شعرية الحنين والولع بالمكان

رشيد الخديري

«الموت كما لو كان خردة» هو العنوان الذي اختارته الشاعرة السورية وداد نبي لمنجزها الشعري الصادر حديثاً عن بيت المواطن للنشر والتوزيع سنة 2016، ويمكن اعتبار هذا العمل الذي يدخل ضمن سلسلة شهادات سورية شهادةً بلون المجاز ونصوصاً تحتفي بالحياة إلى حد الموت، واللافت، أن تجربة الحرب صارت هي الأكثر تعبيراً عن الواقع السوري الممزق، ووداد نبي شأنها شأن مجموعة من شعراء الحساسية الجديدة في سوريا، من أمثال عماد الدين موسى وخلود شرف وغيرهما، لا ينفكون عن ذكر الحرب وصورها الدامية، لكن لكل طريقته الخاصة في نقلها إلى القارئ/ المتلقي، وكأننا إزاء كاميرا النابغة، تسجل كل ما يقع من انكسارات وتمزقات.
تقول الشاعرة في قصيدة «رسائل: اثنا عشر غزالاً قنصهم الحزن»: البلادُ التي منحتنا أسماء كئيبة/ وأمهات قلقات/ ونشيداً وطنياً يمجد القاتل/ بعد ربع قرن وحرب/ هل ستمنح توابيتنا تصريحات عبور.
إنها لعنات الحرب تحضرُ بشكل متواتر داخل هذه المجموعة، كل نص هو صدى لنص قبله، وصورة لما سيكون عليه النص المقبل، بما يحمله هذا الحضور ليوميات الموت السوري على مدى 114 صفحة، حتى تصير الحياةً غائبةَ والموت عاديا «ولو بعد ربع قرن وحرب» ، مازالت «البلاد كئيبةً» والتوابيت في حاجة إلى تصريحات عبور مؤقت أو دائم، سيان، فصوت الحرب يلعلع وتتكاثر الجثث في الطرقات والشوارع ولو بشكل مجازي.
بين ديوان «ظهيرة حرب… ظهيرة حب» الصادر سنة 2013، ثمة حضور جنائزي للغة والصور، بحيث تجترح وداد نبي طرقاً للتعبير عن واقع دموي، ويتم نقله كأي شيء عادي يحدث وسيحدث، بقدر ما تحضر يوميات الموت، بقدر ما تختفي الحياة، وتصير في الهامش، ما أعنيه هو هذه الإقامة في الجرح، وهو ما أشار إليه الشاعر علي العلوي في كون القصيدة «انعتاقا من دوائر الحزن التي تلف الذات، لكنه انعتاق ظرفي، إذ الأصل هو الجرح الذي يبث في الروح أثناء عملية القراءة بعدما تستوي القصيدة كائنا شعريا»، والحال، هو كمية الدم التي تصعد حين نقرأ نصوصاً تسعى إلى استدراج المتلقي/ القارئ إلى حفلة من الأشلاء والجثث، تقول الشاعرة في قصيدة «أقل من صغيرة»: ثمانية وعشرون جرحاً دونتها ضاحكةً/ على الهواء/ على لوحة لـ(خوان ميرو)/، وجبينك في المدن البعيدة/ فقط/ جرح واحد لا أدونه/ إنما أخبئه كحرز لموتي القادم/ جرح الشعر الخالد. هكذا هي أفعال المكاشفة عند وداد نبي، أفعال تشي بقدرة القصيدة على لملمة شتات الذات، وترميم تصدعاتها في مواجهة الموت، رغم الطابع الجنائزي الذي يؤثث أفضية المنجز الشعري، إننا نلمس سخرية لاذعة للواقع، بحيث تصبح دالة الموت هي المهيمنة، كتعبير عن الواقع السوري، لماذا هذا العزف على وتر الموت؟ ولماذا هذه السخرية من كل شيء؟ هي أسئلة عديدة تتغيا أجوبة آنية، لكن، هيهات، فالموت متوثب، متربص، باسط يديه لاستقبال حياةً جديدة، بلا معنى ولا طعم غير طعم الرصاص والدم المخلوط بأوجاع الإنسان.
في هذا العمل الشعري، تتأسس الكتابة على أنماط شعرية عديدة، بدءاً بالقصيدة – الشذرة، التي أخذت حيزاً مهما من الكتابة، بحيث الأكوان والبنيات المشتغل عليهما، يؤشران إلى تعبير شفيف، وقدرة هائلة على نقل الصورة، بمعنى أن هذه الشذرات رغم قصرها، غير أنها تحمل رسائل مهمة، وتختزل تلك الشحنات التعبيرية الغارقة في الحميمية، إذ رغم البساطة التي غلفت العمل منذ البداية حتى النهاية، ساهمت في نسج علائق متشابكة مع القارئ/ المتلقي، ولا نعني بهذه البساطة، السقوط في التهلهل، وإنما هناك ألفة تخترق هذه البياضات التي هي في حاجة إلى قارئ نجيب لملء فراغاتها. والشاعرة وداد نبي رغم إقامتها في المهجر، بعيداً عن حضن الوطن، فإن ما يسكنها هو هذا الحنين الجارف للمكان، بحيث نلمس ولعاً وحرقة وحنيناً، وبكل لغات الحب تصرخ قائلة في قصيدة «قصائد تطير باتجاه الجنوب»: ليس لي أساطير/ لأسردها على مسمع التاريخ/ فيغفر لي/ غدري بالطين الذي شُكلت منه/ لي بضع صور/ أخاف عليها من هواء رئتي/ إذ كلما شهقت حنيناً/ طارت أسرابا/ أسرابا/ في اتجاه الجنوب»..
بكل هذا السفر الجواني في اتجاه «جنوب الروح»، تتشكل السيرة/ سيرة كل واحد منا من أخاديد الحنين، وتصير الحياة مجرد ألبوم صور بين يدي التاريخ، ما نكتبه اليوم، يصبح في عداد النسيان، وحدها أراضي الشعر، تظل وارفة، رغم الذكرى حجر عــــــثرة في سبيل النسيان، والشاعرة يملأها الحنين إلى الوطن، حتى لا يتحول إلى سراب أو مجرد صورة في زاوية معتمة من الذاكرة، والمـــؤكد، أن ديوان «المــــوت كما لو كان خردة» هو صرخة من الأعــــماق، وســــفر بين أسوار الذاكرة، لعل هناك بصيص ضوء وأمل في التغيير، تغيير البوصلة فـــي اتجاه الجنوب، لكن هذه المرة، في اتجاه الوطن، لكي لا نكتب الجرح مرتين، هي مرة واحدة تكفي كي تزهر الأرض من جديد.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى