في أسطورة الأخوَيْن العدوّين: من أبي تمّام إلى شوقي أبي شقرا

الجسرة الثقافية الالكترونية
*منصف الوهايبي
ذهب أكثر نقّاد العرب القدماء، إلى أنّ الشّعر لا يفعل فعله إلا إذا رفده طبع المتلقّي من جهة، ووافق استعدادا لديه، من جهة أخرى، فعندها يحدث الطّرب والأريحيّة. وكأنّه لا بدّ من دوافع ونوايا، فالالتذاذ بالمحاكاة لا يتحقّق إلاّ «بأن يكون قد سبق للنّفس إحساس بالشّىء المخيّل وتقدّم لها عهد به»، كما ينقل حازم عن ابن سينا. وهذا في الحقيقة مذهب غالب عندهم، فالشّعر قرين المؤانسة. وَأُنس النفوس كما يقول عبد القاهر موقوف على اتّباع المركوز في الطباع واستذكار المألوف وبعث المعهود من الذّكريات. وفي هذا ما يفسّر اختلاف المواقف من شعر المحدثين إلى حدّ المباينة بالجملة؛ إذ لا يمكن أن يكون لهؤلاء القدامى «الاستعداد النّفسيّ» ذاته لتقبّل الشّعر، ولا «نفس الاستعداد المعرفيّ» كلّما تعلّق الأمر بالاعتقاد في الشّعر؛ إذا أخذنا بالاعتبار المفاضلة بين الشّعر والنّثر.
ولكنّ اللاّفت عند بعضهم مثل الأندلسي التونسي حازم القرطاجنّيّ أنّه لا يعاين التقبّل الذي تحصل به ومنه لذّة، من حيث هي انفعال بالصّور الحسنة فحسب، فأنس النّفس أو التذاذها يمكن أن يتحقّق أيضا بالصّور القبيحة كلّما جوّدها صاحبها: «ومن التذاذ النّفوس بالتّخيّل أنّ الصّور القبيحة المستبشعة قد تكون صورها المنقوشة والمخطوطة المنحوتة لذيذة إذا بلغت الغاية القصوى من الشّبه بما هي أمثلة له، فيكون موقعها من النّفوس مستلذّا لا لأنّها حسنة في نفسها، بل لأنّها حسنة المحاكاة لما حوكي بها عند مقايستها به». وهو يردّ اللّذّة إلى الحذق في التّخيّل وبراعة المحاكاة، فالنّفس تنطّ عن الحيوانات الكريهة مثلا، وتتألّم لرؤية الأشياء المستقبحة في نفسها، ولكنّها تستلذّ رؤيتها عندما ينقلها الخيال إلى مستوى الفنّ. ولئن متح القرطاجنّيّ أمثلته في هذا الباب من الرّسم والنّحت، فليس لمجرد التّمثيل للّذّة الناّجمة عن التّخيّل والمحاكاة أو تقريب الفكرة وتبسيطها؛ وإنّما لأنّه يجعل منزلة الشاعر في محاكاة الشّيء بمنزلة المصوّر أو الرسّام أو النحّات.
ومن ثمّة قسّم التخييل، بالنّظر إلى متعلّقاته، إلى قسمين: تخييل يجري مجرى تخطيط الصّور وتشكيلها. وتخييل يجري مجرى النّقوش في الصّور والتوشية في الأثواب، والتّفصيل في فرائد العقود وأحجارها. وهذا ما يسوّغ لديه تلك الصّلة التي عقدها البلاغيّون والنّقاّد والفلاسفة بين صناعة الشّعر والصّناعات الأخرى؛ «ولهذا نقلوا إلى بعض الهيئات اللّفظيّة التي من هذا القبيل أسماء الصّناعات التي هي تنميقات في المصنوعات، فقالوا التّرصيع والتّوشيح والتّسهيم من تسهيم البرود…».
وإذا كنّا نشاطر القرطاجنيّ في أنّ استجابة القارئ تقتضي استعداده لقبول المحاكاة والتأثّر لها،وموافقة الشّعر حالا أو هوى عنده؛ فليس يفوتنا أن نشير إلى ناحية أخرى لم يُعن بها القدامى هي حضور ضمير المتكلّم في نظام القصيدة حضورا لافتا؛ سواء أداره الشّاعر بصيغة «أنا» أو على مقتضى أسلوب «الالتفات» من انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار. واستعمال «أنا»، على نحو ما نجد في أكثر شعرنا اليوم، خاصّة «قصيدة النثر» التي مدارها على الذات؛ من مقوّمات قراءة الألفة، إذ يمكن أن يدلّ حدسا أو ظنّا على تجربة عند القارئ هي تجربة «التقبّل الذّاتي» أو إدراك الذّات وتعرّفها.
وقد لا يخفى أنّ هناك تقبّلا ذاتيّا يرتبط بكلّ تجربة معيشة، وأنّ الإدراك يقحمنا فيها بالكامل، لا مجرّد عضو من أعضائنا فحسب. وفضلا عن الحواسّ الخمس التي تتعلّق بالتلقّي الخارجيّ؛ وهو صفة الحسّ الذي يتلقّى الأنباء من خارج الجسد لا من داخله، أو يمنحنا معرفة بالخارجيّ أكثر ممّا بدواخلنا؛ وهي ما هي في تجربة الإدراك، فهناك حواسُّ التّقبّل الذّاتي التي اكتشفها Sherrengton عام 1890 (صفة الحسّ الصّادر عن الجسد والذي يدلّ على الوضع والحركة والتّوازن). وهذه الحواسّ تمنحنا المعلومة من حيث هي وعي الذّات في العالم، وتعقد حلفا بين جسدنا والعالم الذي نعيشه ونعيش فيه، إذ هي التي توجّهنا وتقودنا في كلّ حركاتنا. على أنّها حميميّة مضمرة محفوفة بالغموض، تنقل إلينا رسائل صامتة جدّا، حتّى ونحن لا نعيها في الأحوال العادية، ولكنّها تحضر حالما نحضر، باعتبارها عنصرا مكوّنا للإدراك. هذه التجربة «التقبّل الذاتي» ليست متجانسة عند جميع القرّاء، ولكنّهم يتقاسمونها بنسبة أو بأخرى.
وفي الفصل الثّاني «الإنتاج والتّلقّي» من كتاب هانس روبرت ياوس»جماليّة التقبّل» أو «التلقّي» «أسطورة الأخَوَيْن العدوّين «يذكر في سياق استشهاده برواية إيتالو كالفينو «لو أنّ مسافرا ذات ليلة شتويّة»؛ أنّ» القارئ الحسن النّية لا يمكنه بعد، الإبقاء على مسافة بينه وبين ما يقرأُ. فهو، منذ أن خاطبه الكاتب بصيغة المفرد «أنا» رفعا لكلّ كلفة، ومرورا بالنّحويّة المريبة لـ»أنا» متعارضة، يجد نفسه منخرطا في دوّامة الأحداث المحكيّة، بشكل غير محسوس. ويصبح طوعا أو كرها، ذاتا تتعرّض لسلسلة من الأحداث التي يبدو أنّ المؤلّف انسحب منها.» صحيح أنّ هذا الشّاهد، مخصوص بنصّ سرديّ، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ أكثر شعرنا العربي، ذو منحى سرديّ، لأسباب لعلّ من أهمّها حافز الذّكرى أو قادح التّذكّر، وهو الذافع إلى الشعر عند العرب. وكلّما كان تذكّرٌ أو استذكارٌ كان سردٌ أو قَصَصٌ. و»أنا ـــ كما أشرنا في مقال سابق ـــ هي بمثابة واصل أو رابط بين المنشئ والقارئ.
فعلى أساس من المعرفة والتّجربة، يتسنّى للقارئ إذن أن يدرك تمثّلات الغريب الشعري أو بعضها؛ سواء عند القدماء (أبوتمّام مثلا) أو عند المعاصرين (شوقي أبي شقرا مثلا). ونعني هذه التمثّلات التي تتفتّح بنفسها في فضائها الخاصّ الذي يستولد وريده الدّاخليّ المعنى ويمنحه وجودا. وينبغي أن نتنبّه في هذا السّياق إلى أنّ غرابة الصّورة ليست من غرابة اللّغة، على قدر ما هي من غرابة النّظام اللّغويّ عند الشاعر. فهو ليس بالنّظام الذي يُستشفّ سترُهُ للقارئ ويظهر له ما وراءه، على ما عهد من شعر حيث اللّغة أداة معرفة لا تدرك الأشياء إلاّ بواسطتها، وجزء من العالم ترتبط به في تحابك أنطولوجيّ، وحيث المعرفة «آسمانيّة» بعمق.
إنّما هو نظام سميك تتحوّل فيه اللّغة من أداة معرفة إلى موضوع معرفة، وتتمثّل الصّورة ذاتها بذاتها، حيث لا موضوع للشّعر إلاّ الشّعر نفسه. وشتّان بين مقدّمة موضوعها وصف الأطلال ورحيل الضّعائن عند الشاعر الجاهلي مثلا، ومقدّمة موضوعها المقدّمة نفسها عند أبي تمّام، أي الشعر موضوعا للشعر. فقد انطوى نظام اللّغة القديم على نفسه، في نماذج غير قليلة من هذا المحدث، وفقد الكثير من شفيفِ صوره ومبذولِ استعاراته، وصار بإمكان هذا النّمط من القراءة قراءة الألفة والمؤانسة أن يتعرّف تفاصيل تجربة مختلفة عن معيش القارئ ومعهود قراءته؛ حتّى لو لم يسبق للنّفس إحساس بالشّيء المخيّل، ولم يتقدّم لها عهد به. وبالفعل فإنّ القارئ يتعرّف، بدءا من إدراكه نظام الصّورة في هذا الصّنف من الشعر، نوعا من تجربة وجدانيّة يتعلّق موضوعها مباشرة به. فأيّ معنى يمكن أن يحوزه القارئ، من قصيدة شوقي أبي شقرا «الشمع»، من كتابه «حيرتي تفّاحة جالسة على الطاولة»، غير شمعيّة الشمع، ولونيّة اللون (الأحمر)؟ أو تبادل الأدوار بين الحيوانِ البشري والحيوان الحيواني؟ أيّ معنى غير واقعيّتنا الساذَجة؛ نحن الذين نعتقد أنّنا نرى الأشياء كما هي، ولا نميّز بين مظهرها وحقيقتها؟
رفعتُ أصبعي وارتفع رأسُ الحصان،
لن أرجع إلى الإسطبل.
عبرت ُالإناء
ذابَ الشّمع الأحمرُ،
ذابَ الغجر.
وعليه فقد يتسنّى لنا إذن، سواء كنّا في القديم أو الحديث؛ أن نرتّب العلاقة بين التّخيّل وما ينجم عنه من وظائف في هذه المستويات: إغراب من جهة غموض الكلام، أو خفائه أو عدوله عن المألوف والمتواتر، فاستغراب أي انفعال من غير رويّة، فتعجّب يجري في هيئات من استلذاذ واغتباط أو من تألّم وحزن.
ففي التّخييل اذن مضايفة بين انفعالات مختلفة؛ ولكنّها متآزرة في النّصّ الشّعريّ.
على أنّ المحاكاة عند صاحبنا القرطاجنّي ـ وما أحوجنا إليه في فهم ما غمض من شعرنا واستغلق ـ لا تفعل فعلها لمجرّد أنّ التّخيّل جبلّة في الإنسان، فلا بدّ من شرطين: أوّلهما يرجع إلى المحاكاة ودرجة الإبداع فيها. وثانيهما إلى استعداد النّفس لقبول المحاكاة والتّأثّر لها.
والاستعداد عنده نوعان: نفسيّ ومعرفيّ؛ وهما سابقان كلاهما على القول. فالنّفسيّ أن يوافق الشّعر حالا أو هوى عند المتلقّي، فشبيه الشّيء منجذب إليه. والمعرفيّ أن يكون للمتلقّي اعتقادٌ في الشّعر، من حيث قدرته على أن يفعل في النّفس فعل السّحر. والسؤال: أما زال لنا هذا الاعتقاد؟
وكثير من السؤالِ اشتياقٌ/ وكثير مِن ردِّه تعليلُ (المتنبّي)
المصدر: القدس العربي