فيلم «صمت» لمارتن سكورسيزي: طريقة الكبار في صنع السينما

سليمان الحقيوي

في سنة 1988 عرض مارتن سكورسيزي فيلمه «الإغواء الأخير للمسيح» المقتبس عن رائعة نيكوس كازانتزاكيس التي تحمل العنوان نفسه. الفيلم عرّض صاحب (سائق التاكسي) لنقد كثير، انتهى بمنع الفيلم في الكثير من بلدان العالم وردود أفعال عنيفة. وفي وقت قريب من إنجازه لهذا الفيلم سيطّلع على رواية صمت للروائي الياباني شوساكو إندو، التي أعادته مرة أخرى إلى جوانب عميقة من المسيحية. سكورسيزي وإن كان قد قرّر فور قراءته للعمل تحويله إلى الشاشة الكبيرة، فهو على الأقل لم يكن مستعدا لخوض مغامرة كان يعلم أنها ستنال من اسمه مرّة أخرى، بالإضافة إلى ظروف أخرى كانت تؤجِّل المشروع أحيانا وتعجّل به أحيانا أخرى، وبعد انقضاء أكثر من ربع قرن أطل علينا سكورسيزي بفيلمه، الذي يمكن اعتباره أحد أهم منجزاته.
خلال سنوات قريبة وأخرى بعيدة، استطاعت أفلام كثيرة أن تقترب – بنسب مختلفة- من مسألة الصّمت التي تسود علاقة الانتظار بين الإنسان وخالقه. لكن ليس هناك فيلم بحجم وجدية وقيمة هذا العمل، حيث جعل هذه العلاقة فكرته المحورية. في صمت نتعرف على رحلة راهبين كاثوليكيين إلى اليابان (رودريغيز) في دور لأندرو غالفيلد و(غاروب) في دور لآدام درايفر اللذين ذهبا بحثا عن راهب آخر الأب فيرارا تمثيل (ليام نيسان) كان قد سبقهما إلى هناك لنشر المسيحية، لكن ستنقطع عنه الأخبار وتتضارب الشائعات حول تغييره لدينه. قرّرا بإصرار شديد الذهاب وراءه إلى اليابان لإيجاده أولا، وللتحقّق من صدق هذه الإشاعات ثانيا. ورغم ما كانا يعرفانه عن اضطهاد الأقليات، وكل الديانات الوافدة على بلد الساموراي. لم يكن الراهبان الشابان يقدران بشكل دقيق حجم المغامرة التي أقدما عليها. لقد وجدا نفسيهما هاربين منذ البداية من السلطة التي تقتل كل من يرفض التراجع عن دينه. كان على من يريد تجنب الموت بطرق في غاية القسوة والبشاعة، أن يمر من اختبار تخطي صورة المسيح بالقدم. ومن يرفض ذلك يؤدي بنفسه إلى الهلاك. رودريغيز وصديقه وجدا نفسيهما وسط أهالي متعطشة للمسيحية، ومستعدّة للموت على دينها، كان يرى بعينيه تفضيل الناس للحرق أو الموت غرقا على تخطي صورة المسيح بالقدم. الراهب الشاب بعد معاناة شديدة سيجد نفسه أمام الأب فيرارا، لكن بعد أن أصبح محسوبا على الجانب الآخر، وكان هو نفسه يحاول أن يقنع رودريغيز بتغيير دينه. وفي حوار عميق بينهما قال فيرارا أن الناس هنا لا يفهمون ديننا. وحتى إن أقبلوا عليه فليس لأسبابنا نفسها. لم يمل من دعوة رودريغيز إلى التخلي عن المسيحية إنقاذا لأرواح من يتبعونه.
أما رودريغيز فقد وصل عبر رحلته إلى القناعة، بأن الرب وإن كان صامتا فهو دائما يحيط بالناس. الشاب كان يطلب من الرب إنارة طريقه لإنقاذ الناس، لكن في نهاية الفيلم سيقتنع بأن العلاقة بينه وبين خالقه تتجاوز هذا بكثير. صمت وإن كان يحكي عن أحداث تجري في اليابان فقد تم تصويره في تايوان. هذا الخيار كان لتقليص تكاليف الإنتاج، وبحثا عن مكان يشبه في طبيعته وأراضيه جغرافية اليابان، وهو اقتراح من المخرج أنغ لي. والفيلم كما الرواية وجد طُرقا لمساءلة جوانب عديدة في المسيحية، كدين منفصل عن أي سياق، وعنها أيضا عندما تصبح وافدة على حضارة أخرى، جعل الشخصيات تبدي مواقفها من الدين تعبّر عن مستوى فهمها له، السلطة اليابانية كانت ترى في دخول هذا الدين إلى أراضيها امتدادا لدخول البلدان الاستعمارية أرضها. يمكن النظر إلى بنية الحوارات في الفيلم من خلال زاويتين؛ الحكومة اليابانية كانت تطبق مبدأ الدفاع عن معتقداتها، الفيلم ترك لهذا الطرف مساحات قولية كثيرة، تبرّر حيطته المبالغ فيها من المسيحية وممارسة القسوة كخيار لردع المعتنقين للمسيحية.
أما الطرف الثاني وهو الراهبان الشابان، فكانا يعتبران نفسيهما آخر صوت للكنيسة الكاثوليكية في هذه الأراضي. إن ماتا تموت معهما. حوارات كثيرة كانت تدفع بقصّة الفيلم للحفر عميقا في وجهات النظر بخصوص الدين، شاهدنا أيضا الالتفاف حول الدين في القرى أكثر منه في المدن. واختلاف أولويات الفقراء والأغنياء بخصوص المسائل الروحية.
تأجيل مشروع الفيلم لمرات كثيرة، جعل أسماء كثيرة تُطرح وتعتذر. فاستقر الحال على الممثلين الشابين أندرو غالفيلد وآدام درايفر. أندرو غالفيلد وإن كان قد اشتهر في النسخ الجديدة لسلسلة أفلام سبايدرمان، فهو لم يُصب بلعنتها كما حصل مع توبي ماغواير بطل النسخة القديمة. غالفيلد أثبت أنه مشروع ممثل كبير شاهدناه مع ميل غيبسون في (هاكسو ريدج) في أداء كبير، والآن مع سكورسيزي اضطر لفقد 40 باوندا استعدادا لدوره، هو من طينة الممثلين الذين إن وضعوا أمام اختبار كاميرا تبحث عن الموهبة أكثر من النجومية ينجحون فيه. الأمر نفسه ينطبق على آدام درايفر، الذي ظهر في أفلام لمخرجين عظام بدأ برائعة الأخوين كوين «داخل إلوين دافيز» وانتهاء بجديد جيم جارموش «باترسون».
اسم سكورسيزي لم يكن لوحده كافيا لإنجاز الفيلم وتوفير ميزانية ضخمة له، خصوصا أنه من الأفلام التي تبرز فيه رؤية المخرج ونظرته، بالإضافة إلى أن عمقها لا يتناسب مع مطامح استوديوهات الإنتاج التي تفكر بمداخيل الفيلم قبل إنجازه. هذه الحسابات المقلقة أخّرت العمل قليلا، لكنها لم تمنع إخراجه إلى الوجود. الفيلم يجعلك تتأمل، يفرض عليك شحذ الحواس، ليس فقط لعمق قضاياه، بل لأن سكورسيزي يقف خلف كاميرا فيلم أحب قصّته منذ البداية، أنت هنا تفكر في كل لقطة، وتطرح الأسئلة مع كل مشهد وتعيد مشاهدة الفيلم إن فشلت في المرّة الأولى من تتبع دهاليزه. التقاطات سكورسيزي وحرصه على توجيه عدسة الكاميرا صوب شخوصه، كانت تحدث آثارا في نفس المشاهد، آثار يأس هذه الشخصيات وتعبها وبحثها عن الخلاص. الخلاص أولا من معاناة الفقر والحرمان، ليس مهما فهم الدين بشكل مثالي، بل فقط أنه يضمن لها الجنة، وهذا ما عبرت به إحدى الشخصيات في كلامها مع الأب رودريغيز. سحر المكان انعكس في عناية الكاميرا به كفضاء يرتبط بالشخصيات ويصبح جحيما عندما تُستخدم الطبيعة نفسُها في عقاب الناس.
سكورسيزي الذي أبدى قبل أشهر خوفه على مستقبل السينما عندما قال: «إن السينما ماتت». أصرّ على إخراج فيلم يحتمي بالجمال. جمال صنعة السينما التي تبدأ فكرتها من المخرج وتنتهي عنده دون ضغط من أحد. الفيلم جاء على مقاس يد مخرج يعرف كيف يستنطق الروايات العميقة. يجعل روح السرد حاضرة بين مشاهد الفيلم. ولسبب ما يدفعنا «صمت» إلى الاعتقاد أنه فيلم ليس موجها للجميع مثل باقي أفلام سكورسيزي، التي حظيت بشعبية كبيرة، ووحّدت رؤية النقاد والجمهور، هو فيلم سيتحدث عنه الناس بعد عقود. وحتى موعد طرحه لم يضع اعتبارا لجداول جوائز الغولدن غلوب أو الأوسكار . أُنجز في أواخر عام 2016 وشاهده النقاد قبل غيرهم. ترشح فقط لجائزة أوسكار واحدة بينما قدّرته جوائز النقد. ويبدو أن كل هذا لا يهم سكورسيزي، بقدر ما كان يهمّه إخراج فيلم عظيم يخلّد اسم صاحبه ويُذكّر الجميع بطرائق الكبار في صناعة السينما ونظرتهم إليها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى