسباني، كرواية «سلم الماء» للروائي خوسيه مانويل غارسيا مارين الذي يعد أبرز رواد الرواية التاريخية الأندلسية.
تحتوي المجموعة الشعرية عشر قصائد: القصيدة المقدسية، تجليات علي الجندي، الثلاثية المغربية، الموريسكي، من أوراق الموريسكي، زمن آخر للموريسكي، الخوف والقصيدة، أحوال الموريسكي، أكثر من بطاقة حمراء، في المقهى.
لكن «من أوراق الموريسكي» ليس عنواناً منتقى من إحدى قصائد المجموعة، على نمط معهود في العنونة، وإنما هو مفتوح دلالياً ونفسياً على فضاء شعري تنداح فيه تجربة الشاعر، متلبساً أحوال الموريسكي القديم، ودائراً في زمنه، وتحولاتها، وأوراقه التي تضيء ذاكرته الكليلة، وحنينه الأبدي إلى أماكنه الأولى، حيث أشياؤه وذكرياته وحياته بكل تفاصيلها الصغيرة الأثيرة، التي يحملها معه في غربته القسرية. ولعل في إهداء الشاعر مجموعته إلى أحفاده الأربعة حيث يقيمون بعيدا عن وطنهم منذ احتلاله، ما يضفي بعداً تراجيدياً على فاعلية الموريسكية في وعي الشاعر، محفوفة بهواجسه، تجاه المستقبل، منظوراً إليه في صورة أحفاده الموريسيكيين أيضاً.
غير أن الموريسكي ليس مغلقاً على رمزية المأساة العراقية المعاصرة، ولكنه موصول بتجليات عربية ممتدة أفقاً وتجربة، فـ»القصيدة المقدسية» تذكي زمناً موريسكياً تكاد ذاكرة العربي أن تتبلد إزاءه. إنه زمن بيت المقدس الذي تدفقت منه أفواج الموريسكيين الفلسطينيين منذ نكبة 1948، و قصيدة «تجليات علي الجندي» تضفي على الموريسكية بعداً شخصياً، بتسويغ شعري، في سياق مفتوح الدلالة على المأساة المتعددة التجليات، وقصيدة «الثلاثية المغربية» حيث التداخل أو المزيج الروحي بأجوائه الأندلسية والعربية.
أما قصيدة «في المقهى» فأجواؤها تعمق موريسكية المجموعة، إذ المقهى في الذاكرة الثقافية العراقية، فضاءٌ ممتد في الذات، يثير الشجن والذكريات والحنين، إلى الأمكنة والأزمنة والأصدقاء.
الموريسكي هنا إنسانيّ الأبعاد، فهو من ينوء بذاكرةٍ عصية على المحو والنسيان، وحنينٍ لا ينام، يتجسدان في القول الشعري، شكلاً من أشكال الرفض للواقع الذي أخرج الشاعر/ الإنسان من فردوسه، ليواجه الأسئلة اليومية، وتنكأ مشاعره التفاصيل، حيث كل شيء يحيل إلى الوطن، حلماً بالعودة إليه، ذات يوم، لكن الشعر يطوي تلك المفازات النفسية، ويشعل قناديل الحنين في ليل الغربة والشتات في المنافي، حيث يستدعي الموريسكي الجديد من ذاكرته تفاصيلَ أدنى إلى روحه، كما في قصيدة «أحوال الموريسكي» مثلاً:
فاجَأَتني حديقةُ بيتي الذي كانَ..
إذْ تَبِعَتني إلى النومِ
ليس سوى حطبٍ في فراشي
أُجَمِّعُ ماكان من شجرٍ.. وثمارٍ..
كُلٌ يعودُ إلى حقلهِ
وأظلُّ وحيداً كما زهرة الصبار
إذ أكملَتْ نخلةُ الغريب أوراق هجرتِها..
وسترحَلُ..
حينَ تَمُرُّ ببستانِ أمِّ البنين.. وقد كانَ
لَنْ تجدَ البلَحَ الذَهَبيَّ المُتاحَ للعابرين..
لا نخلةُ الغريبِ.. ولا..
«أوراق الموريسكي» الجديد حميد سعيد تضيء الحزن في أعماق الشجن، وتطوق المتلقي بلغتها الهادئة الجارحة، أسلوباً وتقنيةً، ومجداً شعرياً مازال الشاعر يدوزن به خطواته العميقة في خريطة الشعر العربي المعاصر، مُلملماً شتات المتلقي مثلما تلملم قصائده شتات الموريسكي قناعاً جديداً ينضاف إلى أقنعة القصيدة العربية المعاصرة.