روائية المعرفة التاريخية في «صنعائي» لليمنية نادية الكوكباني

الجسرة الثقافية الالكترونية

اعتمدت الرواية على مرجعين مهمين في بدايات التأسيس والتأصيل: على المجتمع باعتباره فضاء للتحول الذي يليق بمنطق الرواية، ثم على التاريخ باعتباره خلفية تستطُيع الرواية أن تعتمدها، وهي تُشيد أعمدة معمارها.
تميزت العلاقة في البداية بين الرواية والمجتمع/التاريخ بعلاقة أفقية، تجعل المرجع هو الأساس، والرواية كاتبة/واصفة لهذا الأساس، لهذا هيمن مفهوم التفسير والانعكاس على تلقي الرواية، ثم أخذت العلاقة بعد ذلك، انزياحا عن البعد الأفقي، ودخلت زمن العمودي، عندما تطورت الرواية شكلا وكتابة ونظاما، بموازاة مع تحول المجتمع.
تداخلت العلاقة بين الروائي من جهة والاجتماعي والتاريخي من جهة أخرى، مع هذا الزمن، وبدأ منطق المرجعية يتفتت، ويتحول إلى سؤال، وموضوع داخل الجنس الروائي. تُعبر عملية التجاذب، والتداخل بين الرواية وباقي المرجعيات عن انتقال الرواية من مجرد شكل تعبيري عن وضع اجتماعي، أو مادة تاريخية، إلى حالة ثقافية اجتماعية، تصبح بموجبها زمنا رمزيا لإنتاج وعي جديد بالمرجعيات.
هذه الحركية والمرونة التي تُميز الرواية منذ ظهورها، تجعل منها قيمة معرفية، لكونها، تشتغل في منطقة الوعي المتجدد بالمرجعيات. وكلما تحولت الكتابة إلى حالة حوار/اصطدام بين التخييل الروائي وباقي الخطابات التي كانت ذات مرحلة مرجعية، شخَصت الكتابة حالة مجتمع يتحول، ويعيش دينامية في بنيته. لكن، هل هذا الوعي بالرواية باعتبارها قيمة معرفية، مُنتجة لوعي متجدد، يحضر في الدرس التعليمي للرواية في المدرسة والجامعة، وفي الدرس النقدي الأدبي؟ سؤال يمكن تطوير النقاش فيه، باعتماد خطابات تدريس الرواية وقراءاتها ونقدها، وشكل حضورها في الوعي الجماعي الثقافي.
بالعودة إلى علاقة الرواية بالتاريخ، نسجل حضورا مختلفا لصيغة هذه العلاقة في نماذج روائية عربية كثيرة خلال السنوات الأخيرة.
إذ، نلتقي بالرواية باعتبارها زمنا تخييليا لاحتضان سؤال الشك في تاريخ كبُر مع المواطن العربي باعتباره يقينا، يُقبر التفكير والدهشة والتأمل.
ولعل الرواية العربية في كثير من نصوصها، تُوثق للحظة الانزياح عن اليقين، واعتماد الشك، من أجل الحقيقة، وليس اليقين. تقترح رواية «صنعائي»( 2014) للكاتبة نادية الكوكباني، إعادة تركيب معرفة محتملة، حول حدث تاريخي، مرتبط بصنعاء سنة 1968.
تحضر صنعاء في الحكاية موضوعا تاريخيا، مرتبطا بأحداث سياسية، جعلت والد الساردة، يقرر الابتعاد عن صنعاء إلى القاهرة مع أسرته، وهو الذي ساهم في فك الحصار عنها، غير أنه كان ممن وقع عليهم الظلم، إذ تم اقتياده إلى السجن، بدون تهمة وتحقيق.
يقول الوالد: «أرادوا كسر شوكة المدنية التي قالوا إننا لا نعرف خطورتها على اليمن»(ص266). غير أن، الساردة «صبحية» ستظل تحمل صنعاء سؤالا للمعرفة، وعشقا، يجعلها تعود إليها، عبر حكايات جدتها، وغلاف المجلات اليمنية، ومن خلال رسم وجوه أبنائها.
تحضر صنعاء في الحكاية موضوعا سياسيا، ويُحولها السرد إلى حالة عشق، تبدأ علاقة بين المرأة والرجل، وتنتقل إلى حالة عشق لمعرفة التاريخ الحقيقي لأحداث صنعاء.
بعد وفاة الوالد، تعود «صبحية» لتستقر في صنعاء، وتفتح مرسمها، وتبدأ في البحث عن «صنعائها» الضائعة في التاريخ المكتوب.
يعتمد النص صيغة التناوب السردي، بين عدد من الساردين، تهيمن الساردة «صبحية» على المجال الأوسع من السرد، باعتبارها حاملة سؤال «صنعائي»، إضافة إلى ساردين آخرين، يختلفون في وضعيتهم داخل مجال الحكاية، مثل «حميد»، الذي يُشكل حضوره العاطفي بالنسبة للساردة الأساسية، أهمية، جعلت منه ساردا شبه أساسي، وعبره يظهر التناوب السردي بشكل ملموس، ثم «غمدان»، الذي يظهر والنص على وشك التلاشي، ليمنح للسرد بُعدا مُغايرا، أو يمنحه إمكانية جديدة جعلت المعرفة خارج مبدأ اليقين، إذ يستحضره السرد باعتباره مصدرا لمعرفة ما حدث في صنعاء 1968، ثم يتحول إلى سارد فاعل في السرد.
يُضاف إلى هذه الذوات الساردة والفاعلة، صيغا سردية، حضرت بقوة السرد، وانتقلت إلى حاملة للرؤية، يتعلق الأمر بصيغ الرسالة والقصاصات والأشرطة والسيرة الذاتية التي حفلت بها الرواية، فكل شخصية تدخل المجال النصي، تُقدم سيرتها الذاتية، كأنها تُوثق لوجودها باعتبارها مصدرا للمعرفة، فهذا «غمدان» الذي يفتتح سرده، بسيرته الذاتية، «اسمي، غمدان الصبري من جبل الصبري، في تعز، مدينة العز، كما يسميها أهلها» (ص205).
لا يتم نمو السرد، من خلال تطور الأحداث، لأن الأحداث ترد في النص باعتبارها وقائع حدثت، ويتم استرجاعها من أجل التفكير في منطقها، ولهذا، فإن حركية الرواية، ونمو مسارها السردي يتم في مستوى الوعي بما حدث، الذي يتشكل بفعل تعدد مصادر السرد، وأيضا نتيجة لسؤال البحث الدائم لدى الساردة «صبحية». نلتقي بمظهر سردي في هذه الرواية، يُعبر عن تكسير المنظور الواحد للحدث، وجعله منظورا إليه من قبل التعدد المختلف والمتنوع. يظهر ذلك، على سبيل المثال، في منطق التناوب بين صبحية وحميد.
تسرد الساردة بضمير المتكلم المفرد، حكاية لقائها بحميد، وتحكي شكل تأثير اللقاء على وجدانها، تطرح أسئلة حول أحداث صنعاء، ولماذا هرب والدها، وعندما يبدأ حميد بالسرد، فإنه يُعيد سرد الحكاية نفسها، لكنه يسردها بشكل آخر، وكأنه يُحاور حكي الساردة، ويُجيب عن أسئلتها.
قد يشعر البعض بنوع من التكرار، غير أنه تكرار وظيفي، لأنه يشتغل على حبك الحكاية، ليس من توالي الأحداث، وإنما من إعادة ترتيبها.
وظاهرة التناوب، تتخلل سرد الساردين، إذ نصبح أمام تقنية العنعنة التي عُرفت في السرد التراثي العربي. يُصرح «غمدان» عن مصدر معرفته، «الحقيقة جاءتني في السابعة عشرة من عمري، بعد أحداث أغسطس بعشرة أعوام. وجدته بعد أن غاب عن حارتنا مباشرة بعد مقتل أبي.. إنه العم عبده سعيد»(ص216-2017).
ولهذا، امتلأت الرواية بملفوظات المتكلمين، لأن كل سارد يعتمد كلام المتكلمين مصدرا للمعرفة، وعندما يُدخل الشخصية إلى المجال النصي، فإنه يدعها تحكي ما سمعته وشاهدته وقرأت عنه.
والحاصل في مستوى هذا التركيب السردي، أن «صنعائي» تعتمد مصدر المعرفة الخطاب الشفهي، «سمعت عن والدك من خلال أصدقاء له ولوالدي»(ص227)، الذي تضعه في مواجهة تخييلية مع التوثيق، والتأريخ من خلال وثائق تاريخية، وبيانات وأشرطة تركها والد الساردة، غير أن عطبا ما حال دون اشتغالها.
تمت هذه المواجهة بين ضمائر عديدة، مفرد متكلم، مُخاطب وضمير جمع متكلم، ثم ضمير غائب، كان يتسلل إلى السرد، مرارا، من أجل تدبيره وتسيير منطقه، غير أن ضمير المتكلم المفرد، سرعان ما يُعيد سلطة الحكي لصالحه، مما جعل الأحداث التاريخية تخرج من اليقين، وتتحول إلى حيرة الجميع، بعدما بدأت حيرة خاصة بالشخصية – الساردة «صبحية».
تظهر حدة المواجهة في مُلازمة السارد من خلف لبداية كل مقطع سردي، يحكيه ضمير المتكلم، ويأتي لون الكتابة سميكا، ومختلفا في فضائه النصي، غير أن السرد انتصر في نهاية النص، لضمير المتكلم، وانتهت حكاية «صنعائي» بصوت الساردة «صبحية»، وجاء المقطع السردي الأخير، مُشخَصا لتعددية المنظور إلى التاريخ، وأحقية كل صوت يمني في إنتاج معرفة بما حدث، حسب موقعه من المشهد، وتبعا لمصادر معرفته.
ولهذا، اختلفت الرؤية بين حميد وغمدان، وتحول الاختلاف إلى مساحة مفتوحة أمام خيار الساردة «قبلتُ هديتيهما بعد أن قبلا شرطي في حرية اختيار مكان وضع الصور الثلاث» (ص288).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى