فايز الداية يواصل مشروعه لتجديد الدرس النقدي

ابراهيم خليل
يواصل فايز الداية في كتابه الأخير «الأسلوبية الدلالية في الأدب العربي» (دار التكوين ـ دمشق 2016) جهوده الرامية لتجديد الدرس النقدي، فقد بدأ بكتابه «جماليات الأسلوب، التركيب اللغوي 1981 تلاه كتاب «جماليات الأسلوب، الصورة الفنية» 1990 وآخر بعنوان «علم الدلالة العربي النظرية والتطبيق» (1985) وفيه بضعة فصول عدل فيها من الدرس المعجمي إلى الأدبي. ويأتي هذا الكتاب تتمة لجهوده المذكورة منصبا بتركيزه على آفاق الخطاب الأدبي.
وهو بفصوله يتنقل بين الشعر القديم والمعاصر والقصة والرواية والمسرحية تنقلا ينطلق فيه من تصوره الخاص الذي يبسط فيه القول، ويطيل الشرح، في مقدماته، وتمهيده. ومنطلقه هذا هو الأسلوبية الدلالية، وبذلك يكون الداية قد انصرف عن الأسلوبية الإحصائية التي عرفناها لدى غير واحد من الأسلوبيين منهم سعد مصلوح، والأسلوبية التعبيرية لدى تشارلز بالي، والتكوينية عند ريفاتير، وهي التي تهتم بالبحث عن العوامل التي تؤدي لنشوء بصمة أسلوبية خاصة بهذا الشاعر أو ذاك، فيعرف بأسلوبه مثلما يعرف باسمه، أو لقبه. وتجاوز أيضا الأسلوبية الصوتية التي تعنى بدراسة اللغة الأدبية بالتركيز على ما فيها من الألوان الموسيقية، والتناغيم، التي سُداها الأوزان، ولحمتها الأعاريض، والإيقاعات الداخلية، والقوافي.
ومن تمهيده يستخلص الدارس ما يرمي إليه الداية بسبكه هذا المصطلح «الأسلوبية الدلالية» وصياغته له. فهو يعتقد – جازما – أن في كل متن شعري، أو نص، مجموعة من المفاتيح الدلالية يسميها دائرة دلالية، يمكننا بتتبعها كلمة كلمة إلقاء الضوء ساطعًا وكاشفا، على الخاصية الأسلوبية التي ينماز بها هذا الشاعر، أو الكاتب. ففي قراءته المطولة لديوان أبي فراس الحمداني يجد ثلاث دوائر دلالية، أولاها تهيمن عليها مفاتيح، أو «دوال» الحماسة، وثانيتها تغلب عليها مفاتيح تحيلنا إلى عالم البحر، ولذا يسميها دائرة البحر، والأخيرة تغلب عليها ألفاظ العشق والوله، ولذا يسميها دائرة الغزل، وإن كان الاتجاه في الدراسة يملي علينا أن نختار لها اسماً آخر، هو دائرة الحبّ.
على أنّ من يقرأ الكتاب يلاحظ حجم الجهد الذي بذله الداية فيه، فقد استقصى الألفاظ المفاتيح في الديوان، على الرغم من وفرة ما فيه من قصائد، سواء تلك التي تتصل بالحماسة، أو تلك التي تتصل بالبحر، أو الحب. فما يقوم به الداية – ها هنا – ضروري، في رأيه، إذا أريد الولوج بالقارئ في مثل هذا التحليل الأسلوبي الدلالي؛ ذلك أن إلحاح الشاعر – الحمداني- على مفاتيح بأعيانها، وتواترها في شعره، يعد مؤشرًا رمزيًا يحمل رسالة، أو بعضًا من مكونات تلك الرسالة».
وقد كان في هذا الاستقصاء الكثيرُ من العَنَت، الذي لا يضيف جديدًا، فما قام المؤلف بجمعه وتنضيده، في المتن والحواشي من كلمات عن السيف، والترس، والرمح، والدرع، وغيره.. معروف، ولا نظن القارئ الذي على صلة بشعر أبي فراس بمنكر على الداية تردُّد هذه الألفاظ – المفاتيح في شعره. ولهذا يغلبُ الظن أن هذا الجهد المشكور جهدٌ عبثي لا يقدم ولا يؤخر في مستوى الاستدلال على أن الحقل الدلالي الذي يهيمن على روميات أبي فراس هو الحقل الحربيّ والحماسي. ونستطيع قول هذا أيضًا، وبقدر غير قليل من الثقة، عن شعر الدائرة الثانية، والدائرة الثالثة؛ دائرةِ الحب.
ويطبق الداية هذه الطريقة في دراسة أخرى ينتقل فيها من الشعر القديم (الرابع الهجري) إلى الشعر المعاصر (القرن الرابع عشر الهجري) فيسترعي عنايته، ويستحوذ على اهتمامه، ديوان «شظايا ورماد» لنازك الملائكة (1928- 2007) فيكتشف أن فيه دوائر دلالية عدة تغلبُ عليها، وتهيمنُ، فكرة الرحيل. فيتنقل في الفصل الموسوم بـ»المفتاح الدلالي والتلقي في شعر نازك الملائكة» من قصيدة لأخرى، بادئًا بقصيدة «في القطار» التي جمع لنا ما ورد فيها من ألفاظ عن الرحيل، والانتقال من مكان لآخر، متتبعًا ذلك في سائر القصائد، دون أن تفوته الرموز التي قد تكون لها دلالة الرحيل، فالسلم عنده يرمز للارتحال من أسفل إلى أعلى، والنافذة للانطلاق من الداخل إلى الفضاء الخارجي، والغد للانتقال من الحاضر الآني للمستقبل الآتي، وعيون الماء وينابيعُه، ترمز لتفجُّره وانبثاقه من الباطن إلى السطح. وهذا كله لا يبتعد قطعًا عن هاتيك المفاتيح الدلالية التي عرفناها، أو عرفنا بعضها في قصيدة «في القطار» فكأن القصائد الثماني، التي استوقفت المؤلف، تتصل بهذه القصيدة عبر خيوط كامنة يسعى الدارس للكشف عنها، وهي خيوط تؤكد هيمنة الإحساس بوجود الرغبة في الرحيل، والانتقال، في عقل الشاعرة الباطني، فما توحي به الكلمات المفتاحية لا يعدو التعبير عن هذا الشعور المكبوت في اللاوعي.
وفي فصل آخر عن «الدلالة ومرجعيَّة الصورة في شعر البردُّوني» ( 1928- 1999) يكتشفُ الباحث في أحد دواوينه، وهو الموسوم بـ«مدينة الغد»، دائرة دلالية تهيمن على القصائد طُرًا، وهي الدائرة التي يسميها دائرة الولادة والخصب. ذلك أن قصائد البردوني في الديوان تتواتر فيها، وتتكرر بصفة مثيرة للانتباه ألفاظ: «الحمل، الولادة، الجنين، المخاض، الميلاد، الرضيع، الطفل، الثدي، الخصب، الخضرة، واخضوضر» إلخ. تضاف إلى هذه الدائرة دائرة أخرى هي المواسم والفصول. وهي غير بعيدة عن دائرة الولادة والخصب. ففي شعره تتواترُ ألفاظ – مفاتيح من مثل: الصيف، مصيف، أصياف، صيفية، الربيع، ربيعا، نيسان، شتاء، اشتت، ثلج، ثلجية، خريف، برق، مطر « إلخ.
ومن هذه الحزم الدلالية التي يستقصيها المؤلف بأناة وصَبْر يحسد عليهما، يستخلص أن للبردوني في «مدينة الغد» أسلوبًا شعريًا يحتاج من الدارس التركيز على الجانب الدلالي أسوة بجوانب اللغة الشعرية الأخرى، وإنْ كان شعره لا يخلو من الصور التي تحتاج إلى التركيز، ومن الإيقاعات، والتناغيم الموسيقية، ما تحتاج بدورها لدراسةٍ صوتية.
واللافتُ للنظر أن الداية في كتابه هذا لا يعترفُ بالحدود التي تفصل الأدب المعاصر والحديث، عن القديم. فهو ينتقل بنا من الملائكة، والبردوني، وبندر عبد الحميد، وغيرهم.. بعد أبي فراس الحمْداني.. إلى المتنبي. فيقف إزاء قصيدتين من شعره؛ هما: قصيدة «الحمى» (ملومُكما يعز عن الملام) والثانية قصيدة «العيد» (عيدٌ بأي حالٍ)، ولا يفوته الالتفات لواحدة من اعتذاريات النابغة الذبياني، والإشارة لقصيدة عمر أبي ريشة في ألفية المتنبي. وفي هذه الدراسة يجمع الداية بين الأسلوبية الدلالية، والاتجاه إلى الموازنة بين النصوص، ثم الاتجاه إلى التأويل، واستنطاق الصور، وتفسيرها تفسيرًا جديدًا اعتمادًا على المفاتيح الدلالية، وما توحي به من دلالاتٍ بعيدةٍ قد تخفى على القارئ العادي. فمن خلل الحزم الدلالية التي يستقصيها، يؤكد الداية، أن قصيدتي المتنبي المذكورتين متكاملتان. فالأولى «الحمى» ترمز لضيق الشاعر، وإحساسه بالاختناق في مقامه بمصر، وبالأرق لما يتعرض له من حصار بعد أن نشر الإخشيديُّ حوله العيون، وبث في جواره الجواسيس، مشددا الرقابة الأمنية عليه، حائلا بينه وبين خروجه من البلاد. والثانية جاءت بعد سنتين من الأولى، لتعبر عن (التنفيس)- إذا جاز التعبير – عما كان يكبته الشاعر في نفسه من كراهية لكافور، وضغائن، ولهذا تهيمنُ على القصيدتين ألفاظ تؤدي إلى الغاية نفسِها، وإن اختلفتا في الظاهر.
ومن السُؤالات التي تثيرها هذه الدراسة مقاربتُها بقصيدة (اعتذارية) للنابغة الذبياني. فليس ثمة ما يسمح، أوْ يسوِّغ مقاربة القصيدتين غير التشبيه الذي ورد لدى النابغة، الذي يزعم فيه أن حال الذي توعده الملك النعمان بحال اللديغ الذي ساورته ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع. ولهذا يجدُ القارئ في المقاربة بين القصيدتين خروجاً على النص، وتعَسُّفًا يفضي إلى الابتعاد عن السياق. والسؤال نفسه يجوز أنْ يثار عن المقاربة بين قصيدتيْ المتنبي، وقصيدة عمر أبي ريشة التي ألقيت في ألفيّته – أي المتنبي- التي حملت عنوان «شاعرٌ وشاعر» كون الشاعر أبي ريشة تذوب شخصيته ذوبانا شديدًا في شخصية أبي الطيب المتنبي، ونحن لا نرى في هذا ما يسوغ للداية إدراج هذه القصائد في سياق واحدٍ على الرغم مما بينها من عدم التجانس.
وكتاب الداية، الذي يتجاوزُ عدد صفحاته 360 صفحة ،كتاب ضخمٌ، لا يستطيع الدارس أن يفيه حقه أو بعض حقه في مقالة سريعة، وقصيرة كهذه. بيد أننا نجد في هذا الكتاب ضربًا من التسرع الذي لا يليق بمكانة فايز الداية. فقد كان الأولى به أن يتأنى في إصداره، وأن يُبوِّبَ فصوله بحيث تشغل الدراسات الخاصة بالشعر القديم حيزًا مستقلا عن الحديث. وأن تشغل الدراسات الخاصة بالقصة حيزا آخر لا أن يتنقل بالقارئ من نثر إلى شعر، ومن قديم لحديث، ومن حديث لقديم، ومن مسرح لقصة.
علاوة على ما ذكره المؤلف في مقدماته من مراجع سماها مرجعيات مختارة، وتقضي العادة المتبعة في التأليف والتصنيف، أن توضع هذه المراجع في نهاية الكتاب، لا في أوله، أما حشده لغير قليل من المصطلحات ما بين صفحة 52 و64 فهو غير ضروري، قطعًا، فالقراءُ الذين اعتادوا قراءة مثل هذا الكتاب يعرفون هذه المصطلحات، ويعرفون ما تدل عليه من دلالات. وليس يجدر بالمؤلف أن يذكرها في توطئته للكتاب، فقد جشم نفسه، وحملها ما لا ينبغي لها أن تتحمله، وهو في نهاية المطاف فضول، وضربٌ من التزيُّد غيرُ مقبول.
(القدس العربي)