على هامش ندوة اكاديمية في جامعة روان الفرنسية: الهُوية والتعددية في شعر محمود درويش

الجسرة الثقافية الالكترونية
*رابعة حمو
المصدر / القدس العربي
تحت إشراف فؤاد العروسي مديـر مخبــر) ( Dysola أُقيمت مؤخرا في جامعة روان في النورماندي شمال غرب فرنسا، نـــدوة أدبية مخصصة للشاعر الفلسطيني محمّود درويــــــش تحت عنوان: «الهوية والتعددية في شعر محمود درويش». وتُعتبر هذه الندوة الأكاديمية الأدبية سابقة من نوعها عن الراحل درويش في هذه الجامعة. وقد شارك في هذه الندوة كلّ من فؤاد العروسي الأستاذ في جامعة روان، وصالح سروجي الاستاذ في جامعة بايروث في ألمانيا، ورابعة حمّــو الأستاذة في المعهد الوطني للغات والحضارات في باريس، والباحث والصحافي المكلف بمهمة في مكتبة معهد العالم العربي في باريس الطيـب ولد العروسي.
وقــــد تــوقــــــف فــؤاد العروســـــي فــــي مداخلتـــــه التي حملت عنـــــوان «الأنـــــا والآخـــــر في شعر محمـــود درويــــش» عند عدة موضوعات رئيسـية في شعر محمود درويش. كموضوعة التاريخ والذاكرة والغنائيـــــــة والهويــــــــة والغيريـــــــــة، ومفهوم ديناميكية الضمائر في شعر درويش بين (الأنا) و(الآخر) والـ(نحن).
ففي حديثه عن الغنائية التي اعتبرها العروسي العلامة البارزة في شعر درويش لامس النواظم الأساسية في الموضوع الغنائي، أي الصوت الأحادي أو المتعدد وحوار الأنا والآخر وموقع الروح من تضاريسها المجهولة وتبدل الأنا في شعر درويش وانفتاحها في الخطاب الشعري على نافذه الآخرين وعدم ثباتها وانغلاقها على النفس والذات.
وفي حديثه عن التاريخ والذاكرة اعتبر أن قصائد درويش قائمة على الذاكرة لا على الخيال، وهذا ما يعني تركيزه على إبقاء ما حفظته الذاكرة من الماضي لا السعي إلى تغيره والحفاظ على السلطات لا تحطيمها، ووصف المكان بأدق التفاصيل من شجر ونبات وزهر وحيوانات وتحديده، وهذا يعني تأثيث القصيدة الدرويشية بالموجود لا بالغائب أو الغامض أو الغريب. وبهذا اعتبر العروسي أن قصائد درويش أصبحت كحافظة للتاريخ والوطن، وكأن الشاعر عمل على تجذير الوطن وحماية ذاكرته للأجيال المقبلة، بل عمل على أرشفته وحفظه من الضياع والاندثار.
أما في حديثه عن موضوعة الهوية فقد تطرق العروسي إلى الهوية في شعر درويش وكيف حافظ الشاعر من خلال أشعاره على هويته الفلسطينية بكل تفاصيلها، من لغةٍ وأرضٍ وتراثٍ وحضارةٍ، كما اعتز بهويته وجذوره العربية الضاربة في الأصالة، لكنه في الوقت ذاته بينَ انفتاح درويش على الآخرين، وأن ما كتبه من شعرٍ أو نثرٍ يعكس هذا الانفتاح الإنساني والكوني مما جعل درويش يخرج من هويته الفلسطينية والعربية ليصبح شاعراً إنسانياً عالمياً يحاور الآخر ويخاطبه انسانياً.
واتكأ في هذه المداخلة على محطات كثيرة من شعر درويش تُجسد فكرة الغنائية والهوية والتعددية والتاريخ وتجَولَ في دواوين مختلفة وسنوات تراوحت منذ بدايات درويش الشعرية، حيث قصيدة «سجل أنا عربي» التي حملت درويش للشهرة في الوطن العربي في تلك الفترة، حتى دواوينه الأخيرة كقصيدة «فكر بغيرك».
كما توقف العروسي في مداخلته على مقولة درويش الشهيرة، إنه شاعر طروادي، وبينَ الفرق بين معنى شاعر طروادي وشاعر طروادة.
فقد اعتبر أن درويش ينتمي لطروادة ؛ ليس لأنه مهزوم، بل لأنه مهوس بالنّص الغائب. وحق درويش بأن يتحدث باسم الغائبين الذين لم يُسمع لهم صوت.
أما صالح سروجي فقد حملت مداخلته عنوان : «المنفى والغربة وسؤال البحث عن الهوية في شعر محمود درويش في التسعينيات»، وتوقف سروجي في مداخلته على محورين اثنين. أولهما التطور الفني لشعر محمود درويش في تسعينيات القرن الماضي. والثاني صورة «الأنا» و»الآخر» وتأثيرها على مفهوم الهوية عند درويش، وبالذات، في ديواني «لماذا تركت الحصان وحيدا» عام 1995 و»سرير الغريبة»، عام 1999.
ففي القسم الأول من مداخلته رأى أن درويش عمد في منتصف الثمانينات إلى دمج التركيبة الموسيقية الغنائية في الهيكل الشعري لقصائده، الذي ظهر جلياً في ديواني «هي أغنية، هي أغنية» 1984، و»وردٌ أقل» 1986.
أما في بداية التسعينيات فقد رأى أن درويش أدخل العنصر الملحمي والأسطوري لثقافات غابرة متعددة في عالمه الشعري، وغاص في التاريخ البعيد على المستوى الفني والشعري من أجل الدفاع عن هويته الثقافية والوجودية، كما بدا ذلك في ديواني «أرى ما أريد» 1990 و «أحد عشرَ كوكباً» 1992.
واعتبر سروجي كغيره من النقاد أن هذين العملين بلغ فيهما درويش ذروة شعرية عالية ومتميزة مضموناً وشكلاً.
ثم انتقل سروجي في مداخلته مع شعر درويش إلى منحنى فني وجمالي آخر في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» 1995، الذي رأى فيه أن الشاعر اعتلى صهوة جواد السيرة الذاتية، وأن «الأنا الشعرية»، مثل الحصان، تجد نفسَها مقيمة على عتبة المكان وتسأل نفسها : «أَأَنا هُناكَ..أم هنا؟» وختم سروجي القسم الأول من مداخلته عن التطور الفني في شعر درويش في ديوان «سرير الغريبة» 1999، الذي رأى فيه أنه لا يربط فقط المنفى مع موضوع الحب، إنما يزاوج أيضاُ بين الفكر الشرقي والأوروبي.
فعلى المستوى الشكلي مزج الشاعر بين الأشكال الفنية الأدبية العربية والأوروبية، مثل الغزل من جهة والسوناتا من جهة أخرى، وبذلك أصبح درويش شاعراً متنقلاً بين الحدود والثقافات.
أما فقد حملت مداخلتها عنـــــوان: «الملحمة في شعـــر محمّود درويـــش ودورُها في تجسّيد الهـُـويــــّة»، تناولت فيها فن الملحمة وعلاقتها في تجسيد الهوية في شعر محمود درويش. وحاولت من خلال هذه المداخلة أن تجيب على سؤالين رئيسين. في أي الدواوين ظهر النفس الملحمي عند درويش؟ لماذا اختار درويش فن الملحمة كوسيلة للتعبير عن الهوية الوطنية؟ في إجابتها عن السؤال الأول، اعتبرت حمّو أن النفس الملحمي في شعر درويش برز في ديوانين اثنين منذ عام 1990 إلى عام 1992، أي في ديواني «أرى ما أريد، وأحد عشر كوكباً»، فهذان الديوانان يؤسسان لمشروع طمح درويش في تحقيقه وهو مشروع الملحمة، حيث ينفتح الشعر على أفق التاريخ لِما يُشكل هذا الأخير من عنصرٍ أساسي في بنيه الحدث الملحمي، الذي أراد فيه درويش أن يكتب لشعبه من خلاله ذاكرةً غير قابلة للنسيان.
ويصونَ الهوية الفلسطينية بمكوناتها الدينية والحضارية والثقافية والاجتماعية. ولم يقف درويش عند (هوية الذات الفلسطينية) ليصون تراثها، بل استطاع أن يتجاوز حدود هذه الهوية إلى الهوية الإنسانية في فضائها الأرحب، ليؤكد أن الشعب الفلسطيني له حضور طبيعي وفعلي وتاريخي في الإطار الإنساني الأشمل.
أما إجابة حمّو عن السؤال الثاني في مداخلتها وهو لماذا لجأ درويش لفن الملحمة؟ فقد عزت ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسة. أولها: افتتان محمود درويش بقدر المهزومين. فهو رأى أن في الهزيمة دفقات شاعرية ووجدانية أكثر من النصر، وأن الحزن يحمل الشجن أكثر من الفرح، ولذلك أراد درويش من خلال قصائده أن يكتب الهزيمة والحزن، وخصوصاً في فترة الطوفان العظيم عام 1948 اليوم الذي اختفت فلسطين وامتصتها الدولة الجديدة إسرائيل. أما السبب الثاني فقد وجدت حمّو أن درويش أراد من خلال شعره أن يجمع المنتصرين والمنهزمين في القصائد نفسها حتى لا يُسجل في التاريخ الجمعي لفلسطين وذاكرتها فقط صوت المنتصرين، وتتبخر أصوات المهزومين ودموعهم في الهواء، ولذلك فإنه حاول أن يعيد التوازن على أرض قصيدته بعد أن تعذر على أرض الواقع عن جمع الأخوة الأعداء، وهو بذلك يحمي قوة الضعيف من قوة القوي. وثالث هذه الأسباب رأت حمّو أن محمود درويش سُمي من قبل النقاد خلال حياته بشاعر فلسطين، لكن كانت لديه رغبه كبيرة بأن يكون ابنا من أبناء مدينة الملك بريام ملك طروادة، ولذلك كان يحب أن يُطلق عليه شاعر طروادي، كما قال عنه الشاعر اليوناني يانيس ريستوس في أمسية جمعته مع الراحل درويش.
أما الباحث الطيب فكانت مداخلته بعنوان : «محمود درويش في كتابه الروائي ذاكرة للنسيان» الذي كتبه درويش إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وتم نشره عام 1987 عن دار نشر العربية. وترجم إلى اللغة الفرنسية عن دار نشر آكت سود عام 4199.
وذكر ولد العروسي في مستهل مداخلته بأن رواية ذاكرة للنسيان قَدم فيه الشاعر محمود درويش توصيفاً وتحليلاً أدبياً لما جرى ذات يوم من صيف 1982 في بيروت، ووصف والدمار الذي لحق في المدينة من أهوال الحرب.
إلا أن ولد العروسي إعتبر أن هذا النص الروائي ركز بشكل كبير على موضوعتين مهمتين كانتا الركيزة الأساسية في الرواية هما موضعتي القهوة والغربة.
حيث كان همّ محمود درويش في هذا الكتاب يتركز في كيفية صنع فنجان قهوته الصباحي تحت القصف المدفعي لبيروت. وكيف يمكم لإنسان يعيش تحت القصف والقنابل بأن يحلم أن يرتشف فنحان قهوة كباقي البشر.
وأشار إلى أن موضوعة القهوة تكررت في هذا الكتاب اكثر من 96 مرة، مما يعكس أهمية القهوة في حياة درويش بشكل خاص والثقافة العربية بشكل عام.
فدرويش مدمن قهوة وتكررت كثيراً في عالمه الشعري منذ بدايات قصائده كقصيدته الشهيرة «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي». ولم يكن درويش مدمناً على شربها فحسب فهو من خلال الوصف في هذا الكتاب يبدو أيضاً بارعاً في صنعها، فقد استحوذت على صفحات عديدة من الكتاب (والقهوة لمن أدمنها مثلي مفتاح النهار).
ويضيف في موضع آخر (أتساءل : كيف تكتب يد لا تبدع القهوة).
وتطرق ايضا ولد العروسي في هذه المداخلة على موضوعة الغربة في حياة الفلسطيني وحالة التنقل والتشرذم التي يعيشها منذ النكبة عام 1948، وربط يبين مذاق القهوة في حياة المغترب وعلاقتها في الوطن.
فقد اعتبر ولد العروسي أن القهوة إبنة الوطن الروحية لها طعهما ومذاقها الخاص وطقوسها التي يتحلق حولها محبيها في المقاهي من الاصدقاء والأحبة، ورأى أن فنجان القهوة في الوطن يختلف عن فنجان القهوة في الغربة وكأن رائحة الوطن جُبلت مع رائحة القهوة. وأن قهوة الغربة تُشرب على عجل كعمل روتيني يفتقد إلى اللذة.