عطر الأغنية العربية في عيد الربيع وموسم الإحتفال بالمطربين الكبار

الجسرة الثقافية الالكترونية

*كمال القاضي

المصدر / القدس العربي

قبل ربع قرن أو يزيد قليلا كانت حفلات عيد الربيع هي الموسم الأقوى بين متعهدي الحفلات والمطربين والمطربات، فهي المناسبة التي تقام فيها مباريات الغناء والتلحين والتي تتأسس على أثرها نجومية كل فنان فهو بطل الليلة الموعودة بوهجها داخل فنادق الدرجة الأولى او النوادي الكبرى.
ستينيات وسبعينيات القرن الماضي هي المراحل الأكثر ازدهارا والأشد تنافسا فنجومها يتربعون في قلوب الملايين من الجماهير العريضة من الماء إلى الماء أو بمعنى أدق من المحيط إلى الخليج أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وصباح ونجاة الصغيرة وعفاف راضي وشريفة فاضل ومحرم فؤاد وشادية وفهد بلان ونجاح سلام وفيروز.
وعلى رأس كل هؤلاء موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فهو المايسترو وضابط الإيقاع والنغم وصاحب العصا السحرية التي تعطي إشارة البدء للعازفين بتحريك القلوب مع أول دقة على أوتار العود والغيتار والكمان لم يكن يمر عيد الربيع دون اشتباك صحي على تقديم الأفضل بين الرواد والعظام فتنشب معارك يشتد وطيسها أحيانا فتصل إلى حد الخلاف، كما حدث بين حليم وفريد ذات ربيع عاصف ظل حديث الصحف المصرية والعربية لفترة طويلة وما زالت تلوكه الألسن إلى الآن كلما تجددت المناسبة.
والخلاف ذاته وللأسباب نفسها تكرر بين العندليب ووردة الجزائرية أيضا، وكذلك بين نجوم الصف الثاني ظلت المعارك مشتعلة، ولكن سرعان ما كانت تزول الضغائن المؤقتة ويعود الصفاء للنفوس فتتبدل الخصومات صداقات وتمر سحابة الغضب كنسمة صيف رائق بديع، ليس ثمة رواسب تعكر الصفو كانت تستقر في عمق العلاقة الحميمة التي نشأت بين المنافسين، لأن القامات الإبداعية كانت أكبر من الخلافات والنفوس السمحة تتجاوز عن صغائر الأشياء. غضب عبد الحليم حافظ مرة واحدة ورفع صوته فوق صوت الجمهور فهاجت الدنيا وماجت فلم يكن معهودا في نجم نجوم الغناء سوى الحلم والوداعة، لذا جاء الخروج عن اللياقة صادما وغير متوقع برغم أنه سلوك بمقاييس العصر الحالي طبيعيا ومتسقا تماما مع دوافع الاستفزاز، غير أن للزمن الماضي تقاليد وسمات لم تسمح بأن يمر التصرف العندليبي مرور الكرام.
مضى الوقت ومرت السنوات وبقيت الواقعة الشهيرة علامة إيجابية دالة على تأدب الزمن الجميل ورقيه الفائق فلو أن هذه الحادثة كانت مألوفة في حينها ما كانت أصبحت علامة وما ظلت متمحورة في الذاكرة تروح الأيام وتجيء وتستمر عادة الاحتفال بعيد الربيع في طقس سنوي يحرص عليه المطربون والمطربات يغني فيه من يغني ويرتزق فيه من يرتزق، ولكن شيئا ما قد تغير في روح الفنانين المبدعين ووجدان الجمهور وذائقته، فالصمت الرهيب والإصغاء وعبارات الاستحسان المترددة على استحياء صارت صخبا وهديرا من جنون والأنغام التي تتراقص بين أصابع العازفين فتخدر المشاعر والأحاسيس من فرط نشوتها تحولت إلى طبول وصاجات تدق الرؤوس وتصعق الأذان وتثير الغرائز فتتحرك الأجساد الملتهبة بالرغبة تتمايل شمالا ويمينا فيما يرفع المطرب كلتي يديه مصفقا في استحسان كأنه يريد مزيدا من الفوضى ليداري عورات صوته الأجش أو المخنث، فهو لا يملك مهارة السيطرة على الحضور ويفتقر لآليات التأثير التي تجعل من الصمت والإصغاء معنى.
في واحدة من الحفلات الغنائية الراقصة حدث عطل في الميكرفون فوقف المطرب مخذولا عاريا من أي موهبة ولم يجد أمام العجز والتهافت إلا أن يتحول إلى أراغوز فعوض عن الغناء بلعب الأكروبات الصينية ليخرج من المطب القاسي، لكن الحيلة لم تنطل على الجماهير الغفيرة التي واجهت التهريج بالسخرية وقذفت المطرب «الروش» بما هو أشد إيلاما من البيض والطماطم وكادت تتعامل معه كما يليق برجل انتحل صفة لتعطي للموقف معنى وتضع الفن الهابط وصاحبه في الموضع المستحق لديه.
هذه هي دلائل وعلامات السقوط المدوي الذي باتت الأغنية تعانيه، كما أمست كل الإبداعات الأخرى ورافدها تعانيه أيضا لم تعد حفلات الربيع سوى تجارة رابحة ماديا خاسرة فنيا، تجارة لها عرابون وسماسرة وقراصنة يقطعون الطريق على المواهب الحقيقية للحفاظ على مصالحهم مع أنصاف المواهب أو في أحسن الأحوال يروجون للكبار مقابل عمولات باهظة في سوق سوداء للمطربين والمطربات على عينك يا تاجر، وتظل الأغنية هي الحق المهضوم والجمهور المفتون بالنجوم آخر من يعلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى