رفيق علي أحمد يعود جسداً منهكاً بالغدر: «وحشة» عرض يعرّي الواقع… والمرأة مشجب

الجسرة الثقافية الالكترونية
*زهرة مرعي
المصدر / القدس العربي
«ما تصيبك وحشة».. دعاء نردده لمن نحب، فالوحشة مرّة وقاسية.. «وحشة» الفنان والمسرحي رفيق علي أحمد تخطت جسده المشرد في الشارع ليل نهار، لتلج روحه المعتصره غماً من الغدر والخيانة، ومن دون فكاك. بلغ الشارع بفعل زوجته التي كنّ لها حباً جماً. مال قلبها لآخر. باعت البيت الذي كان لها بقرار من الحب الجم لـ»أبو ميشال» ورحلت مع حبها الجديد إلى كندا. الأبناء بدورهم مسافرون كما أغلب شباب لبنان للعمل، إذن هي «وحشة» التشرد والنكران على أكثر من صعيد، من المرأة التي ألبسها ثوب الغدر، وأوغل في كيل الصفات لها.. إلى الابناء المصابين بالنسيان.. إلى الوطن المتنكر لناسه.
سيد المونودراما، الحكواتي المتقن لحرفته، المسرحي الممسك بأصول اللعبة، يلج الخشبة عبر إيقاع يتراوح بين وعي وترنح، مرنماً «بيروت محلاها ومحلا زمانها.. بيروت زهرة من غير أوانها». يشكو «أبو ميشال» من اكتظاظ الابنية «ما في زاوية يندحش فيها الواحد». تبدأ لحظات التجلّي بعد غياب طال. مشوار الـ»وحشة» بدءاً بالبيت، المؤسسة، الدولة والنظام. هو مونولوج حزن معتق داخل علي أحمد. هو تراكم الزمن بأحداث جسام، جميعها تدحرجت على المسرح بتجليات أتقن المسرحي تظهيرها، وتالياً إيصالها عبر منحنيات جسد يختزل وحشة الروح، عن العالم والمحيط. وحده الهر «عنتر ترك العز وهرب» يؤنس وحدة أبو ميشال.. يعتز أبو ميشال بجليسه الوحيد «عنتر» فهو «سيد نفسه».
«أبو ميشال» المحطم من خيانة رفيقة اعتقد أنه سيمضي معها عمره، يداوي جراحه باستحضار الخيانات الكبرى في التاريخ مع رسوم توضيحية. مع الحالات المماثلة تتراجع مواجع البشر. خيانة «هيلين» وجمالها المتسببان بحرب طروادة. شهوات «زليخة» زوجة فرعون مصر ومحاولات إيقاعها بالنبي يوسف. «سالومي» التي ساومت «هيرودوس» على رأس يوحنا المعمدان. هي لوحات كبرى لخيانات مشهودة. ومع ذلك لم يشف جرح «أبو ميشال»، وبقيت الـ»وحشة» تستنزف روحه.
في الدولة والنظام يستحضر علي أحمد قائمة الفساد إياها، ويستحضر شخصية المتدين «الحاج»، المطبوعة علامات اتقان واجباته الدينية على جبينه. يده لا تبرحها سبحة يذكر فيها رب العالمين ويحمده على نعمه. «الحاج» باني «كل هالبنايات ومشارك فيها الله» من خلال عبارة «الملك لله». هذا الظاهر من فعل المتدين، وفي العتمة يداوم على زيارة «عفاف» ليشرب أطيب الخمر المستورد وأغلاه من حذائها. (عفاف سيدة برز نجمها في ستينات القرن الماضي في بيروت، كان يتردد إلى منزلها كبار القوم في البلاد من سياسيين وغيرهم. قادها عملها إلى القضاء بتهمة الدعارة. وحصلت على البراءة). علي أحمد يؤنسن عفاف ويضعها بين علية القوم لشفافيتها، ويستطرد واصفاً «الحكومي كلا عفاف». الآخرون يتسترون بالعفة، ويتقنعون بالتدين. بكل بساطة هذا رأيه، ومعه الأكثرية الساحقة من عامة الناس. في النظام الفاسد الذي لا ينفك المسرحي المخضرم يقاربه طوال تاريخه المسرحي، لا جديد سوى مزيد من تقهقر الولاء للوطن، مقابل تنامي الولاء للطائفة ومزيد من المتاجرة بالمواطنين.
أراد «أبو ميشال» لشخصه أن يكون مجهولا «مش مهم شو ما كان اسمي». فالقهر يساوي بين الناس. من ضمن هذا الحزن المقيم الذي يتضاعف عبر أهازيج يطلقها الممثل بين الحين والآخر، كانت الصورة تزداد نقاء لديه. جميعنا على حافة الهاوية. بسخرية مرة يرسمنا على المسرح. نضحك، إنما على حالنا، أو كما ذكر رفيق علي أحمد في الكتيب: «حكي أبو ميشال يُضحك الناس إنما يستدعي غصة في الحلق ودمعة في العين».
يتعاطى رفيق علي أحمد مع تجليات الواقع بخبرة واحتراف. يسخر. يندد. يتساءل. يستنكر ويستهزئ. هذا كان حاله في الكثير من لوحاته التي تتالت على مدى ساعة وعشر دقائق. ينقم على التكنولوجيا الحديثة التي لم يفقهها. ويرميها بأعباء التحليل الاجتماعي «دمرت إنسانيتنا». هذه الأثقال تضاعفت لشتى الأسباب الآنفة الذكر لدى «أبو ميشال» صاحب المشاعر الداخلية، فوجد في لحظة تجواله بين القبور ما يقدم له قليلاً من الطمأنينة.
رفيق علي أحمد كاتب مخرج وممثل «وحشة» يجد دائماً ترحاباً من جمهوره، خاصة أنه غاب منذ سنة 2007 بعد أن قدّم «جرصة». مسرحي يتقن جذب المتلقي بجملة مميزات لديه، حسن اختياره لما يرغبه جمهوره منه.. أخذ على نفسه نذراً بأن يكون بطابع الحكواتي، وها هو يزداد تألقاً. حضوره الفيزيولوجي محبب على المسرح، حين لا ينطق تنوب عنه حركة جسده، يشعرك بالهم وليس الفراغ. والأهم الكاريزما الخاصة به صوتاً وشكلاً.
في «وحشة» صوّب بقوة على المرأة، فهل أراد للنساء أن يتحولن إلى تماثيل كبريت كما حصل لزوجة النبي لوط؟ إلى ذلك كثّف رفيق علي أحمد من توابل الجنس المباشر، ربما لم نعتد عليها في مسرحه. في كافة الحالات هو الشخصية الأبرز على المسرح. معه بالكاد تلتفت إلى السينوغرافيا، أو ربما تجده جزءاً متطابقاً معه. وربما انتبهنا مرة أو مرتين إلى الموسيقى المرافقة.
«وحشة» انطلقت على خشبة مسرح مونو في 15 كانون الثاني/يناير وتستمر حتى 8 شباط/فبراير.