في الذكرى المئة لميلاد رولان بارت

الجسرة الثقافية الالكترونية
توفيق قريرة
رولان بارت علاّمة فرنسي ولد يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1915وتوفي يوم 26 مارس/آذار 1980، ناقد ومن أبرز أعلام السميولوجيا (علم العلامات أو العلامية) في العالم. العلم الذي سينسب إليه باعتباره علامة فارقة له، إذ خصص له منذ 1976 كرسي في سيميولوجيا الأدب في الكوليج دي فرانس، وهي من أكبر مؤسسات التعليم والبحث في فرنسا.
علم العلامات (أو السيميولوجيا) الذي برّز فيه بارت وعدّ فيه علما بارزا هو علم يدرس جميع العلامات ويعنون بالعلامات أيّ شيء قابل لأن يخلق معنى لأيّ كان، ولذلك فحتى يوجد معنى لا بدّ أن يوجد شخص ما ليؤوّله فحين أقول (وردة) ويفهم مني البائع الذي ساشتريها منه الوردة فإنّ (وردة) علامة، ولكن حين أشير إلى وردة بعينها في محله، من دون أن أتكلم فإنّ إشارتي علامة لكن الأولى علامة لغوية والثانية علامة غير لغوية. والسيميولوجيا تهتم في دراستها بهذه العلامات بقصد استجلاء نظامها وطرق توظيفها في التواصل اليومي بين جماعة بشرية معينة. غير أنّ العلامة لا تحتاج فقط من يؤّول، بل هي مرتبطة قبل كل شيء بدلالة، وحتى تدل العلامة فإنّها تحتاج، كما يرى ذلك الفيلسوف والعلامي الأمريكي شارل سندرس بيرس (1839-1914) ثلاثة أركان هي الممثِّل (أو الدّال) الأصوات التي تتكون منها وردة في العربية، هي الممثل والممثَّل (أو المدلول: متصور الوردة) والمرجع (الوردة الفعلية التي سأشتريها من البائع). وبين الدال والمدلول والمرجع علاقات هي روح العملية السيميولوجية. وحين وضع مؤسس اللسانيات الحديثة السويسري فاردينان دي سوسير (1857- 1913) دروسه في اللسانيات العامة، أكّد أن اللسانيات تنتمي إلى دائرة علمية أوسع منها هي السيميولوجيا، أو علم العلامات وتختص اللسانيات بأن تدرس العلامات اللغوية. وعلى الرغم من أنّ دي سوسير وضع اللسانيات تحت خانة علم العلامات، فإنّ هذا الفنّ لم يلق في رأي رولان بارت اهتماما يذكر فقال في كتابه «ميثولوجيات» إنّ «السيميولوجيا لم يتشيّد بعد»، رغم كثرة البحوث التي تعالج مسألة الدلالة، ورغم أنّ التسليم بالدلالة هو لجوء إلى السيميولوجيا. ويرى بارت أنّ السيميولوجيا علم كبقية العلوم ضروريّ لكنّه غير كاف. وبيّن أنّ العلامات مهما كان نوعها (كلمات منطوقة أو مكتوبة صورا أو أفلاما أو إشارات أو لباسا..) تتألف من ثلاثة مكوّنات هي الدالّ والمدلول والعلاقة الجامعة بينهما، وهي الدليل ككلّ، فكلمة (وردة) لا تعني عندي معنى الزهرة ذات الرائحة الخلابة واللون الآسر، التي أشمها أو أهديها، إلا حين أربط بين الأصوات التي تتسمى بها الوردة (الواو والفتحة والراء…) والمعنى وهو رابط ضروري لحصولي على هذه الدلالة من جملة دلالات تكون للوردة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الإشارات الضوئية، فما يجعلني أقف في الضوء الأحمر وأمر في الأخضر هو ربطي بين الضوء وما يدلّ عليه في نظام إشارات المرور العالمي.
والسيميولوجيا التي أنتج فيها رولان بارت أغلب بحوثه هي نظام يدرس الأشياء وقد أكسبها الاستعمال في مجتمع أو في ثقافة معيّنة مدلولات جديدة واكتسبت بذلك نظاما تقابليا يجعلها تختلف عن نظام تقابلي آخر، فعلى سبيل المثال في «عالم اللباس» فإنّ الاستعمال اللغوي لمفردات اللباس يمثل نظاما علاميا لغويا لكنّ اللباس في ذاته يصبح نظاما علاميا له دلالاته الخاصة، وعندئذ يمكن أن نتحدث عن لغة ثياب من درجة ثانية. فحين أزور بلدا خليجيا لنقل على سبيل المثال سلطنة عمان مثلا، وأرى لباس أهلها ولم أكن أعرفه من قبل وحين أعود إلى بلادي فإنّ رؤية شخص بذلك اللباس ستستدعي في أن اسمي هذا الشيء لباسا خليجيا، وبذلك يتجلى لي ذلك اللباس بكل تخصصه وبكل ذاكرته التي حملتها معي وأنا أكتشفه لأوّل مرّة في موطنه. اللباس لا يعني في ذاته هذا، بل يعني أنّه لباس وكساء، ولكنّه ينتقل إلى نظام علامي ما بعدي ليصبح في ذهني دالا على الهوية، عندئذ يكون للنظام العلامي دلالة جديدة هي روح ما يسميه بارت الأسطورة الجديد وهو الذي سننصرف إلى بيانه في هذا المقال.
اعتبر بارت الأساطير علامات موجودة في الكلام اليومي، وفي أيّ علامات أخرى نصادفها أو تصادفنا في حياتنا اليومية، كالصور الإشهارية والصور في نشرة الأخبار، وكالثياب التي نرتديها يوميا أو في المناسبات أو حتى في تحيات الصباح والمساء وفي الأكل وغيرها. ويرى بارت في كتابه «ميثولوجيات» أنّ الأساطير بهذا المعنى (الأساطير الجديدة) أبرز ما يميّزها أنّها تحوّل المعنى إلى شكل، وأنّها إن وردت في الكلام العادي فإنّها تكون «سرقة للغة». ونحن ومن باب التذكير بطرافة أفكار الرجل، نركّز على بيان هاتين الفكرتين: فكرة الشكل والمتصوّر والدلالة في الأسطورة وكيفية سرقة الأساطير الجديدة الكلام من اللغة القديمة.
الأساطير الحية في حياتنا اليومية تتألّف حسب بارت من دالّ يسميه الشكل ومن مدلول يسميه المتصور، ومن العلاقة الرابطة بينهما، ويسمّيها الدلالة ولنأخذ مثالين أحدهما من النظام العلامي اللغوي، والثاني من نظام الصورة العلامي. لنفترض أنّي أدرّس الطلبة النحو العربي، والدرس هو الجملة الفعلية في هذه الحالة، قد استشهد بنص نزار قباني: «أخرج من معطفه الجريدة وعلبة الثقاب» على أنّه مثال للجملة الفعلية البسيطة. الجملة التي أخذتها من قصيدة نزار هي من جهة مكوّنات كلماتها لها معنى بسيط «إخراج شخص لشيئين من جيب المعطف: الجريدة وعلبة الثقاب» غير أنّ الجملة لا تعني لي في هذا الاستعمال هذا المعنى، بل تعني شيئا آخر: أنّني أستاذ أعلّم الطلبة الجملة الفعلية، وأمثّل لها من الكلام، أي أنّ الكلام صار يعني لي ويعني للطلبة مثالا نحويا من مسألة من اللغة العربية. وهكذا فإنّ الجملة لا تعني لي معناها الأوّل، إذ ليس الغرض من ذكرها أن تحدثني الجملة عن عاشقة من نظرة أولى تراقب حركات رجل لفت انتباهها من أوّل وهلة، بل يصبح الدال والمدلول كلاهما دالاّ جديدا لمتصور آخر لا علاقة له بالأصل الدلالي. لقد سرقت المعنى القديم وأفرغته من محتواه الدلالي الأوّل ومن تاريخه الذي له في العادة: تاريخ معرفتنا العادية بالمعطف والجريدة وعلبة الثقاب لأشحن الجملة – بعد أن أكون قد أفرغتها من دلالتها الأصلية – بدلالة أخرى هي التمثيل. هذا الفعل هو بداية تكوّن العلامة الأسطورية.
مثال آخر من نظام علامي آخر هو عالم الصورة، حين أرى على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي صورة لصحافية مجرية تعرقل لاجئا سوريا يحمل ابنه بين أحضانه ويجري. هذه الصورة لا تعني إلا دلالتها الأصلية صحافية مصوّرة تعرقل رجلا يحمل ولده ويجري. لكنّ الأسطورية تبدأ من نزع تلك الدلالة الأصلية التي لا تعنيني لأبحث عن دلالة جديدة أشحن بها المعنى المفرغ لنقل هذا العداء الذي يكنّه أهل البلاد الأصلية للاجئين السوريين؛ فهذه الدلالة الجديدة لا علاقة لها بالدلالة القديمة؛ وأنا قد جعلت الصورة بدالها ومدلولها شكلا أبني به الدلالة الجديدة.
الأسطورة نظام علامي مخصوص إذ يشيّد من سلسلة سيميولوجية توجد قبله فهي نظام سيميولوجي ثان؛ فما يكون علامة بطرفيها الدال والمدلول يفرغ من محتواه الأصلي ويصبح دالا للنظام الثاني أي للأسطورة يسمى الشكل. الدالّ في الأسطورة (أي الشكل) يظهر حسب بارت بطريقة غامضة وإشكالية، فهو في الآن نفسه معنى مملوء من جهة وفارغ من جهة أخرى، مليء بالمعنى الذي كان فيه وذلك المعنى له ذاكرة وتاريخ ويقتضي مقارنة، لكن ذلك المعنى حين يصبح شكلا يفرغ من محتواه فلا تبقى غير الحروف. يتراجع المعنى ويترك مكانه للشكل وعندئذ ننتقل من العلامة اللغوية إلى الدلالة الأسطورية.
حين نقرأ «أخرج من معطفه الجريدة وعلبة الثقاب» فإنّ الجملة وهي في حالتها العلامية اللغوية «عندما تكون كلاما عاديا» لها امتلاء دلالي وثراء تاريخي، فنحن إزاء شخص تاريخي يقرأ الجريدة وإزاء جريدة بما هي كيان تاريخي ومعطف معين له نسج وقماش معينين وعلبة للثقاب، بما هي أداة طرازية لإشعال السجائر.. غير أنّه حين تصبح هذه العلامات دالا أو شكلا للأسطورة التي تبنى من هذه اللغة فإن الجملة لن تحوي أيّ شيء من هذه اللغة لا تاريخ ولا أخلاق ولا آداب ينبغي أن تتراجع الجريدة والمعطف والعلبة عن تاريخها، لتترك مكانها لمثال النحو؛ وينبغي أن تتراجع الصحافية واللاجئ عن دورهما ليتركا مكانيهما لمن يكره الأجانب، عندئذ يبنى الدال الأسطوري. غير أنّ شكل الأسطورة، كما يراه بارت، لا يمحو معنى العلامات الأولى بل يفقّره، إنّ المعنى يفقد قيمته لكنه يبقى حيّا يتغذى الشكل منه كما يقول بارت.
بالمتصور الأسطوري نزرع تاريخا جديدا من المعاني هي المعاني الأسطورية الجديدة: الصورة ستستدعي فيّ تاريخا كاملا من سوء معاملة الأجانب وجغرافيا جديدة ينتقل فيها المشرّد من أرض طردته إلى أرض لا تريده وعلاقات جديدة بين الرجل والمرأة تجعلها معرقلا له، وكثير من العناصر التصورية التي أملأ بها هذا الجزء المفرغ من الشكل. إنّ المتصوّر الأسطوري سمته الأساسية حسب بارت أن يكون مناسبا، فالعداوة بين البشر ليست أمرا مطلقا، ولكنّها مناسبة لهذه الوضعية التي ازدحم فيها اللاجئون السوريون في أماكن فيها من يرحب بهم وفيها من لا يرحب، والمثال النحوي على الجملة الفعلية لا يخص جميع القراء، بل طلبة يدرسون هذا الضرب من الجمل وتصنيفها.
وأخيرا فإنّ العلاقة التي تربط بين الشكل في الأسطورة ومتصورها هي على ما يراه بارت علاقة تحريف ذلك أنّ المتصوّر يحرّف المعنى الأساسي، فالانتقال من معنى إخراج الجريدة وعلبة الثقاب إلى معنى الاستشهاد النحوي والانتقال من معنى عرقلة مصورة صحافية لرجل إلى معنى كره الأجانب اللاجئين كان تحريفا، هذا التحريف هو الذي يعطي كنه الأساطير الجديدة وتاريخها؛ وهذا التحريف يصفه بارت استعاريا عندما يعتبره سرقة للغة أو لنظام علامي آخر، كالصورة لا لصنع نماذج وأمثلة أخرى ولا لصنع رموز، ولكن كي نمنح حقوقا طبيعية لجملة من المعاني الجديدة: التمثيل النحوي وكره الأجانب وغيرهما لا بما أنّها غير موجودة بل بما أنّها تعتاش من علامات أخرى. هكذا كان بارت يقرأ العلامات على أنّها مفيدة والأساطير لا على أنّها شيء خرافي، بل شيء معيش لا يقتل الفكر، وإن «ما يقتل إلى حين علامات أخرى ويفرغها من معناها القديم ليحشوها دلالات جديدة تصير لها تاريخا وعلاقات ونقابات جديدة».
المصدر: القدس العربي