في الذكرى الخمسين لطرحه في دور العرض اللندنية: المرأة وعالمها النفسي في «بيرسونا» لإنغمار برغمان

نسرين علام: وجها امرأتين يمتزجان ليكوِّنا وجها واحدا… لعلها واحدة من أشهر اللقطات في تاريخ السينما، ولعلها الصورة التي تنطبع في الأذهان مباشرة، إذا ذُكر عنوان فيلم «بيرسونا» (1966) لإنغمار برغمان. تحتفي حاليا دور العرض اللندنية بالفيلم في الذكرى الخمسين لعرضه الأول في دور العرض في العاصمة البريطانية. ولكن الفيلم يترك الباب مشرعاً لتأويل هذا الامتزاج وفهمه. ترى هل امتزاج الوجهين يعني أن إحدى المرأتين تكمل الأخرى؟ هل إحداهما انعكاس للأخرى؟ هل هما وجهان لامرأة واحدة، أحدهما صورتها الداخلية والآخر ما يبدو في العلن؟ هل امتزاج الوجهين يعني اتحادا أم صراعا؟ ترى هل تطغى شخصة إحدى الامرأتين على الأخرى فتتلبس روحها وتغير معالمها؟
«بيرسونا» إذن، كما هو الحال مع برغمان في أفلامه، يطرح علينا السؤال ولا يفرض علينا إجابة. نحسب أن مشاهدة «بيرسونا» تجربة فردية وفريدة للغاية، تجربة تعني لي كامرأة الكثير، فهو إلى حد كبير محاولة متعمقة للغاية من برغمان لفهم المرأة وسبر أغوارها. ونحسب أن برغمان على مدار مسيرته كان من أكثر المخرجين فهما وتفهما وتعاطفا مع المرأة، ومن أقدرهم على رؤية مكنوناتها وكوامنها. قد نجد في اسم الفيلم مدخلا لفهمه. «بيرسونا»، حسب تعريف كارل يونغ، عالم علم النفس الشهير، هي الشخصة الخارجية، تلك التي تظهر على العلن، بينما آلما هي الشخصية الداخلية التي لا تظهر علنا. آلما، كما سنعرف لاحقا، هو اسم إحدى الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم، للامرأتين اللتين يمتزج وجهاهما.
الشخصية المحورية في الفيلم هي إليزابيت فوغلر (ليف أولمان) الممثلة الشهيرة، التي تتوقف فجأة عن الحديث وهي تلعب دور إليكترا على خشبة المسرح. تصمت إليزابيت فجأة ويستمر صمتها شهورا، ولكن طبيبتها تؤكد أن صمتها ليس ناجما عن مرض عضوي أو نفسي، وليس رد فعل هستيري. تقرر الطبيبة أنه قد يكون من المجدي صحيا أن تخرج إليزابيت من المستشفى في صحبة آلما (بيبي أندرسون) الممرضة المتخصصة لتذهبا لبيتها بجوار البحر. تبدو لنا إليزابيت الأقوى شخصية في الامرأتين. تلتزم بقرار صمتها لا تحيد عنه، بينما تحاول ألما كسر الصمت في ذلك البيت النائي المطل على البحر بالحديث، الحديث عن نفسها، عن عملها كممرضة، عن ذلك الشاب الذي تعتزم الزواج به. يبدو حديث ألما نوعا من البوح، ذلك البوح الحميمي الذي لا يأتي إلا عندما تحاول امرأة توثيق أواصر صداقتها بأخرى. ترى أكانت ألما تأمل أن تكون إليزابيت نوعا من الصديقة الأكثر خبرة في الحياة؟ أتراها كانت تأمل أن يجلب بوحها بوحا مقابلا من إليزابيت؟ أم تراها كانت فقط تتحدث عن مكنوناتها أمام إليزابيث كما يفرغ المرء مكنوناته في مذكرات يضعها في درج مغلق نهاية النهار؟
لعل الأكثر كشفا في أحاديث آلما أحادية الجانب، بينما تستمع إليزابيث، هو ذلك البوح الجريء عن تجربتها الجنسية الأكثر إمتاعا، التجربة التي بلغت فيها درجات من النشوة والإشباع والبهجة، وتعلم في قرارة نفسها أنها لن تصلها قط مع ذلك الذي تعتزم الزواج به.
ولكن صمت إليزابيث الذي يدوم يؤدي في نهاية المطاف إلى غضب آلما. ينكسر كأس نبيذ، تلملم آلما قطع الزجاج المهشم، ولكنها تترك قطعة حادة ملقاة عمداً حتى ينجرح قدم إليزابيث. ولكن هذا الغضب ذاته، كما هو الحال دوما في عالم برغمان، حمال أوجه وتفسيرات: أهو بداية تمرد من آلما المتحدثة دوما الودودة دوما؟ أم هو نفاد صبر وانكسار شخصية يتسبب فيهما قوة شكيمة المرأة الأقوى؟ ثم يأتي هذا المشهد الذي أحسبه الأكثر كشفا لكل من إليزابيث وآلما، ذلك المشهد الذي يصور مخاوف النساء جميعا. تجلس إليزابيث إلى طاولة، مخفيةً بيدها صورة ممزقة لطفل صغير، الصورة لابنها. في المشهد تتهم آلما إليزابيث بأنها ليست أما كما ينبغي أن تكون، بأنها حملت فقط حتى تكتمل صورتها العامة كممثلة ناجحة وجميلة وزوجة محبة وأم. تتهمها بأنها أهملت ابنها لصالح عملها، وبأنها لا تحبه. تقول لها إنها حملت في ابنها وهي كارهة للحمل لأنه سيفسد قوامها ويعطل مسيرتها الفنية. يكرر برغمان المشهد المطول مرتين، مرة والمتحدثة آلما، ولكننا نرى تعبيرات وجه إليزابيث التي يعتريها الحزن والألم ومحاولات نفي أنها لم تكن أما محبة متفانية في حب ابنها.
وفي المرة الثانية يُعاد المشهد ذاته بصوت آلما أيضا، ولكننا نراها هي على الشاشة ولا نرى إليزابيث. رغم أن آلما لم تصبح أما بعد، نرى مظاهر الجزع والخوف والقلق ترتسم على وجهها. هذا الهاجس بالفشل في الاختبار الأكبر، الأمومة، هذا الهاجس الذي يراود الكثير من النساء، وهو الهاجس ذاته الذي كان الشغل الشاغل لبرغمان في آخر أفلامه «سوناتا الخريف» (1978).
يكاد برغمان أن يزيل الخط الفاصل بين الواقع والمتخيل في الفيلم. ويكاد ما يحدث في الحلم أن يمتزج في الواقع أو ليكون واقعا. ثمة ذلك الحلم، الذي لا نستطيع أن نجزم ما إذا كان حلما أو حقيقة، الذي تسمع فيه آلما صوت رجل في الحديقة ينادي «إليزابيث»، هو صوت فوغلر زوج إليزابيث، فترد بأنها ليست إليزابيث، ولكنه يستمر في الحديث معها على أنها زوجته، بينما تمد إليزابيث يدها لترفع يد آلما وتلمس بها وجه زوجها وهو ما زال على اعتقاده أن يد آلما هي يد زوجته. أترى ذلك حلما أم واقعا؟ هل هو كناية عن فشل الرجل في فهم المرأة أو رؤيتها حتى إن كانت زوجته أو أقرب المقربين لقلبه كما يقول؟ الأمر الذي يجعل هذا الغموض وتلاشي الفاصل بين الحقيقة والخيال أمرا مثيرا دراميا هو تلك المقارنة التي يعقدها برغمان في الفيلم بين الحلم وبين السينما ذاتها.
يبدأ الفيلم بنغمات موسيقية متنافرة وضوء سينمائي ومشاهد سينمائية مختلطة تصور الموت والخوف والبكاء، وبعد هذا المشهد المطول تبدأ أحداث قصة إليزابيث وآلما وفي منتصف الفيلم تقريبا، وبعد تحطم الكأس وجرح قدم إليزابيث، تتحول الشاشة إلى سواد مفاجئ مذكرة إيانا أننا نشاهد فيلما، ثم ينتهي الفيلم بمخرج ومدير تصوير بصدد تصوير مشهد في فيلم. لعل برغمان يود أن يقول لنا إن أحلامنا ومكنونات أنفسنا التي تدور في الأحلام هي ما يصوره وما يجد متنفسا له في أفلامه.
(القدس العربي)