صورة اليهودي المغربي في «زغاريد الموت» لعبد الكريم جويطي

الجسرة الثقافية الالكترونية
* مصطفى الورياغلي العبدلاوي
هل الهوية معطى ثابت، تولد مع الإنسان مكتملة جاهزة، تدمغ كينونته وأفعاله، وترسم حدود عالمه، وتحكم انتماءاته وولاءاته؟ أم الهوية اختيار مسؤول، وبناء مستمر تضطلع به الذات عبر سيرورة وجودية قد تستغرق العمر كله؟ هل هي قدر مصيرٍ فرديّ أم إكراهٌ مؤسساتيٌّ يراعي مصالح تتجاوز الذات الفردية، ولا يأبه لما تحمله من أشواق أو تصبو إليه من قيم إنسانية؟ تلك أسئلة تكيّف فعل تلقي رواية «زغاريد الموت»، حيث يجمع الفضاء الروائي وسيرورة الأحداث بين شخصيات متباينة الأصول والمشارب، لكنها تحمل في أعماقها السؤال الملحاح ذاته: سؤال الهوية. ويبدو «شيمون بلولو»، اليهودي المغربي، الشخصية الأكثر انشغالا بسؤال الهوية، واحتراقاً بتناقضاته.
عندما اضطر «شيمون بلولو»، اليهودي المغربي، إلى هجرة أرضه القاحلة، وكوخه الحقير، وشجيراته العجفاء، في جنوب البلاد، وانطلق في رحلة محفوفة بالموت من كل جانب، رفقة زوجته «إيزا» وابنهما «إسو»، قاصداً مدينة مكناس، بحثاً عن قليل من القوت يسد الرمق، لم يفعل ذلك إلا مضطراً وكارهاً، لأن الأرض والشجيرات والبيت كانت تشكل بالنسبة إليه هويته التي يذوي إن فارقها، ولا يحيى بعدها إلا على أمل أن يعود إليها: «هي أرضنا [يقول شيمون] اقتسمنا معها الملح والماء، الشقوق الدامية والعطاء، الجدود الذين طواهم ترابها وما كفوا عن إحاطة الأحياء بثقل أرواحهم، والأبناء الذين يبرعمهم النشيج والقساوة» (الرواية ص9).
إن البيت الأول والأرض والشجيرات والقرية، تقوم مقام حضن الأم الآمن حيث سرّ التكوين ودفء النشأة، حيث الناس سواسية ولو في البؤس والحرمان، أما الخروج منها فارتماء بين مخالب المجهول ودوّامات الضياع، واقتحام لمجال «الآخر»، حيث تسود الصور السلبية والأحكام الجاهزة؛ يضطر شيمون وزوجته، تجنباً لمخاطر الطريق، في مغرب النصف الأول من القرن العشرين، إلى إخفاء يهوديّتهما: «لقد قيل لشيمون أن يفعل ذلك، لأن قطاع الطرق يحسبون كل يهودي تاجراً يخفي تحته كنوزاً من اللويز والنقرة» (ص11). وعلى الرغم من أن مسارات السرد ستأخذ شخصية شيمون وزوجته إلى آفاق جديدة، وتنفتح أمامهما أبواب الثروة ورغد الحياة، إلا أن هاجس العودة إلى أرضهما في تلك الأصقاع النائية البائسة لن يفارقهما أبداً على الرغم من انصرام الأيام والأعوام.
غير أن الهوية بالنسبة إلى يهودي مغربي يعيش في منتصف القرن العشرين لم تعد مسألة محسومة ومسلَّمة مثلما كان الحال في الماضي، ومثلما هو الأمر بالنسبة إلى كل إنسان يعيش فوق أرض أجداده وآبائه، بين أهله وجيرانه وقومه؛ لقد أصبحت الهوية مصدر قلق وصراع، لأن هناك من يشكك في هذه الهوية، ويلحُّ في دفع شيمون، وغيره من اليهود المغاربة، إلى إنكارها والتعلق بهوية أخرى، ترتبط بأرض بعيدة لكنها مقدسة «أورشاليم»! كان أولئك الزوار المتشحون بالسواد، الذين يأتون في صورة أحبار وتجار وعابري سبيل وأهل وأقارب، لا يملون من الوعظ ونشر الرعب بين يهود البلاد؛ «يرعون بذرة الرعب التي زرعوها في القلوب ويؤججونها، يصفون ببلاغة متمكنة جهنم التي يعيش فيها محدثوهم وإن كانوا لا يملكون رهافة الإحساس بها. يجب أن تكونوا حذرين. (كانوا يوصون في مواعظهم) لم يعد بينكم وبين أورشاليم أكثر ممّا فات.. آه، أورشاليم عمّا قريب ستصير لنا دولة، لنا وحدنا، شامخين، أحراراً. نحن نقدِّر نفاد صبركم العميق. لكن انتظروا…» (الرواية ص175)
كان كلامهم يزرع القلق والتردد في عقل شيمون وروحه؛ فمن جهة كان لا يفهم كيف ينكرون صلتهم بهذه الأرض التي احتضنتهم وأسلافَهم منذ أزمان تمتد في أعماق التاريخ السحيق، ويجحدون أمومتها وهم يلحون على الدعوة إلى هجرها والرحيل عنها؛ كان يخرج من تلك «الاجتماعات ضائعاً يعتصر قلبه غمٌّ لا حدود له. يتذوق عذوبة ارتطام خطواته بالأرض ويعبُّ الهواء بشراهة ثم يعود لعذابه «لِمَ يكرهون الأرض كل كره، لِمَ؟»» (الرواية ص175) لكنه، في المقابل، كانت تنهشه هواجس أخرى، تمتد في أعماق الروح والذاكرة الجماعية، فكان لا يجد بدّاً من أن يُعلنها ويكررها في وجه صديقه «بن دودو»، الذي يمثل بالنسبة إليه صوت الضمير والعقل المتّزن؛ كان «يسأله باتهام: «ألا تحب جيروزاليم؟» فيردّ بن دودو بهدوء ورقّة لا حدود لها: لسنا وحدنا الذين نحبها، يجب أن لا نكون قساة ولا أنانيين»» (الرواية ص175) لا يستطيع أن يتنكر لهذه الأرض لأن أسلافه جزء من ترابها، ولأنها مهد طفولته وصباه وحياته كلها بمرّها وحلوها، لكنه أيضاً لا يستطيع أن ينكر أن أصوات أولئك الغرباء، وهي تمجد أورشاليم، وتبشر بحياة العز والسعادة في جيروزاليم، تعزف على وتر خفي وعميق في ذاته.
يقود ذلك الصراع الداخلي شيمون إلى انشطار في الذات وانفصام في الشخصية، فيقول أشياء لا يسلّم بها، ويدافع عن مواقف لا يطمئن إليها، كأنما هناك ذات أخرى تتملك ذاته: «كان هناك شيء قابع بداخله، غامض وموارب، يدفعه لقول كلمات لم يقصدها، وإلى الدفاع عن مواقف يغمّه ويقلقه مجرد التفكير فيها. كان الأمر يتعدى مجرد اليقين بأن الكلام الذي تفوّه به غريب عنه، إلى الإحساس بأن الحركات العصبية التي يقوم بها، خبط الكف بالكف، وسحق الحروف بين الأسنان قبل النطق بها وتصلب تقاسيم الوجه .. تصدر عن ذات أخرى تتملكه وتغلف ذاته الحقيقية بالصمت» (الرواية ص175).
وعندما عاد إلى أرضه، زائراً قريته الصغيرة التي هجرها منذ أكثر من ثلاثين سنة قضاها في مدينة «بني ملاّل»، وجد أطلال بيتهم القديم، والمقبرة التي تحضن الآباء والأجداد، والأهل والجيران بحكاياتهم وحكايات من ماتوا أو رحلوا، لكنه وجد أيضاً أصوات أولئك المبشِّرين بالرحيل إلى الأرض المقدسة من دعاة الصهيونية قد سبقته إلى هناك، تستغل البؤس والفقر، وتنشر الرعب في القلوب، وتلوِّح بالخلاص: «حدثه الرجال عن أولئك الذين يزورونهم ويأمرونهم بالاستعداد للرحيل. كانوا ضائعين، وكان ضائعاً مثلهم، يخفف عنهم بكلمات يعرف أن لا معنى لها…» (الرواية ص180) ألم يقل له الحكيم بن دودو عقب حوار ساخن بينهما: «إنك في قلب حركة عمياء وستعرف هذا في وقت ما»؟ قد يرحل إلى هناك، حيث الأرض الموعودة، لكنه لن يكون في أرضه، لن يعيش مطمئناً؛ سيكون مثل أمومة زوجته إيزا لتلك الطفلة التي تبنّتها بعد أن تنازلت عنها مكرهة أمها الحقيقية، المراهقة المسلمة، ضحية نزوات ابن عمها؛ على الرغم من أنها قد حصّنت أمومتها لـ»شميحة» بكل الوثائق الضرورية، وادّعت أمام الجميع أنها هي من حملت بها ووضعتها، فإنها كانت «تدرك بعمق أن هناك شاهداً مضاداً يتهدد شواهد[ها] التي لا تدحض: قلب الأم الحقيقية لشميحة. وطالما بقيت في القبيلة فإنها ستعيش عذاب الإحساس بأن هناك داخل أحد بيوت القبيلة قلب ينازعها في حق تملكها البنت. أمومتها هشة، مهدَّدة، آثمة، ولن تصمد كثيراً لإعصار الأمومة الأخرى إذا أعلنت عن نفسها».
المصدر: القدس العربي