صيرورة التحول وإبداع الحياة في ديوان «الجسد» لإدريس أمغار مسناوي

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد السلام دخان
المصدر / القدس العربي
القول الشعري إمكانية إبداعية رفيعة يحقق فيها وبها الإنسان كينونته عبر صيغة الفهم وتأويل العالم ومحاورته شعريا، لكونه فكراً أصيلا في الوجود. وقد اختار الشاعر المغربي إدريس أمغار مسناوي، المزود بإرادة الحلم سبر أغوار الذات وكشف تمثلات الجسد عبر أسفار دائرية لا تحدها التقاطعات الأرسطية لمفهوم الزمن، من خلال رهانه على الزجل (الشعر العامي) وما يحفل به من طاقة جمالية ومجازات بلاغية تحقق لديوانه الموسوم بـ»الجسد» والصادر عن مطبعة المعارف الجديدة في الرباط هويته الشعرية. فالشاعر المزود بإرادة الحياة يفصح في عمله الشعري الجديد عن مرجعياته الفنية والجمالية ليكشف نزعته الإنسانية المفرطة.
اختار إدريس أمغار مسناوي في ديوان «الجسد» إبراز تفاصيل الحلم، وانشغالات الذات الطامحة لتحقيق الممكن الأنطولوجي، بالاعتماد على استراتيجية تفكيكية لقلعة الجسد المنيعة التي شيدت على امتداد التاريخ الإنساني، لأنه الرائي والمرئي لهذا التحول الذي تتضح معالمه مع كل قصيدة تكشف انشغالات الذات الشاعرة، وتعمل على كشف إدراكها الجمالي للجسد، كإمكانية للإقامة بالقرب من أنوار الوجود.
وينماز ديوان «الجسد» بصلته الوطيدة بالموروث الثقافي الإنساني، الذي يمتد منذ الحضارة البابلية والأشورية والسومرية والفرعونية، وصولا إلى الحضارة الأندلسية. فالاهتمام بالجسد في الميثولوجيات القديمة والمعارف والأدبيات الحديثة يكاد ينحصر في التقسيم، جسد ـ روح، الجسد بوصفه المرادف للرذيلة في الفكر الكنيسي. فالجسد هو «عجل السامري» الذي فتن قوم موسى. لذلك فهو مرتبط بالخطيئة والذنب، وفي الفكر الكنسي لقي هذا الجسد العذاب والصلب في شكل مأساة المسيح. هذا الجسد كان مقصيا بصفة قطعية عن المجتمع، بدعوى الإصابة بالجذام أو الأمراض المعدية، ثم نفيه لأن صاحبه به مس من الشيطان، أو مجنون.
ولقد حاولت مؤسسة الطب إعادة تأهيله، وحاولت مؤسسة الطب النفسي إعادة دمجه في المجتمع، والآن تحاول مؤسسات الميديا ترويضه وتدجينه تبعا لصيحات الموضة، عبر التحكم في الشكل والوزن والطول والقصر. هذا الجسد هو مصدر العجائبي والأسطوري في الثقافة الشعبية، فأولاد سيدي موسى يشربون الماء الساخن، ويأكلون الزجاج، ويداعبون السكاكين الحادة. وفي السياق نفسه، تعكس طقوس الحضرة الكناوية والليلة العيساوية مثلا، رغبة في تخليص الجسد من الأرواح الشريرة.
الشاعر يسعى إلى قلب هذه المفهومات عبر الحوارية التي يقيمها بين الجمالي والأسطوري، بغية الاقتراب من إنسانية الإنسان الذي يعرفه الجرجاني بقوله: «الإنسان هو الحيوان الناطق.. والإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكلية والجزئية».
ومنذ الصفحة التاسعة من هذا العمل يتضح البعد التأملي لشاعر تعمد وضع مفهوم «الجسد» في ما يسميه جاك دريدا بـ»الفارماكون»، أي السم والدواء في الوقت نفسه. وهذا القلب الأنطولوجي لمفهوم الجسد يرتبط بالعلاقة التي يشيدها الشاعر بالفضاء. فالشاعر العربي تعود الاهتمام بالمكان، وهو ما تعكسه المقدمات الطللية للشعر الجاهلي، والوصف الدقيق للمسالك والديار، سواء في العصرين الأموي والعباسي أو في العصر الأندلسي، الذي سيولي اهتماما خاصا للمكان، كفضاء تتجسد فيه معالم الحضارة ونعيمها، أو للجسد من خلال العطور والأثواب.
لقد اختار إدريس أمغار مسناوي تسمية عمله الزجلي بالجسد، ارتباطا بهذه القصدية التي تتوخى الاقتراب من المتخيل الإنساني لتاريخ الجسد، وهو ما يبرر طرائق القول الشعري وتوزيع الأسطر في فضاء الصفحة، ارتباطا بتشكيل جمالي للقصيدة يراهن على الإبدال الدلالي، وعلى الوعي البصري بالحرف وتوزيعه في جسد الصفحة. ولا يكتفي الشاعر برسم صوره المجازية فحسب، اعتمادا على طاقة استعارية وعلى توزيعات إيقاعية تحقق للديوان إيقاعه المخصوص، ولكنه يتحول إلى محقق فيلولوجي معني بالضبط الدقيق والصارم للهوامش والإحالات، وما التقصي الحصيف لكلمة الأم التي وجد لها صاحب «مقام الطير» أصولا في التراث السومري. وهذه المناجاة مع الأم هي فرصة لكشف الرؤية المخصوصة للشاعر من خلال الحديث عن الولادة ورحلة الحياة ورغبة الشاعر في تحقيق الحلم، ورصد الممكن الجمالي. «بغيت قلب ذكي/عقل حنين/عين شاسعة/ وذن شوافة/لسان بنين» ص 14 من الديوان.
الشاعر إدريس أمغار مسناوي يتعمد خرق قواعد التوليد الدلالي ليؤسس معاني جديدة من ائتلاف المتباعد، وتجانس المختلف، حيث تؤسس الجملة التركيبية (بغيت فعل والتاء فاعل، وقلب مفعول به، ذكي نعت) لبؤرة مركزية، لتشكل الجمل التالية نعوتا لكلمة «قلب». وكأن الشاعر يخبرنا أن القلب هو الأساس في هذا الجسد، وأن باقي الأعضاء هي أوصاف له، ومركزية القلب هي جزء من المرجعية الصوفية. ويكشف هذا الشاهد الزجلي الاستراتيجية الكتابية وكيف يتبناها الشاعر لكشف رؤيته الفنية والجمالية، القائمة على تفكيك كلمة الجسد في فضاء العمل الشعري، يشكل كل حرف عالما من عوالم الجسد الخفية والظاهرة. ومن أجل ذلك اضطلع الشاعر بمهمة صعبة تتجلى في الجمع بين المتناقضات، المكان ـ العدم ـ الفراغ ـ النهار ـ الليل. من أجل الانتصار العلني لنداء الحياة.. وإقامة علاقة بالجسد ليس على شاكلة الميثولوجيات القديمة، بل على نحو يكون وثيقا بالوعي الإنساني، وبالموجودات: «الأرض، الريح، النور، الألواح، السيف، الحرف». فالجسد هو منطلق ومنتهى كل التسميات والأشياء، لأنه الجسد الذي يستطيع الوجود في العالم، والإحساس بالوجود عبر الحرف واللون والحس الجمالي. إنها رؤية مرتبطة بالبصيرة وليس بالبصر، مردها الحيرة التي يشعر بها الشاعر، إزاء ملكوت الجسد.
الشاعر وارث الضوء يطالب بحقه في الفرح في المخطوط الثاني، الذي عده الشاعر كتابة في الرمل سرعان ما تنمحي لتعاد من جديد كطائر الفينيق المنبعث من الرماد. وهذا الرقيم أو (البلامسيس) يجعلنا ندخل لعبة مرآوية، فلا نكاد نعثر على أصل الأصل مما يساهم في توليد معان جديدة، لأنه دلالة على تحول وتجدد الجسد الذي يتخد في بعض الأحيان شكل السيمولاكر.
وبعد أن عمل الشاعر على استشراف الجسد في أبعاده التاريخية والجمالية، يعرج بنا لمعرفته في بعده السوسيولوجي من خلال تحديد ثلاث حالات كما سماها بردود الفعل: الجسد والكرامة، الجسد والموت، الجسد والعمل، يضاف إليها الجسد والعقاب، فالشاعر يصور رحلة الجسد ومحنته، ويرصد أشكال التعذيب عبر أماكن متعددة في هذه الأرض الضيقة، فأينما وجد الإنسان، وجدت أشكال تعذيب مختلفة لهذا الجسد، وكأن قدره هو تجرع الألم. «هو لمسافر/بين تازمامارت كوانتنامو وبوغريب صفحة 29 من الديوان.
ويضعنا قول الشاعر «الحي يتعاود فيه النظر/الميت تتعاود فيه الشهادة»، في ماهية القول الشعري. ففعل الإعادة يشبه الرغبة في الاستحمام في نهر هيراقليطس، لذلك فالشاعر لا يتوانى في تقديم نصائح ـ لذاته ـ كما في الصفحة 36 و37 من الديوان، رغبة في الارتواء الروحي واستجابة لنداء الحياة، وبعيدا عن أشكال الفراغ المعادل للعدم. وهذا الأثر الدلالي هو ما يسمح لنا بفهم الحوار الشعري لميثولوجيا الجسد ومحاولة تشييد ممكن أنطولوجي لتاريخيته وحضوره ارتباطا بالذات الشاعرة وحقها في البوح والجمع بين المتباعد والمختلف من أجل الحقيقة التي وصفها الشاعر «بتاج العمر».
الفهم التأويلي للجسد يتساوق مع المشاعر المتدفقة من الصور الشعرية، وهذا التدفق التلقائي لا يشير فقط إلى الإبدال الدلالي، بل إلى شيء أعم وأشمل، إنها الحياة في امتدادها وخصوبتها، لذلك يسهب إدريس أمغار المسناوي في الإنصات لأعماق الذات الإنسانية وأحاسيسها اقترابا مما يسميه تزفيتان تودوروف بالاستثارة الرمزية. وهو بذلك يكسر فعل الحجب من أجل الكشف عن الجوهر عبر لغة تحتفي بالباطن بدل الظاهر السطحي. والشاعر في كشفه لميثولوجيا الجسد كان يتساوق مع التشكيل الجمالي لقصائده، ويذكرنا بمولانا جلال الدين الرومي، إذ يقول: «إن الهواء الذي أنفخه في هذا الناي ليس هواء، وكل من ليست له هذه النار فليمت». وديوان «الجسد» لإدريس أمغار مسناوي ليس فقط تمثلا لوضعياته الأنطولوجية والنفسية، ولكنه استراتيجية لنفي الزيف، والسعي عبر القول الشعري إلى ملامسة المشاعر العميقة، مشاعر المحبة الإنسانية التي لا يرتوي الشاعر إلا من نبعها الصافي.