راوية «الوادي الكبير» للإسباني خوان إسلافا غالان: رصد لنهاية الوجود العربي في الأندلس

محمّد محمّد الخطّابي
رواية «الوادي الكبير» للكاتب الإسباني خوان إسلافا غالان من إصدار دار النشر «بلانيتا» في إسبانيا والمكسيك. والوادي الكبير هو من أكبر الأنهــار الأندلسية الذي لا يزال يحمل اســـــمَه العـــربي القديم إلى اليوم، والذي نجده مبثــــــوثاً في الكتب والمراجع والنصوص الأدبية والتاريخية، ومُستعمَلاً في اللغة الاسبانية، وفي غنائيات الزّجل والخرْجات والموشّحات الأندلسية، وأغاني الفلامنكو الغجرية الرّخيمة، وقد اقترن اسمُ هذا النّهر على امتداد تاريخ الأندلس بمدينة إشبيلية العامرة وشعرائها وكتّابها وفنّانيها.
بانوراما روائيّة
عن الأندلس
تدخل رواية «الوادي الكبير» للكاتب الإسباني الأندلسي خوان إسلافا غالان، التي تشكّل بانوراما روائية للوجود العربي في الأندلس. انطلاقاً من مبدأ إعادة الاهتمام بالثقافة العربية في إسبانيا، حيث تقدّم هذه الرواية لقارئها بانوراما واسعة تأسيساً على وجهة نظر عربية – أمازيغية حول الصراع بين «القشتاليين» والمسلمين لبسط نفوذهم، وهيمنتهم وسيطرتهم على سهل الوادي الكبير في النّصف الأوّل من القرن الثالث عشر. كما تقدّم لنا هذه القصّة نظرة روائية حول الصّراعات التي كانت تنشب بين الخلفاء المسلمين في إسبانيا، والتي انتهت في آخر المطاف بتدخل دولة الموحّدين المغاربة في شبه الجزيرة الإيبيرية، بعد أن تدخّل فيها قبلهم المرابطون، كما تقدم الرواية نظرة شمولية عن الحياة اليومية، وعن العادات والتقاليد والأعراف التي كانت سائدة في ذلك الوقت، فضلاً عن تسليط الأضواء على العلاقات بين مختلف الثقافات التي تعايشت في ظلّ الحضارة العربية، بما فيها الثقافات المسيحية واليهودية، ويجعل الكاتب من مدينة «جيّان» الأندلسية نقطة انطلاق لأحداث في روايته، وتحريك شخصياتها، حيث يمتزج فيها التاريخ بقصص الحب والهيام، وبتباريح الجوى والصبابة، فضلاً عن الخدع والمكائد التي كانت تحاك في الخفاء داخل البلاطات الخليفية، والنزاعات والصراعات، والمواجهات والمشاحنات والمشاكسات التي كانت تنشب بين الأسرة الحاكمة في المدينة، التي كانت تتركزأساسا في مواجهة أعدائهم وردّ زحفهم.
في البحث
عن السرّ الكبير
بطل الرواية «سليم» يذهب إلى موعد غرامي في أطلال من بقايا مآثر الموحّدين في سهل الوادي الكبير، وهناك يلتقي فارساً يحتضر من الفرسان المُدجّجين الذين كانوا يؤمّنون سبلَ المارة والحجّاج، وأسرّ له هذا الفارس بوجود كنز ثمين ذي قيمة روحية عظمى دفين في مكانٍ مّا يبحث عنه المسلمون والمسيحيون على حدٍّ سواء، ويعيش «سليم» فارّاً، هارباً، حائراً، متخفياً ممّن يتعقبون أثره لينتزعوا منه السرّ الكبير الذي باح له به الفارس الغامض قبيل مفارقته الحياة. ويشير الكاتب خوان إسلافا غالان إلى أنّ التاريخ سجّل لنا في الفترة المتراوحة بين القرنيْن الحادي عشر والثالث عشر حدثاً مهمّاً عُرف بـ»توسيع مملكة قشتالة» أيّ ما أطلق عليه المؤرخون الإسبان بـ»حروب الاسترداد» وقد تمثل هذا الحدث في الصّراع الذي دارت رحاه من أجل فرض الهيمنة على الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الإيبيرية، وفي عام 1212 أمكن للنّصارى بسط نفوذهم بقيادة ملك قشتالة فرناندو الثالث الذي كان يُلقب بالقدّيس على الحيّز العربي- الأمازيغي المعروف في الروايات العربية والإسبانية والأجنبية بـ»الأندلس» بما فيه الوادي الكبير، وفي خضمّ هذا الاندحار العربي أمكن لفرناندو بسهولة استرجاع مدينتي «قرطبة» عام 1236 و»جيّان» عام 1246، هذا هو الإطار التاريخي الذي تتحرّك فيه الرّواية، أيّ من عام 1209 عندما بدأ النصارى شنّ هجماتهم على أرباض، وضواحي، ونواحي مدينة «جيّان» حتى تسليم المدينة بعد حصار طويل عام 1246، خلال هذه الأربعين سنة يعيش القارئ حياة الشخصية الرّئيسية في هذه الرواية المُسمّى «سليم» وهو من أسرة بني نصر العربية في جيّان، الذي عايش مختلف الأحداث، والتقلبات والهزّات والهجمات، والهزائم والانتصارات والخدع والمكائد، والتمرّدات والتغيّرات التي طرأت على الحياة بشكل عام على المدينة، التي رثاها إلى جانب قرطبة وباقي الأمصار والحواضر الأندلسيّة الأخرى الشاعر الأندلسي الشّهير أبو البقاء الرُّندي في قصيدته النونية الذائعة الصّيت التي مطلعها:
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ
فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ
مَنْ سرّه زمنٌ ساءته أزمانُ
إلى أن يقول مُتحسّراً،ومُتأسّفاً عن سقوط هذه الحواضر الواحدة تلو الأخرى:
فاسأل بلنســيةَ ما شأنُ مُرسية
وأين شاطــــبةٌ أمْ أين جيّـَانُ…
وأين قرطبةٌ دارُ العـــلوم فكمْ
من عــالمٍ قد سمَــا فيها له شانُ
وعن مدينة» جيّان» يقول شاعرها مُصعب بن محمد بن مسعود الخشني حين خرجَ منها :
أجيَّانُ أنتِ الماء قد حِيلَ دونه
وإنِّي لظمآنٌ إليكِ وصادي
ذكرتكِ إن هبَّتْ شمالاً وإن بدا
لعينيَّ من تلك المَعالمِ بادي
متى ما أُرِدْ سيرًا إليكِ تَرُدَّني
مخافةُ آسادٍ هناك عوادي
تجسيم للرّواية الشفوية
يقدّم الكاتبُ روايته على لسان رجل مُسنّ «حكواتي» أو «حلايقي» الذي يشبع القارئ بالعديد من القصص والمرويّات والحكايات الشفوية التي لا تنضبّ ولا تنتهي، وهو يقدّمها باستمرار بأسلوب جذاب، ومضمون جديد، في هذه «الراوية» ويتميّز الحافظ أو الرّاوي بقدرة كبيرة على تسيير دفّة الكلم في الرواية الشعبية المتوارثة بالخصوص، وهو يستعمل مختلف الأساليب البلاغية، ويختار الكلمات المنتقاة والموشّاة التي تتميّز بها طريقة الرّواة الذين يعتمدون على الرّواية الشفوية، وهو حريص على استعمال أكبر قدْر من الكلمات العربية الأصل المبثوثة في اللغة الإسبانية التي تعدّ بالآلاف، ويبدو لنا هذا الحكواتي متنقلاً، ومتجوّلاً بين مختلف المدن والقرى والمداشر، والضيع والحواضر والأماكن التي كانت مسرحاً للأحداث في ذلك الأوان .
الكاتب غالان من مواليد أرجونة من أعمال مدينة (جيّان) الأندلسيّة عام 1948 (وأرجونة مدينة أو قلعة بالأندلس، إليها يُنسب محمد بن يوسف بن الأحمر الأرجوني من متأخرى سلاطين الأندلس).
وغالان كاتب متعدّد الاهتمامات والاختيارات (أبو الرّواية التاريخية الإسبانية) هو اللقب الذي ألحقه به النقّاد الإسبان نظراً لأعماله الغزيرة في هذا القبيل (وضع حتى اليوم ما ينيف على الثمانين كتاباً)، وهو حاصل على العديد من الجوائز الأدبية والتكريمية من أبرزها حصوله على جائزة (بلانيتا) الإسبانية المرموقة عن روايته «في البحث عن وحيد القرن» وتُعتبر هذه الجائزة من كبريات الجوائز الأدبية في العالم الناطق باللغة الإسبانية إلى جانب جائزتيْ «سيرفانتيس» و»أمير أستورياس». وهو حاصل كذلك عن جائزة «فرناندُو لاَرَا» عن روايته «الآنسة»، فضلاً عن حصوله على جائزة «الربيع الرّوائية الإسبانية» عن روايته «سرّ جريمة منزل سيرفانتيس» عام 1915.
(القدس العربي)