صادق جلال العظم… خاض معركة الاستبداد السياسي والديني ولم يهادن السائد

«إن الإيديولوجية الغيبية والفكر الديني الواعي الذي تفرزه مع ما يلتف حولها من قيم وعادات وتقاليد هي حصيلة للروح العربية الأصلية الخالصة الثابتة عبر العصور، وليست أبداً تعبيراً عن أوضاع اقتصادية مُتحوِّلة، أو قوى اجتماعية صاعدة تارة وزائلة تارة أخرى، أو بنىً طبقية خاضعة للتحول التاريخي المستمر ولا تتمتع إلا بثبات نسبي». (من كتاب نقد الفكر الديني). ربما بهذه العبارات يلخص المفكر والباحث السوري صادق جلال العظم الإشكالية الكبرى التي يحياها ما يُسمى بالعالم العربي.
ويعتبر العظم من أشهر العقلانيين العرب، وله إسهاماته المشهودة في نقد المؤسسة الدينية، وجرّاء ذلك سُجن على خلفية أطروحات كتابه «نقد الفكر الديني» 1969، كذلك أثار العديد من المعارك الفكرية الصاخبة، عندما أصدر كتابه «ذهنية التحريم» 1994، لتفنيد ومناقشة الهجمة الساذجة التي أثارها العديد من أصحاب الفكر العربي الغوغائي، رداً على رواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية». هذه بعض من آراء الأدباء والمثقفين العرب، في ما يخص تجربة الرجل وإنتاجه الفكري، ومدى تفاعل هذه الأفكار والرؤى مع الوقائع والقضايا الاجتماعية العربية.
عقل ناقد لمشكلاتنا الراهنة
بداية ترى الناقدة والكاتبة المصرية اعتدال عثمان أنه.. ليس مُهما أن تكون متفقاً أو مختلفاً مع التوجهات الأيديولوجية لمشروع المفكر السوري صادق جلال العظم، لكن المهم أن نتمثل نموذج المثقف العربي الذي حمل العظم صفاته على امتداد مسيرته العملية. إنه يتميز باستمرارية أساسية على مستوى النظر والممارسة لتوجهاته الفكرية الناقدة على نحو يعمل على تحفيز العقل على النقد العلمي القائم على الدراسة والبحث، وتقديم البراهين في معرض إثارة القضايا الجذرية التي تناولها في أعماله. لقد أقدم العظم، بجرأة عالية مقتدرة، على تحليل الواقع وقراءة الظواهر السلبية في واقعنا قراءة نقدية كاشفة، مساوياً بين النقد والمعرفة الموضوعية المبنية على أساس علمي. وهذه القراءة لديه هي الوسيلة التي يمكن أن نواجه بها أشكال الوعي الزائف، سواء تجلى ذلك في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» أو في الدعوة إلى إعادة قراءة التراث الديني من منظور عقلاني، بالإضافة إلى دفاعه الحاسم عن حرية الفكر، وحرية الرأي والتعبير. لقد آثر صادق جلال العظم الانخراط في الحياة العامة، ولَم يكتف كأستاذ جامعي متمرس بالعكوف على البحث الأكاديمي في دوائر مغلقة. كذلك تميزت كتاباته بأسلوب سلس يجتذب القارئ الذي يوجه إليه الخطاب بصورة مباشرة، وكأنه يلقي محاضرة أمام طلابه في الجامعات العربية والغربية التي درّس بها. وهو في هذا يتخلى عن السلطة الرمزية للأستاذ المعلم أو المثقف العلّامة الذي يُملي على مستمعيه أو قرائه ما يراه فصل الخطاب أو صحيح الفكر، مقابل هدف آخر هو دعوتهم إلى إعمال التفكير النقدي في قضايا ذات حساسية في ثقافتنا الراهنة. وهو يرى أنه مطلوب من المثقف أن يأخذ المستجدات التي يأتي بها الواقع المتغير في الاعتبار وضرورة استيعابها بصورة أو أخرى بعقلية نقدية متفتحة، فالثقافة الحية ــ وفقا له ــ لا تتوقف عن نقد وإعادة نقد نفسها، وعن إعادة النظر في افتراضاتها الأولية، وفي منطلقاتها الأساسية، وإلا لما تمكنت من تجاوز حاضرها وصنع مستقبلها. لهذه الأسباب سيظل صادق جلال العظم أيقونة مضيئة في ثقافتنا العربية المعاصرة.
تأسيس مشروع فكري علماني
من ناحية أخرى يتعرّض الباحث السوسيولوجي التونسي شكري الصيفي إلى الصراع الدائم بين الرؤية الدينية والأفكار العلمانية، وهو ما دار حوله المنهج النقدي لصادق جلال العظم، لذا يعتبر من أبرز رموز الفكر العلماني المعاصر في العالم العربي، وله إسهامات معرفية عميقة التأثير أحدثت جدلاً واسعاً، خاصة «نقد الفكر الديني، وما بعد ذهنية التحريم». ويضيف الصيفي أن أفكار العظم عرفت عدة مراحل بدأت ما بعد النكسة بحثا عن أسباب الهزيمة، وركز على ذلك في مؤلفيه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، و»نقد العقل الديني»، وتمحور بحثه على ما أطلق عليه «نزع القداسة عن نقد الدين». وصنف إيديولوجيا الإسلام السياسي على أنها لا تمثل كل الإسلام، ولا تمتلك سلطة تأويل النص الديني. ومن هذا المنطلق قسم العظم هذا التيار إلى ثلاث نماذج، الأول أطلق عليه نمط الإسلام الرسمي الراديكالي، واعتبره مناهضاً للحريات ومانعاً للتعددية الدينية والأنساق الثقافية والفكرية المغايرة له. وثان أطلق عليه الإسلام التفجيري الانتحاري وهذا النمط يقوم على مبدأ الحاكمية، ويؤمن بعقيدة التكفير والقتل بحجة حماية الدين. وقاد هذا النمط صراعات عنيفة في الداخل وخاض حرباً مع الغرب انتهت بأحداث 11 سبتمبر/أيلول. النمط الثالث هو إسلام البيزنس والسوق. وهو إسلام الطبقة الوسطى البرجوازية المرتبطة بالبنوك الإسلامية وصيغ المرابحات التجارية، وهو نموذج يهتم بالبعد الاقتصادي. وعبّر العظم عن ذلك بقوله إنه «الإسلام التجاري للطبقة الوسطى الذي ينتشر بصورة خاصة لدى البورجوازيين في الدول الإسلامية ويمثل نموذجا وسطياً للإسلام»، معتبرا أنه الأكثر سلمية. يرى العظم أن الفكر العلماني العربي تأسس بناء على مضامين كتاب علي عبد الرازق عن «الإسلام وأصول الحكم»، وصولا إلى شعار «الدين لله والوطن للجميع». ولم ينف العظم تأسيس مبادئ الفكر العلماني بفضل المفكرين المسيحيين العرب خوفاً من هيمنة الدولة الدينية. واعتبر العظم أن التاريخ الإسلامي الحديث ظل في حالة تدهور دائم، منذ المشروع الثوري للأفغاني، على حد قوله. في نقد خطاب العظم، ثمة من يعتبر خطابه الفكري والسياسي مكرسا لحتمية الصدام التاريخي بين العلمانية والإسلام، رغم سقوط الإيديولوجيا، وصعود القيم الإنسانية، والمدنية والمواطنية، واستقرار الاختلاف حول جدوى الشفافية ونجاح الديمقراطية لدول منطقتنا العربية، ولعل العامل الأهم هو سقوط الديكتاتوريات التي كانت تكرس لمثل هذا الصدام. ينتقد البعض العظم معتبرين أن الدولة الوطنية التي جاءت ما بعد الكولونيالية في العالم العربي هي دولة علمانية، وبالتالي فالمشروع العلماني بتمظهراته السياسية والفكرية التي ظلت مسيطرة على المشهد العربي طيلة العقود الماضية، تتحمل نتائج الفشل والإخفاق في المنطقة، وفي تقديم مشروع تنويري في ظل تفشي الاستبداد والديكتاتورية. لكن العظم يؤكد أن المشروع العلماني لم يفشل بل فشلت محاولات تطبيق بعض نماذجه.
التنوير بلا تزوير
ويرى الكاتب والباحث المصري طلعت رضوان .. أن المفكر السوري صادق جلال العظم أحد المفكرين النادرين، سواء العرب أو المصريين، لأنه التزم بما يُمليه عليه ضميره (العلمي والإنساني) فلم يُهادن ولم يُغازل الثقافة السائدة، ورفض أن يكون نسخة كربونية من نُسخ المُـتعلمين المحسوبين على تلك الثقافة. وحتى عندما تعرّض لمحنة المحاكمة بسبب كتابه «نقد الفكرالديني» فإنه لم يتراجع وأقرّ أمام القاضي بأنه مُـتمسّـك بكل حرف كتبه. وانطلاقاً من إيمانه بخطورة تشويه المشهد الثقافي، والتزوير إرضاءً للثقافة السائدة، فإنه كشف دور المتعلمين الذين هاجموا سلمان رشدى بسبب روايته «الآيات الشيطانية» مثل أحمد بهاء الدين الذي كتب «إنّ الكتاب حقير وصادر عن نفس مريضة، رضيتْ لنفسها أنْ تغترب وتبيع روحها وتراثها»/جريدة «الأهرام» 1 مارس/آذار 1989. وأشاد العظم بالناقد غالي شكري الذي رصد أسماء ثلاثة عشر مصرياً هاجموا سلمان رشدي، ولم يقرأوا الرواية، من بينهم رجاء النقاش. وكان تعليق العظم «يؤلمني أن ينحني ناقد من عيار النقاش إلى مستوى إطلاق الأحكام الاعتباطية على رواية لم يقرأها، مُـتهماً إياها بتعزيز صورة الغرب السيئة عن الشعوب العربية. بينما أدب سلمان رشدي خالٍ من أي إشارات عن الشعوب العربية، وأن أدبه لا يُدين إلا وحشية الأنظمة السياسية للعالم الثالث وتخلفها وكراهيتها للتقدم والحضارة «ذهنية التحريم» رياض الريس للنشر- نوفمبر/نوفمبر 1992).
وبينما المُـتعلمون العرب والمصريون مدحوا إدوارد سعيد لدرجة الغزل، خاصة بعد صدور كتابه «الاستشراق» فإن القراءة الجادة العميقة ــ التي ترفض التزوير ــ جعلتْ العظم يقرأ الكتاب برؤية مختلفة عن (رؤية المُـنبهرين) ولكي يدلل على كلامه نقل فقرة كتبها سعيد وهي «يـُشكــّـل العالم العربي اليوم تابعاً فكرياً وسياسيـاً وثقافيـاً للولايات المتحدة، لا تبعث هذه العلاقة على الأسى في حد ذاتها، لكن الشكل المُـحـدّد الذي تتخذه علاقة التبعية هذه هو الذي يبعث على الأسى». هذه الفقرة لم يتوقف أمامها إلا صاحب ضمير حي وفكر مُـستنير مثل العظم، فكتب «لا ينصب اعتراض إدوارد وأساه على تبعية العالم العربي الفكرية والسياسية والثقافية للولايات المتحدة، بل على الشكل المُـحـدد الذي تتجلى فيه هذه التبعية والأسلوب السيئ الذي تُمارَس به. أي أن إدوارد يريد الإسهام في تحسين شروط علاقة التبعية والتخلص من جوانبها السيئة، وليس الدعوة للتخلص منها كلياً وتحطيمها نهائياً، لذلك وجّه (إدوارد) نقده وهجومه للولايات المتحدة (المتبوع) وليس إلى (التابع)».
مُفكر اللحظة الفارقة
ومن ناحيته يرى أستاذ الأدب العربي «راكان الصفدي» أن صادق جلال العظم .. جاء في زمن الأسئلة الحادة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، التي هزّت الثوابت العربية وزلزلت السائد، وطرحت مشروعية محاسبة كل شيء في واقعنا العربي المريض، من الدين إلى السياسة إلى المجتمع، ولذلك كان كتابه «نقد العقل الديني» الواخز ضمن هذه الحالة التي عمّت الأمة المصدومة، وقد انطلق فيه من رؤيته الماركسية في تفسير العالم وحركة التاريخ، فوجّه نقده الجريء إلى أهمّ مكوّن من مكوّنات العقل الجمعي العربي: الدين، وحمّله الكثير من مسؤولية انكسارنا التاريخي، كما فعل فلاسفة التنوير في عصر النهضة الأوروبية. وفعل مثل ذلك في كتابه «في الحب والحب العذري» الذي كان إنارة لجانب معتم آخر من حياتنا، وهو الجانب العاطفي والاجتماعي. وفي الكتابين نلمس فكراً واحداً، ومقولة واحدة هي: رفض القمع، قمع الفكر وقمع الجسد، فالدين الذي تأنسن في منطقتنا أصبح صورة عن الإنسان المسيطر الذي يحكم بسوط الخوف والجوع، والإنسان الذي تألّه فرض أعرافاً وعادات تحوّلت إلى ما يشبه الدين، وقد أراد العظم أن يفكّك هذه البنية ويعيد إلى الإنسان إنسانيته المستلبة عن طريق الحرية بحسب المفهوم الماركسي، أي الحرية المرتبطة بتحرر المجتمع من الاستعباد بجميع أشكاله، وهو وإن سبق إلى الكثير من هذه الأفكار ولاسيما في كتابات عصر النهضة العربية وكتابات سلامة موسى وشبلي الجميل وغيرهما، تميّز بالوضوح الصارخ والجرأة المطلقة في المس بالمقدّس في زمن المواربة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو ما جعله في دائرة الضوء وعلى مرمى من أعدائه الكثيرين.
صاحب الأسئلة الحامضة
الأكاديمي اليمني سعيد الجريري يقول: يضعنا مُفكر بقامة صادق جلال العظم ومن سبقه من المفكرين العرب في القرن العشرين، إزاء أسئلة عديدة، لكنها حامضة، ذات صلة بفاعلية المثقف في توازيها مع سلطة العسكر في البلاد العربية. لكن ما يستوقفني الآن هو سؤال الثورة العربية لا بمعناها الصدامي المباشر في مرحلة التحرر من الحقبة الاستعمارية الغربية، وإنما في مستواها الفكري والجمالي.
لقد مثل كتابا صادق جلال العظم « نقد الفكر الديني»، و»في الحب والحب العذري» على سبيل المثال جزءا من إنجاز ثقافي في سياق مشروع فكري اشتغل على إيقاظ واستنهاض ما في العرب من مفاعيل القوة والمواجهة العقلية للمركوم الثقافي المهيمن، بفاعلية نقدية عميقة.
ويضيف الجريري: بين ما حدث من تحول فكري متقدم، وما تحقق من (استقلال) سياسي، يقف المتأمل على واحدة من مفارقات الزمن العربي المعاصر في العلاقة بين المثقف والسلطة، فتحرير الذات العربية بوعي مغاير، لم يتسق مع مجريات الممارسة السياسية وخلفياتها الاجتماعية التي ظلت هشة، وإذ انتكست حركات التحرر أو الثورات العربية بأنظمة عسكرية، ادعت أو انتحلت صفة المدنية، وكرست ديكتاتورية الحاكم أو الحزب (الوطني) الذي يستعيد صورة الممدوح القديم، فإن البنى الجديدة التي حاول تجذيرها صادق جلال العظم وجيله من المفكرين والمثقفين، واجهتها الأنظمة الديكتاتورية العربية بتحالف سرطاني مع قوى السلفية العربية دينية كانت أم اجتماعية أو ثقافية، في مشهد مفارق، يكشف عن حالة افتراق بين موقفين جوهريين: إنساني، ولاإنساني. وهو المشهد الذي اتضحت ملامحه من هيمنة للبنية الثقافية السلفية، ما يجعل منجز صادق جلال العظم في اللحظة الراهنة جديرا بإعادة القراءة، والمضي على نهجه التنويري الذي يلاشي المسافة الافتراضية بين الفكري والسياسي، بالنظر إلى أن الدولة الاستبدادية العربية تراهن على مركومها الشائه لإجهاض التحول المدني الحقيقي الذي يضع الإنسان العربي على عتبة إنسانية، وهو المشروع الذي تم إجهاضه خلال نصف قرن مضى.
رجل الجدل والاشتباك المعرفي
الروائي التونسي محمد الجابلّي يعتبر العظم من أهم الكتاب والمفكرين الذين وسموا المرحلة الحديثة، ومؤلفاته القليلة نسبيا كانت تحفر في العمق المُغَيَّب، وتنبش «المسكوت عنه»، كتابه الأول «نقد الفكر الديني» الذي نشر في آخر السبعينيات يحمل البعد الأعمق للجدل الذي تفاداه النقاد والمفكرون، أو تناولوه بطريقة موغلة في التعمية والتجريد، لأن المسألة الدينية كانت وما تزال محل سؤال هامس في واقعنا المبني على التعمية والنفاق الجماعيَيْن، وهذه الجرأة الفكرية لم تتوقف على ذلك الكتاب ذائع الصيت، بل تجاوزته عبر الجدل المباشر في الفضاءات الجامعية، بل وفي المنابر الإعلامية، فكان «العظم» من القلة المفكرة التي طالها التكفير والمحاكمة والسجن. ولم تتوقف الإشكاليات المثيرة في كتابه الأول، بل واصل الحفر في القضايا ذاتها في كتبه اللاحقة مثل «ذهنية التحريم» و«دفاعا عن المادية». وربما السؤال الأهم وواجبُ الطرح وفقا لـ الجابلّي هو «إلى أي حد استطاع الفكر التقدمي لهذا الرجل أن يؤثر في محيطه؟». وهذا السؤال يحيل إلى كتابات كثيرة وإلى أعلام ألقوا حجرا منذ زمن في البرك الآسنة نذكر منهم، حسين مروة والطيب تيزيني وعبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وقبلهم سلامة موسى. أولئك الذين آمنوا بممكنات حداثة في الوعي والواقع العربيين وانبروا لنقد الموروث وجره إلى مرايا الواقع المتحرك بقضاياه المستجدة وإبعاده عن القداسة والتحنيط.
ربما نقولـ وللأسف ـ إن البيئة العربية عموما هي من البيئات الطاردة لممكنات الفكر النقدي، بل نكاد لا نبرح المربع القديم لسلطة العقائدي الأسطوري في حياتنا ومخيالنا، ونحن أحوج ما نكون إلى حركة اعتزال جديدة تتضافر فيها الجهود لعقلنة واقعنا، بدءا بذواتنا الواعية ـ حسب المقولة الهيغلية ـ «لأن العقل لا يمكن أن يحكم الواقع ما لم يصبح الواقع في حد ذاته معقولا» ذلك أننا دخلنا «الحداثة» من باب النكبات والنكسات والأزمات، لا من باب العقل المتحرر، فآلت مجمل المحاولات النقدية إلى ما يشبه «الولع بالحكاية» عند المتقبل الذي يتحمس لتلك المقولات ثم يلغيها في واقع متحجر تحكمت فيه هيمنة استعمارية عبر أنظمة وسيطة تدعي الحداثة وتتاجر بالدين بطرق مختلفة .
كتابات «العظم» وغيره بقيت هامشا على ضفاف واقعنا المتناقض المأزوم، ولا بد أن نتجرأ على أنفسنا وأن نعلن أننا لم نؤسس ما يُطْمَأَنُّ إليه في مجالات كثيرة أولها أن نتحرر من الوهم، وأن نعلن سلطان العقل وأن نراجع بعض ما عشنا فيه من أكاذيب جماعية كأكذوبة الحداثة والتحديث وأكذوبة الاستقلال وحرية الإرادة.
في سطور
صادق جلال العظم من مواليد دمشق عام 1934. درس الفلسفة في الجامعة الأمريكية، واستكمل دراساته في جامعة ييل في الولايات المتحدة. عمل في التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت بين 1963 و1968. ثم أستاذاً للفلسفة الأوروبية في جامعة عمّان منذ عام 1969. كذلك باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني، وترأس تحرير مجلة «الدراسات العربية» في بيروت. عاد إلى سوريا وعمل أستاذا في جامعة دمشق في الفترة ما بين 1977 و1999 ثم أستاذا زائرا في قسم دراسات الشرق الأدنى، في جامعة برنستون حتى عام 2007. كتب في الفلسفة والمجتمع والفكر العربي المعاصر إضافة إلى مساهمات في حقل الأدب.
ورأس رابطة الكتاب السوريين التي تأسست عام 2012 إثر انطلاقة الثورة السورية.
من أعماله: النقد الذاتي بعد الهزيمة والذي صدر إثر هزيمة حزيران عام 1967، و»نقد الفكر الديني» و»الاستشراق والاستشراق معكوساً»، و»ما بعد ذهنية التحريم»، و»في الحب والحب العذري» إضافة إلى أعمال أخرى كثيرة معظمها صدرت باللغة الإنكليزية.
حصل على وسام الشرف الألماني (ميدالية غوته) العام الفائت 2015.
(القدس العربي)