سلمى الخضراء الجيوسي: ثلاثون امرأة… في امرأة

الجسرة الثقافية الالكترونية
عبد الواحد لؤلؤة
قد يحق لي أن أعدل في عبارة أطلقتها قبل سنوات، واستحسنها عدد من المتأدبين والمعنيين بالأدب العربي والثقافة، ونقلها إلى اللغات العالمية، عن طريق الترجمة إلى اللغة الانكليزية أولا، لأنها أوسع اللغات الأوروبية انتشارا.
كان ذلك في الحديث عن مشروع «بروتا» الرائد لنقل مختارات من أدبنا العربي وجوانب من ثقافتنا، مشروع أسسته عام 1980 الأديبة الشاعرة الفلسطينية د.سلمى الخضراء الجيوسي. إن استعراض قائمة سريع بعناوين الكتب التي ترجمت إلى الانكليزية ونشرت في دور نشر عالمية، بمساعي الدكتورة سلمى، توحي بأن مشروعها يصدر عن مؤسسة ثقافية كبرى، لها موظفون كثار وميزانية ضخمة، وما لدور النشر من وسائل. ولكن معرفتي الخاصة بصاحبة المشروع وتعاوني معها منذ تأسيسه إلى اليوم، يسوغ لي أن أصف الدكتورة سلمى بأنها «عشرون امرأة في امرأة». والآن أعدل في تلك العبارة، وأقول بغاية الثقة، إنها «ثلاثون امرأة في امرأة».
لا مكتب سوى شقتها الصغيرة ذات الغرفتين، في كمبردج، غير بعيد عن جامعة هارفرد. غرفة لها وغرفة مكتبة صغيرة وجهاز استنساخ، وهاتف، وجهاز فاكس، ولم يكن الكمبيوتر من بركات تلك الأيام بعد. عمل متواصل طوال انهار وآناء الليل، إعداد قوائم بعناوين كتب مرشحة للترجمة، اتصالات بمترجمين ذوي كفاءة وقدرة على العمل في ظروف بلاد عديدة ليست في غالبها مريحة أو مشجعة على العمل. إعتماد شديد على البريد في إرسال الكتب أو صورها المستنسخة، تسلم الترجمات، وبعضها بخط اليد، عرضها على مدقق يستحسن الا يعرف لغة النص العربي، ليرى كيف تبدو الترجمة للقاؤئ الأجنبي، وبعد هذا، البحث عن ناشر أمريكي أو بريطاني لا يأنف من نشر الأعمال الأدبية العربية، ولا يخضع للضغوط … إياها. ثم، التمويل؟ دفع مكافأة المترجم والمدقق، و… الناشر، وهو المبلغ الأكبر… من أين؟
كان عليها أن تتصل ببعض المتمولين العرب من أصحاب الحمية على تراثنا، لدعم المشؤوع، ولو من باب دفع الزكاة عن أموالهم. واستجاب نفر طيب منهم. ثم مؤسسات الثقافة في بلادنا، من وزارات، وجامعات، ومسؤولين وأصحاب نفوذ في بعض بلادنا الثرية. بعض أولئك أعجبته فكرة أن يظهر اسمه، او مؤسسته التجاري، راعيا لمشروع ثقافي عربي. لا بأس، بارك الله فيهم. وبعضهم كان يتردد، لأن صاحبة المشروع «امرأة» وليس مسؤولاً حكومياً أو سياسياً، أو…أو. ولكن مع نجاح المشروع في سنواته الأولى، تحسن الدعم، مما ساعد على التوسع في اختيار الكتب، من مختارات، أو من أعمال لأديب واحد أو شاعر، مما بيّن أن المشروع لا يقتصر على أدب بلد عربي واحد دون غيره، أو يركز على أديب دون غيره. ظهر «أدب الجزيرة العربية» مترجماً عام 1988، و»الشعر الفلسطيني» عام 1992، و»الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس» عام 1998 ترجمة لكتاب «تراث الإسلام» الذي أصدرته دار «بريل» في «لايدن» الهولندية، وهو 48 بحثا بالانكليزية والفرنسية والإسبانية، بمناسبة مرور خمسة قرون على انتهاء الحكم العربي في الأندلس (1492 ـ 1992). وقد عُقد المؤتمر في غرناطة، برعاية الملك خوان كارلوس والملكة. وفي عام 2008 صدر «حقوق الإنسان في الكتابات العربية» بأقلام عدد من الباحثين. هذه عناوين قليلة مما صدر خلال هذه الخمسة والثلاثين عاماً من العمل المتواصل.. تحريراً وترجمة وتدقيقاً ونشراً.. وكل هذا تقوم به امرأة واحدة، وجدت من الأفضل أن تنتقل بنشاطها إلى البلاد العربية، فاستقرت في عمان الأردن، وما تزال هذه الثلاثون امرأة تعمل باستمرار، وما أزال أعينُها في كل عمل يقع في طوقي… بل يطوقني، مثل العمل الأخير «السرديات العربية القديمة» الذي حمّلني «كتاب التيجان في ملوك حِميرَ» بسردياته وَعرة النظم، ولكنها تحكي لنا أخبار ملوك اليمن الأقدمين، وقبائلها، مع أخبار الملك سليمان الذي علمناه منطق الطير.
ليس من السهل، وبخاصة في السنين الأخيرة، إيجاد من لديه معرفة لغوية ـ أدبية في لغتين مثل العربية والانكليزية، مع قدرة على مجالدة النصوص والبحث في ما استغلق منها، ووضع الهوامش الضرورية في كثير من الأحيان، سواء من لغة النص أو من اللغة الأخرى، لغرض إنارة الصورة التي قد تغشّي عليها الأساليب البلاغية أحياناً. وبعد أن ينتهي المترجم من عمله، يُعرض العمل في الغالب على مترجم آخر للتدقيق، ثم تعرض الترجمة، ليضفي على العمل طلاوة يسيغها القارئ الأجنبي. والكلمة الأخيرة في العمل تعود إلى الدكتورة سلمى لتطمئن قبل إرسال العـــمل إلى النــاشر. أي صبرٍ تتطلب كل هذه الخطوات!
بقيت مسألة التمويل للمشروع عائقاً أحياناً، دافعاً أخرى. وصاحبة المشروع لا تملك مالاً لتدفع للمترجمين، وأغلبهم يرحب بتكليف من هذا النوع، يمنحه ثقة لترويض قدراته اللغوية والأدبية، وتأتي المكافأة برداً وسلاماً، ولو أنها «خشكار دايم» التي هي «احسن من سميد مقطوع» على رأي جدّاتنا. أدبنا غير معروف عالمياً إلا عن طريق ما نقله بعض أساتذة الجامعات في الغرب، وهو محدود في أغراضه الأكاديمية. لكن مشروع «بروتا» أشمل وأوسع وأكثر تنوعاً. لقد دخلت معظم كتب هذا المشروع المترجمة في قوائم المراجع الأكاديمية في الغرب، لدقتها وحداثتها ومنظورها الأشمل، لخلوها من توجهات دعائية أو أقليــمـية، إلى جـــانب سلاسة اللغة التي تُرجمت إليها. مشروع بهذا الحجم وهذه الشمولية كان محفوفاً بمخاوف المخلصين والمحبين منذ نشأته. وبعض أسباب ذاك أن الجهات الممولة، إذا كانت رسمية، أو حكومية، فإن الإجراءات لن تخلو من المكتبيات (البيروقراطية) في تقديم الدعم الذي لابد أن يمر خلال اللجان المختلفة والتحقيقات المتنوعة. في حالة الدعم من جامعة عربية في بلد أنعم الله عليه بالبراميل النفـــطية، يــكــون الأســـاتذة في تلك الجامعات عامل تـــحـــريك، وتسريع في الإجراءات، في بعض الأحيان. ويبقى انتظار تواقيع المسؤولين لإطلاق المبالغ مسألة تتطلب صبر أيوب، أو صبر أيوبة، صاحبة المشروع.
لكن دعم مشاريع الترفيه والتسلية ليس أمامها رحلة جبلية تسلقية صغيرة عند مخاطبة ذوي الشأن، في البلاد المترفة، لأنها ليست مشاريع أدب، أو ثقافة.. تتطلب الحذر. أذكر، منذ سنوات، كنتُ في زيارة قصيرة لإحدى عواصم خليجستان، ويومها كان «المني جوب» يكتسح سيقان الفتيات ويرتفع فوق الركبتين. كان تلفزيون ذلك البلد العربي المسلم يعرض، بابتهاج واضح، وصلات رقص.. وشخلعة، لعدة ليالٍ في الأسبوع، لفتيات انكليزيات.. عاريات الرُكب.. وما فوقها. قبيل عودتي من تلك الزيارة مررتُ أمام مبنى يُعنى بالثقافة.. والعلاقات العامة، وفوجئتُ بعدد من «المني جوبات» يتقاتزن نزولاً على درجات ذلك المبنى العتيد. وفي يد كل واحدة منهن ربطة أوراق نقدية كبيرة يلوّحن بها فرِحات مُتهللات. كنتُ أخشى أن يخطف تلك الأموال أحد العمال المساكين الكثار في ذلك البلد العتيد، وأغلبهم لم يرَ نقوداً بتلك الكثرة.. لكن «المني جوبات» حصلن على مكافآت أتعابهن للترفيه عن شعب مسكين… بقي أن نعرف أن تلك كانت ليلة «الإسراء والمعراج» والاحتفال واجب!
المصدر: القدس العربي