غياب شاعر الضد والمخالفة العراقي وليد جمعة

الجسرة الثقافية الالكترونية
هاشم شفيق
صمت الشعراء الموسومين بالذهب، عاش وغادر عالمنا الشاعر العراقي المحسوب على حقبة جيل الستينيات الشعري العراقي، الشاعر وليد جمعة. قد يبدو الاسم للخريطة الشعرية العربية غريباً، أو غير معروف، وهو حقاً كذلك، باستثناء قلة نادرة من النخبة الشعرية العربية، تلك التي تعرف الشاعر وليد جمعة، وقد ينسحب هذا أيضاً على الساحة العراقية الشعرية، وهي عالم قائم بذاته، موّار بالأجيال والتيارات والمدارس والأساليب الشعرية، التي لوّنَتْ المشهد الشعري العربي بأسماء لامعة وبارزة وكبيرة، وسيكون وليد جمعة أحد هذه الأسماء المؤثرة والجديدة والمتفرّدة في خريطة الشعر الستيني العراقي، ذات الاتجاهات والأنساق والطرائق الأسلوبية والفنية المتعدّدة.
علة الشاعر الراحل الذي غيبه الموت في نهاية الثلث الأخير من الشهر التاسع 1944 ـ 2015 عن واحد وسبعين عاماً، هي الانزواء التام عن عالم النشر والأضواء والضجيج الشعري العربي والعراقي بشكل عام، بينما انحصرت شهرته واختزلت ألمعيته المضيئة بنفر محدود من أصدقائه، إنْ كانوا عراقيين أو عرباً، هؤلاء هم من يحفظون شعر وليد جمعة ويدوّنونه شفاهاً وكتابة، كون شعر الراحل قرين الموسيقى العذبة والهارموني القدير، الذي كان يتلاعب به الشاعر وهو يدوّن تلك القصائد النارية بخطه الجميل، وبالحبر الذي يستخدمه دائماً مصحوباً بقلم «الباركر» أو «الشيفر»، الذي كان يفخر ويزهو ويتباهى بأنه يستخدمه لتدوين القصيدة، تلك القصيدة المخالفة، قصيدة الرفض والتحريض وقول كلمة لا دائماً وأبداً.
لم يكتب وليد القصيدة الهادئة، أو الرومانسية، أو المقبولة لدى العامة، بل كان يكتب القصيدة المتوحشة، المسكونة بالقلق والرعب والهجاء المقذع، للواقع أولاً ولرموزه ثانياً، كاشفاً بذلك النمط الزائف للحياة المتصالحة من خلف الستار والمواربة والمخاتلة والمراوغة، كان يتناول الظاهرة ليعرّيها على نحو تام، نازعاً عنها ثوب الحشمة الذي تتستر به، وتتخفى لتخفي بهذا الستر عوراتها وعيوبها المواربة.
إذن قصيدة القدح والذم والتصريح والإعلان والإشارة، من دون التواء هي من السمات الواضحة التي ميّزتْ شعر وليد جمعة، شعره المنحوت بالعصب وعذاب الروح وقوة الإرادة الصلبة الكامنة في قلمه، هذه الإرادة هي التي جعلته مميّزاً في عالم الكتابة هذا.
لقد تربّى وليد الذي لا يشبه أحداً في الكتابة، على الشعر الفرنسي، وكان يقرأ بالفرنسية قليلاً وبالعربية من الترجمات الكثير، أعجب بسارتر وكامو وآرتو وسانت أكزوبري، خاصة «الأمير الصغير» و»بريد الجنوب» و»الطيران في الليل» و»أناشيد مالدورور» للوتر يامون وأندريه بريتون وأنديره مالرو وتريستان زارا، ومن العرب كان يحب الهجّائين مثل الفرزدق وجرير ودعبل الخزاعي وابن نباتة وابن الحجاج والشعراء الموسوسين والصعاليك، ومن شعراء الحداثة كان يميل إلى الرافضين والمتمرّدين على القيم والأعراف والتقاليد الشعرية العربية كمحمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس، ومن العراقيين حسين مردان وفاضل العزاوي وعبد الرحمن طهمازي وكان يتحفظ على ذكر الأسماء الكبيرة الأخرى.
كان وليد جمعة حقاً شاعراً مختلفاً، وقد تجسد ذلك قوياً في تجربته الشعرية، وهي تجربة متقشفة ومتنسكة، اعتاشت على شهرتها بين المجتمعات المنفية والمضطهدة والمطرودة من عالمها وتحمل قيمها المعروفة التي تنادي بقيم الحرية والعدالة بين البشرية جمعاء.
وليد جمعة لم يكن شاعراً سياسياً يوماً، يمقت السياسة والساسة ويتحاشى المتحزّبين، رغم ميوله القومية المبكرة، ولكنه سرعان ما حاد عنها، بعد مجازر شباط/فبراير عام 1963 ليكون قريباً من المجاميع اليسارية المتطرّفة والماوية، في المقاهي فقط، وكان ينظر للمتحازبين الشيوعيين، المسلكيين، بعين من السخرية، لاسيما النمطيين منهم، ولكنه كان المتعاطف الأكبر معهم حين خرجوا من العراق، خرج معهم وكان دائم القرب منهم، يهجوهم بمحبة الشاعر الرافض وكانوا يتقبلون هجاءه الدامغ ودعابته المرة والسوداء على مضض، ليبربروا بعد ذلك بين أنفسهم.
كانت شخصية الشاعر الراحل وليد جمعة شخصية اجتماعية إلى حد ما. في بغداد عمل موظفاً في دائرة الضمان الاجتماعي، إضافة إلى كونه شخصية مقهى وحانة، شعره ترعرع هناك، وثقافته تكاد تكون شفوية، ثقافة مقهى وكلام وتداول أسماء وأفكار وعناوين كتب ومجتزءات ومقتبسات ومقولات ومآثر أدبية وحفظ أبيات شعرية.
ذات صيف بغدادي، دُعي من قبل اتحاد الأدباء، عام 1973 لقراءة شعرية، ضمن اسمين أو ثلاثة من مجايليه، لكن الجموع التي جاءت إلى اتحاد الأدباء لتحضر الأمسية، جاءت لتسمع وليد جمعة ماذا سيقول. رواد مقاهي شارعي الرشيد والسعدون وساحة التحرير في الباب الشرقي والبتاويين من المثقفين كلهم سوف يأتون، عارفين أن وليداً سيفاجئ الحضور بقصائده الحادة، وحقاً وَفَي للحضور بقراءة قصائد لاذعة للوضع القائم آنذاك، من دون أن يسمّيه، لكن الإشارات الفنية كانت واضحة وقوية ومستفزة للمثقفين البعثيين،الذين لم يكن أمامهم وهم كانوا في مطلع مجيئهم إلى السلطة، إلا منعه من دخول اتحاد الأدباء العراقيين، لكن وليداً لم يكن يأبه لمنع كهذا أصلاً، فكل حانات بغداد كانت له مشرّعة، لاسيما سرجون حانته الأثيرة.
تعرّفت إلى الشاعر وليد جمعة في مقهى «المعقّدين» ضمن مجاميع جيل الستينيات الشعري، كان يسخر من الأجيال اللاحقة ولا يعترف بها، هو الذي كان يرى الرواد بعين أخرى. والمقهى تكاد تقترن بشخصيته، كان دائم الوجود فيها، يلعب النرد ويتعاطى الكلام اللبق والمقذع بحق منافسه.
ودائماً كانت معه قصيدة، يحملها في جيبه، هو الذي ذاع شعره عبرالانتقال بين هذا وذاك، ولم ينشر اإلا القليل منه في الصحف والمجلات العراقية والعربية، صدر
له عن «دار الجمل» بعد موته بيوم ديوانه الوحيد واليتيم «غروب نحيف»، وقبل صدور هذا الديوان، كان دائماً يتحدّث عن ديوان سوف يطبعه في بيروت أو دمشق، ولكن شعره ذاع كما أسلفت أعلاه بين النخبة، إذ صودف مرة والتقيت في إحدى زياراتي الصيفية إلى لبنان، قبل أكثر من عقد، بالشاعر عباس بيضون في مكتبه في الصحيفة التي يعمل بها، وكان حينئذ معي لزيارة عباس الشاعر شوقي بزيع، فرأينا هناك السيد والمفكر والشاعر الراحل هاني فحص، وبعد سلسلة من الأحاديث وتشعب الكلام راح الشاعران يردّدان أبياتا لوليد جمعة، كان السيد يحفظ عن ظهر قلب قصائد وليد جمعة، وكان إذا ما نسي بيتاً وتلكأ، كان يكمله له الشاعر شوقي بزيع. عجبت لذاكرة تحفظ قصائد لشاعر شبه منسي وبعيد وموغل في الهجران والنأي والغياب الإرادي، كنت أعلم أنهما يردّدان تلك القصائد التي كان قد نشرها وليد جمعة في مجلة «مواقف» اللبنانية، نهاية ومطلع السبعينيات من القرن المنصرم، وكانت تلك القصائد تعد من القصائد الجميلة، في تاريخ الشعر العراقي، خاصة شِقّه الستيني .
حين جئت إلى بيروت، مغادراً باريس بشكل نهائي، سكنت مع شلة من الأصدقاء فنانين وشعراء، في شقة مستأجرة في منطقة المزرعة، قرب سينما حواء، كان وليد جمعة أحدهم. كان يروّعنا ويبهجنا معاً بلسانه النقدي الحاد وهو يسوط كل شيء، ولا يستثني حتى نفسه، ينهض صباحاً، وأول شيء يفعله وهو متربع على السرير، منفوش الشعر، جاحظ العينين، هو تدخين لفافة أو لفافتين من التبغ، قبل الشروع بالفطور، متفكراً بأين سيقضّي اليوم، ومن سيرى؟ حين يعرج على مقهى أم نبيل والتوليدو وحلويات أبي علي، التي يرتادها أصدقاؤه القاص الفلسطيني رسمي أبو علي والشاعر الفلسطيني علي فودة الذي كان يُصدّر حينها مجلة «الرصيف» التي سرّعتْ بأجله عندما كان يوزّعها، لينتهي بغارة إسرائيلية أثناء اجتياح الأراضي اللبنانية في «عين المريسة». كان وليد في تلك الأيام يتعاطى الممنوع ،غير أنه لم يفقد يوماً اتزانه إلا حين تكالبت عليه الأمراض. عمل بشكل متقطع هنا وهناك، وحياته لم تكن يسيرة يوماً، مثل أي متمرّد وخارج على المألوف. في دمشق سيصاب في السل مرة أخرى بسبب سكنه غير المريح والرطب، الذي تنعدم فيه أبسط الوسائل الصحية. وحين عاش في لندن فترة قصيرة وعمل في صحيفة سياسية عراقية، قبل سقوط النظام العراقي، كان يكتب العمود الأخير في الصفحة الأخيرة من الصحيفة وكان ما يكتبه من الأعمدة المقروءة بين تلك المواد السياسية الكثيرة.
المصدر: القدس العربي