فاعلية التفكير البلاغي في كتاب «حركية البديع في الخطاب الشعري… من التحسين إلى التكوين» لسعيد العوادي

الجسرة الثقافية الالكترونية
يبين الكتاب الجديد الموسوم بـ»حركية البديع في الخطاب الشعري؛ من التحسين إلى التكوين» لسعيد العوادي الصادر سنة 2014، عن دار كنوز المعرفة العلمية بالأردن، أهمية التفكير البلاغي وفاعليته التي تنسج خيوط الاتصال مع المنجز البلاغي العربي الشاسع. ورغبة هذا الباحث في إعادة الاعتبار للبلاغة العربية في الحياة الأدبية عبر السفر في أرخبيلات المتون البلاغية، وتلمس جماليات البديع، من خلال إعادة تأويل عدد من النصوص الشعرية، التي شكلت المجال الخصب لنمو البديع بأشكاله المتنوعة، في وقت تتجدد فيه المعارف الإنسانية، ويستشعر المتلقي العربي حاجته الماسة إلى إعادة اكتشاف هذا التراث وتأويله على نحو مختلف، ليس فقط لكونه يتسم بعمق تاريخي وغنى أدبي، ولكن بوصف التفكير البلاغي العربي في حاجة ماسة إلى ربط الصلة بينه وبين مستجدات الآداب والعلوم الإنسانية، لأن البلاغة العربية تتمتع بطاقة تجعلها قادرة على التجدد بشكل مستمر وعلى نحو مدهش ومؤثر.
والتهيؤ لرصد منعطفات التفكير البلاغي مع سعيد العوادي يقتضي استحضار كتابه السابق المعنون بـ «أسئلة البديع؛ عودة إلى النصوص البلاغية الأولى» لكون الكتابين معا يندرجان في سياق مشروع بلاغي يسعى إلى تبئير المكون البديعي، بهدف رفع الظلم الذي حاق به في المدارس والجامعات والمراكز المتخصصة، حتى غدا الاتصاف به سبة وشتيمة، واسترجاعه سماجة وابتذالا. وهو ما ساهم في إهماله وتهميشه وعدم العناية ببحثه. وكان منطلق الباحث في الحلقة الأولى موجها لدراسة المرحلة الفنية للبديع، من خلال تسليط الضوء على ثمانية مصنفات نقدية وبلاغية وإعجازية، متوقفا عند علاقة أسلوبية البديع بالأسئلة الحضارية التي عرفتها الحضارة العربية وهي: سؤال الشعرية وسؤال المفاضلة وسؤال المنهج وسؤال الإعجاز.
ويعتبر الباحث سعيد العوادي أن عددا من الكتب انطلقت من أن البديع عرضي وهامشي على الدرس البلاغي، مما أدى إلى إغفال مكانته ودوره التكويني في النص الشعري، في حين حاولت بعض الدراسات التي استفادت من البنيوية ومن اللسانيات، أن تعيد الاعتبار للمكون البلاغي. وانتهت الدراسة إلى أن البديع لم يكن على هامش التفكير اللساني للأمة، وإنما كان له حضور مركزي من خلال إجابته عن الأسئلة الفنية والحضارية والمنهجية التي عرفتها هذه المرحلة الفنية.
وجاءت الحلقة الثانية من المشروع لدراسة علم البديع بوصفه مدخلا قرائيا قادرا على منافسة الخطاب الشعري؛ وهي الحلقة التي بلورها كتاب «حركية البديع في الخطاب الشعري؛ من التحسين إلى التكوين» عندما تناول فيه الباحث، على مدار 350 صفحة، متنا شعريا واسعا يتكون من سبعة شعراء كبار. فانبنى هذا البحث على أعمدة قوية أعادت النظر في علم البديع وأخرجته من دائرة التحسين لتدخله في أفق التكوين. رغبة من الباحث في تجاوز الرؤية التي تعنى فقط بالظواهر البلاغية، لأنه في مجمل هذا العمل يراهن على فاعلية الفكر البلاغي وقدرته على استشراف أبعاد جديدة ارتباطا بتفكير منهجي منظم. والباحث يكشف منذ البداية عن هذه المراجعة طالما أن اللاحق لا يقطع مع ما تقدم، بل يذهب به قدما إلى الأمام. مادامت شعرية البديع الراسخة في تاريخية البلاغة العربية. ومشروع الباحث سعيد العوادي لا يفتأ يتطور. وهو ما عبر عنه الأكاديمي محمد زهير في التصدير الذي خص به هذا العمل قائلا:» يجلي هذا صعوبة البحث في شعرية البديع.. ويضاعف من هذه الصعوبة أن المتن الشعري، الذي اشتغل عليه الباحث سعيد العوادي، متن أساس لشعراء رؤوس في حركة البديع، أو حركة البديعية في تاريخ الشعر العربي.. وهي حركة من أهم ما تميزت به، وعيها بأن الشعر العربي فن، قبل كل شيء.. فتركيزها على القيم الفنية، كان حركة عميقة في أفق وعي الشعر بذاته، أي بكونه شعرا، لا تنفصل مساحة الفن فيه عن مساحة التدليل، فالإبداع فيه بلاغة والبلاغة إبداع، ومن ثمة فلا مجال في تبديع الشعر للفصل بين تبديع اللفظ وتبديع المعنى، ولا مجال لعدّ التبديع مجرد تحسين وتطرية، يستكمل الشعر بهما هندامه ويحلي قوامه.. فالبديع، خلاف هذا، مكون بنائي عضوي، وقيمة شعرية أساسية في بلاغة النص.. وهو ما انتبه إليه الباحث وأقام بحثه على أساس منه، مدركا أن المتن الشعري البديعي، الذي اختاره للبحث، تأسس في سياق أدبي وثقافي تحويلي، قوي التجاذب، بل الصراع بين التقاليد الشعرية العربية الموروثة، وبين رؤى وممارسات شعرية مستحدثة، عملت على إبداع إضافتها الشعرية النوعية المختلفة عن الموروث، الذي استمدت منه بطرقها الخاصة، وأضافت إليه، فلم تنقطع عن أصوله، وإنما تواصلت معها برؤية مغايرة، تستجيب للشروط الجديدة، التي رَبَت في سياقها حركة البديع وأَمْرَعَت أثمارها المغذاة بدراية معرفية وأدبية راسخة، واقتدار إنجازي راق، وفهم للشعر من صلب طبيعته الإبداعية».
كتاب «حركية البديع في الخطاب الشعري؛ من التحسين إلى التكوين» لسعيد العوادي يكشف أن البديع ليس مجرد محسنات تضاف إلى جودة الكلام، بل هو عنصر مكون لمعمارية الخطاب الشعري، لا يوظفه الشاعر الكبير كما اتفق؛ لأنه قبل أن يصبح نمطا في التعبير يكون قد شكل استراتيجية في التفكير. ومن هنا أمكن للباحث أن يتحدث عن الرؤية البديعية للعالم. ومن أجل تقوية البعد التكويني للبديع، كان لزاما على الباحث أن ينتقل بالدرس البديعي من مجال البنية وتفريعاتها، الذي أصاب هذا العلم بـ»جنون المصطلح» كما عبر رولان بارث، إلى مجال الوظيفة واشتغالها. مع ما يفرضه هذا الانتقال من غربلة للمصطلح البديعي وإعادة تنسيقه، بالانفتاح على النظريات الأسلوبية والحجاجية. فكانت الحصيلة أن انتظم البحث في ثلاثة أطر ناظمة وهي: فاعلية التوازن وتوترية المفارقة ودينامية الحجاج. وبذلك، خرجت دراسة الباحث من شرنقة التقسيم البلاغي الكلاسيكي الذي ظل مطمئنا لذلك التقسيم الثنائي المتداول، وهو المحسنات اللفظية والمحسنات المعنوية، كما لو أننا يمكن أن نحلل اللفظ بمعزل عن المعنى. كما أنها ربطت البديع بالحركية والحيوية مما أحال نظرية التحسين والذيل البلاغي إلى مجرد أهواء وسراب. وانتهى كتاب حركية البديع إلى صياغة جملة من الأسئلة الحارقة التي ترسم لهذا المشروع مساراته المستقبلية. وهي إذا كان القرآن الكريم خطابا لغويا حافلا بالبديع، فلماذا لا تتجه الهمم صوب كشف ظواهره وإعادة قراءتها قراءة حضارية جديدة قد تفتح أفقا آخر من الآفاق الرحيبة لهذا النص المعجز، ولماذا لا تقودنا تكوينية البديع إلى تناول جديد لكثير من نصوص تراثنا العربي الطافحة بالبديع، التي ما نزال نلوك حولها كلاما معادا مكروراً نظير: المقامات، وعناوين الكتب ومقدماتها، بل لماذا نظلم عصرا بديعيا بأكمله امتد في سبعة قرون من الزمن فنسمه بعصر انحطاط وانحسار، ثم أفلا يحين الوقت إلى قراءة منجزه النصي برؤية تنعتق من وصايا تاريخ الأدب التقليدي الذي يربط الأدب بالسياسة، وتلتمس من المستجدات المنهاجية والنظرية ما يقودها إلى اعتبار النص هو مركز الاهتمام لا سياقاته الحافة، وألا يمكن أن يجد تحليل الخطاب «العربي» سنده النظري وأصل امتداده في مباحث علم البديع وإشكالاته بدل اجترار فج للنظريات الغربية دونما وعي، أحيانا، بالمسافة الحضارية التي تربط المرسل الغربي بالمرسل إليه العربي، وأخيرا، لماذا نلاحظ اليوم أن البديع قد بدأ يتسلل من سجونه القديمة ليحيا بيننا حرا شاخصا في مختلف الخطابات الإشهارية من دون أن نسارع إلى فك عزلته؟
هذه الأسئلة وغيرها تكشف لوغوس «حركية البديع في الخطاب الشعري؛ من التحسين إلى التكوين» وطبيعة الرؤية الابستمولوجية التي تميز الباحث سعيد العوادي، مما ساهم في تحصيل معرفة دقيقة بالدرس البلاغي ارتباطا برهانه على أطروحة مركزية وتنظيم محكم لمكوناته، وقدرة على التحليل والاستنتاج. فضلا عن اللغة العلمية الرصينة التي تميز هذا الكتاب في كل مكوناته البنائية والتلميحات النقدية العميقة التي تكشف على نحو فاعل حيوية البديع وقدرته على كشف جماليات النص الأدبي خاصة
….
القدس العربي