سعيد السيابي في «رغيف أسود»: الحياة على سور مقبرة

الجسرة الثقافية الالكترونية
يوسف حطيني
حين كنت أقرأ مجموعة سعيد السيابي القصصية المعنونة «رغيف أسود»، لفتت نظري قصة قصيرة جداً، رأيت أنّها يمكن أن تكون مثار ملاحظات متعددة، وقد حملت القصة عنوان «سور المقبرة» وهذا نصّها:
«قبل يوم من بلوغها السابعة عشرة كان عقد زواجها يتلوه المطوّع أمام حشود الشهود، تسللت ليلاً وفي يدها فرشاة ودلو من الأصباغ، وكتبت بحروف كبيرة على أسوار المقبرة»عاشقة الحياة».
ثلاثون كلمة فقط تشكّل عماد هذه القصة حكايةً وبناءً ودلالةً، إضافة إلى عنوان يتألف من كلمتين. ومن خلال هذه المساحة الضيقة يقدّم سعيد السيابي حكاية فتاة أجبرت على الزواج المبكّر، فاختارت، بديلاً لهذا الزواج، الرحيل نحو المقبرة؛ لا لتعبّر عن رغبتها في الموت؛ بل ليكون موتها صرخةً مدوّية تدعو للحياة، وكأني بها تردّد صدى قول محمود درويش: «ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا».
ولكن كيف تستطيع مِثلها الحياةَ؟ وهي تواجه المطوّع، ذا السلطة المطلقة المستمدة من تسليم الناس بما يقول، وخضوعهم لما يأمر، لدرجة أنّ الأب الذي يمثّل سلطة البيت القامعة لا يظهر في هذه القصة. وكأنّ الكاتب يريد أن يشير إلى أن سلطة الأب هي مجرّد سلطة تراتبية بين القامع والمقموع، أو كأنه مجرّد وسيلة قمعية، تمارس جبروتها، لا من خلال إرادتها وقناعتها، بل من خلال دورانها في دوامة العادات والتقاليد.
والتراتب الاجتماعي قد لا ينتهي عند المطوّع صعوداً، ولكّنه من المؤكد أنه ينتهي عند الفتاة هبوطاً، فهي تستقر عند أسفل سلّم هذا التراتب، وليس هناك كائن بشري يمكن أن تتحكم به إلا نفسها، وهذا ما دفع البطلة إلى استثمار تلك النفس لإغلاق دائرة الحكاية. وقد استطاعت من خلال هذا الفعل أن ترقى بنفسها، وأن تخرج من نموذج الفتاة الخاضعة لسلطة السائد الاجتماعي إلى نموذج الفتاة المتمرّدة عليه، والثائرة ضدّه، ولو من خلال فعل الموت الذي لا يبدو مجّانياً. ولعلّ من الطريف هنا أن عمر السادسة عشرة (أو السابعة عشرة) الذي تدور حوله القصة لا يعبّر عن أقبح أوجه هذه المأساة الإنسانية في الواقع العربي؛ إذ أنّ هناك فتياتٍ يتم تزويجهن، في سنّ دون ذلك بكثير، هرباً من الفقر أو العار، أو اقتداءً بسنة نبوية لم يحسنوا فهمها، ولا فهم ظروفها.
* * *
وعلى الرغم من صغر المساحة التي يشغلها النص على الورق فإنّ سعيد السيابي لم يهمل الإشارة إلى الإطارين الزماني والمكاني، وعلى الرغم من أن ثمة مكاناً افتراضياً جرى فيه عقد الزواج، ومكاناً افتراضياً جرى التسلل منه، فإنَّ الكاتب لم يكتف بذلك، بل أضاف ثلاث مفردات زمنية (قبل ـ يومٍ ـ ليلاً) وثلاثة تعبيرات مكانية (أمام = ظرف مكان، على أسوار = جار ومجرور لهما دلالة مكانية، المقبرة = اسم مكان)، وهذا يدلّ على رغبة في إعطاء النص هويته الواقعية، ويمثّل دعوة إلى الإسهام في تغيير واقع سلبي نلمس حضوره الطاغي في الزمن والمكان.
ومن الملاحظ في هذه القصة، كما في معظم القصص القصيرة جداً أن الشخصيات بلا أسماء، فإذا كانت التسمية تسهم في التشخيص، فإن عدمها يفيد التعميم، ونحن هنا بحاجة للتعميم، ذلك أنّ ما قام به المطوّع تصرّف نموذجٌي لا فردي، وما تدعو إليه الفتاة من رفض وتمرّد يريد منه الكاتب ألا يكون نموذجيّاً؛ لأن الفردي الطارئ لا يمكن أن يجابه النموذجيّ الراسخ في أخلاق المنظومة الاجتماعية.
ولقد استطاع الكاتب أن يحمّل نصّه كثيراً من الدلالات الوارفة، على الرغم من القصر الشديد الذي يميّزه، فهو يدرك ما تتطلبه القصة القصيرة جداً من تكثيفٍ تَجَسّدَ من خلال القفز على المقدّمات والتفصيلات والأوصاف، والدخول في الحدث منذ الجملة الأولى، من أجل بناء العقدة والوصول إلى ذروة الأزمة بشكل سهمي، قبل الانطلاق نحو فعل التغيير في الجملة الثانية، وصولاً إلى الحلّ في الجملة الثالثة:
1 ـ قبل يوم من بلوغها السابعة عشرة كان عقد زواجها يتلوه المطوّع أمام حشود الشهود.
2 ـ تسللت ليلاً وفي يدها فرشاة ودلو من الأصباغ.
3 ـ وكتبت بحروف كبيرة على أسوار المقبرة: «عاشقة الحياة».
ولا أدري هنا مدى توفيق الكاتب في استخدام الجمل الكبرى لتوصيل دلالات حكايته، فالجملة الكبرى الأولى تتضمن جملتين صغيرتين (كان واسمها وخبرها) و(يتلو وفاعلها وفضلتها)، والجملة الكبرى الثانية تتضمن جملة اسمية صغرى تتألف من مبتدأ وخبر مقدّم (في يدها فرشاة)، بينما تتضمن الجملة الثالثة الكبرى جملة اسمية صغرى تتألف من مبتدأ محذوف وخبره وفضلته (عاشقة الحياة). ولعليّ أجد في نفسي ميلاً للاعتماد على الجمل الصغرى فحسب، لما لذلك من تأثير في رفع سويّة التوتر اللغوي والإيقاعي في النص. ولا ينساق هذا النص وراء حوافز حكائية طليقة تخلّ بالتكثيف، أو حوافز حكائية مقيّدة تخلّ بتمحور الحكاية حول موضوع واحد، لأن انسياقه وراء هذين الأمرين سيرهّل القصة القصيرة جداً بسبب التفاصيل، أو سيخرجها من جنس القصة القصيرة جداً بسبب الافتقار إلى الوحدة النصيّة. ويعود جزء من الفضل في نجاح هذه القصة إلى المفارقة التي تعتمد على أمرين:
ـ الأول هو التضاد الحاصل بين الموت القهري الذي يريده الآخرون لهذه الفتاة في أثناء حياتها، وبين إرادة الحياة التي تعلنها الفتاة من خلال موتها.
ـ والثاني هو التحوير الحاصل للعنوان «سور المقبرة»؛ إذ يغدو في الجملة الأخيرة «أسوار المقبرة»، ونرى أن مثل هذا التحوير (الذي قد لا يقصده الكاتب) يفتح النص على دلالات جديدة، فالفتاة قامت بدورها وتحدّت سور المقبرة الذي تناسلَ أسواراً متعددة، وهذا ما يفترض قيام فتيات أُخريات بالأمر نفسه.
أما على مستوى البنية اللغوية، فقد أدرك الكاتب أنّ الجملة الفعلية هي التي تحرّك الحدث، وسبق أن أشرنا في غير مكان إلى أنّ سيطرة الجملة الفعلية هي قدر القصة القصيرة جداً، لما لها من قدرة على السير بحدث لا يحتمل التأجيل نحو النهاية، فالجمل الثلاث الكبرى هي جمل فعلية، وهناك جملتان صغريان فعليتان، وأخريان اسميتان، جاءت الأولى منهما (وفي يدها فرشاة) لتكون وسيلة الفعل، بينما جاءت الثانية (عاشقة الحياة) محمّلة بطاقة فعلية يجسّدها اسم الفاعل.
كما استخدم الكاتب عدداً كبيراً من المصادر التي ترسّخ إيمانه بثبات المقولة، وعدداً من المشتقات (اسم فاعل/ اسم مكان/ صفة مشبّهة)، غير أن اللافت للنظر غلبة أسماء الفاعلين: (السابعة/ المطوّع/ الشهود/ عاشقة) التي تمنح النص سمتي الرغبة في التغيير والقدرة عليه.
وبما أن هذه الفعلية متضادة (السابعة/ عاشقة) x (المطوّع/ حشود) فإنّها تُنشئ صراعاً تظهر مؤشرات نتائجه من خلال ملاحظتين: الأولى أنّ فاعلية الفتاة تحاصر فاعلية المطوّع والشهود وتحدّ منها على مستوى الفضاء الطباعي، والثانية أن اسم الفاعل الذي يختم الصراع ويحدّ نتائجه هو من نصيبها، ما يجعل دلالة المشتق الأكثر ظهوراً في النص متساوقة مع دلالة النص النهائية، وتحقق انتصاراً لغوياً يضاف إلى الانتصار الحكائي والدلالي.
وثمة أمر أخير لا بد من الإشارة إليه هو أن القصة اعتمدت في بناء حكايتها ودلالاتها على أركان القص القصير بشكل مباشر، من دون استثمار يُذكر للتقنيات السردية التي تحتملها القصة القصيرة جداً، فلا تصوير ولا أنسنة ولا تناص ولا استثمار للألوان أو غير ذلك.
المصدر: القدس العربي