ساحرات شكسبير يتحولن إلى مذيعات في الفضائيات!

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي
في رواية «الخلود» لـ «ميلان كونديرا» تحولت القبضة الرهيبة للسلطة شِبه المطلقة التي كان يُمارسها الاتحاد السوفييتي على مخلوقاته إلى سُلطة «الصورة» التي أصبحت تتحكم في مصائر البشر، تحدد لهم ما يُفكرونه ويفعلونه، وصولاً إلى انتواء الفعل نفسه. سبق (كونديرا) الجميع بهذه النبوءة، وقد صدرت روايته في عام 1988، قبل أن تصبح الفضائيات بالفعل هي السلطة الأعلى المُتحكمة في البشر. وتماشياً مع هذه الرؤية جاءت بالمُصادفة المعالجة الجديدة لمأساة شكسبير «ماكبث» من خلال العرض المسرحي «ماك .. بث مباشر»، الذي قدمه طلبة (مركز الإبداع) بدار الأوبرا المصرية، ومن مُنطلق المُناخ العام الذي نتنفسه الآن، تحولت المأساة الشكسبيرية إلى كوميديا سوداء، وأصبحت ساحرات شكسبير المُرعبات عبارة عن مذيعات الفضائيات والتوك شو، حيث يقمن بتوجيه مصيره لاستلاب السلطة، والتهليل له في خطواته الدموية، كما كُن يهللن للملك السابق. المسرحية بطولة … رفيق القاضي، لبيب عزت، أماني مراد، محمد مجدي، كريم شهـدي، محمـد غـيث، نديـم هشام، وسارة عادل، ديكور سماح حمدي، أزياء أسماء كمال، تغريد عز، والعرض من إخراج أحمد فؤاد.
هواجس السلطة
ستظل المقارنة قائمة بين ساحرات شكسبير اللاتي قابلنه لحظات، وبين مذيعات القنوات الفضائية اللاتي أصبحن يثرثرن له (ماكبث) أمام شاشات العرض/خياله، حتى يستطيع التغلب على خوفه ويُقدِم على فعلته ويقتل الملك، الممثل الشرعي للسُلطة. فمساعدة ساحرات وسَحرة هذه الأيام جاءت من خلال ما يحيط ماكبث من جو عام يقوم على شحنه بالأفكار التي تراوده سراً، وصولاً إلى الفعل نفسه/فعل القتل. ويتغاضى ماكبث عن صوت الإعلام الذي كان من قبل يسبّح باسم الملك السابق، لأن هذا الصــــوت تماشى وهـــــوى نفسه. الأمر الذي يتغاضى عنه ماكبث هنا هو مدى تلوّن الصوت الإعلامي، من تبجيل سلفه كما يبجلونه ويوهمونه بشعبيته الآن، سلم الرجل نفسه إليهن، وأصبحت هواجسه المزمنة لا يجدها إلا من خلال شاشات التليفزيون، والميكروفونات التي تحيطه، غير مهموسة هذه المرّة، بل منقولة على الملأ.
المعادلات السياسية
لا يمكن أن نقرأ العرض المسرحي «ماك .. بث مباشر» بعيداً عن المُناخ السياسي، وإن كان العرض تحايل وتحول إلى كوميديا حتى يستطيع أن ينقل رسالته في مزيد من الحرية، إلا أن شفرة الرسالة لم تكن مُستعصية على الفهم، خاصة في جو متقلّب من السُلطات المتلاحقة في شكل أسماء متغيرة. الأمر الآخر هو كيفية صياغة الرأي السياسي قبل الرأي العام، وكيفية الاختبارات التي أصبح يخضع لها أي ممثل للسُلطة من قِبل السُلطة الأعلى التي أصبحت تتحكم به وبمصيره، وهي سُلطة الإعلام والقائمين عليه، فالمسألة أصبحت في كون ممثل السُلطة السياسية/الموهومة وكأنه يسير فوق الصراط، وما الإعلام إلا العامل الوحيد في قدرته على الاتزان، حتى لا يسقط في هاوية الشعب. هنا تأتي المفارقات من حاكم يظن أنه يحكم، وفريق من السحرة الجدد يزيدونه وهماً بما يقوم به، حتى تأتي لحظة الغضب الكبرى، حينما يصبح هذا الحاكم على غير هوى الرأي العام الممسوخ. ومن هنا تلعب هذه الوسائل لعبتها في تصدير الأفكار والحالات الوهمية للشعوب، حتى تصبح عند أية لحظة مُستعدة للانفجار في وجه الحاكم المغضوب عليه، بغض النظر عن أفعاله المقيتة في الأساس، فـ (ماك .. بث) هنا قاتل من البداية.
كسر الإيهام
وحتى يظل العرض المسرحي مُحافظاً على إظهار الفكرة التي أرادها أكثر، وخالقــــاً مسافة بينه وبين الجمــــهور حتى يُفكر في ما يراه، لعب على التناقض والتغريب من حيث الجو التاريخي للنص الأصلي والجو الحداثي الذي يُنــــاقــــش القضـــية الراهنة، وذلك من خلال الملابس والديكورات، فماكبث وزوجـــته جــــاءا في ملابس وإكسسوارات العصر الشكسبيري، بخــــلاف المذيعات والمذيعـــين في ملابسهم الحديثــة، إضافة إلى الديكورات الخاصة بماكبث .. ككرسي العرش، في مقابل منصة الخطابات التي يُلقيها ماكبث إلى الشعب، وملاحقة الإعلاميـــين له بالميــــكريفونات التي تمثل القـــنوات الفضـــائية التي ينتــمون إليها.
ويبدو في النهاية أن الحلم بالسُلطة والسعي خلفه بشتى الطُرق ــ الغير مشروعه في الأغلب ــ لم ولن يتوقف، وبالتالي لن تتوقف المعالجات المُتباينة للنص الشكسبيري، بغض النظر عن مدى رداءة أو جودة هذه المعالجات