في الكتابة والشفهيّة: الذاتانيّة / الموضوعانيّة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*منصف الوهايبي
المصدر / القدس العربي
قد تكون العلاقة التي تعقدها الكتابة الأدبيّة بالشـّفهيـّة مبنيـّة، في جانب منها، على «القصور اللّغوي»، الأمر الذي يمكن أن يتكشـّف عن نزعتين تصرفان الذّات الكاتبة إلى الكلمة الملفوظة أو إلى الكلمة المكتوبة، فيوسم الخطاب بـ»الذّاتانيـّة» كلـّما كاشف قارئه بقصور الكتابة وجاهره بعدم كفايتها، ونزع إلى محاكاة خصائص الشـّفهيّ، وانصاع للمشترك أو المبتذل اللّغوي، وتلجّـأ إلى «الرّوسم».
ويوسم الخطاب بـ»الموضوعانيـّة» كلـّما أبدى قصور الشّفهيّ وصارح بعدم كفايته، وفزع إلى استثمار خصائص المكتوب استثمارا منظّما. فنحن في كثير من النّصوص، تلقاء نمطين من الكتابة، مختلفين، على أنـّنا نرجئ مناقشة فرضيـّة «القصور اللّغوي» أو ضيق اللّغة، ونشير فحسب إلى أنّها فرضيّة قديمة في التـّراث البلاغيّ عند العرب.
أمّا خير مثال لما نحن فيه فهو صورة «القلم» في الأدب العربي القديم بما في ذلك «القرآن» حيث يقوم الخطاب على إدارة المصطلح الفنّي، في هيئة كتابيّة «خالصة» أو تكاد، تربط الكلمة بمعناها الاصطلاحيّ على قدر ما تجلوها في قيمتها التـّصويريّة.
ومن اللاّفت حقّا أن تشدّ الذّات المتلفّظة، في هذا الخطاب «الموضوعانيّ» على فعل الكتابة بـ»خطاب واصف» يمجّد خصائص الكتابة ويباهي بها، ويدفع عنها كلّ تعريض بالشّبهات، على نحو ما نجد في وصف القلم، سواء في الشعر أو القرآن أو في غيره من أنماط النّثر العربي وتحديدا في نوع منه هو الترسّل.
والرّسالة إنّما تكتب ولا يشافه بها، فلا غرابة أن تدور على وصف القلم الذي عدّه القدامى أفضل أدوات الكتابة، وصناعته أفضل الصّـنائع. فالرّسالة مستغنية عن جهارة الصّوت وسلامة اللّسان من العيـوب، لأنّها بالخطّ تنقل، فإنّ ذلك يزيد في بهائها ويقرّبها من قلب قارئها
وقد ميّز ابن وهب إخراج الرّسالة من إخراج الخطابة، فالأولى محكومة بقوانين الكتابة على حين أنّ الثـّانية محكومة بمراسم الشـّفهيّة، ولذا عدّ إخراجها أصعب، لأنّه آنيّ ملازم لطقس الإلقاء الذي هو أشبه بطقس الإنشاد.
والكتابة التي عنوا بها في هذا المضمار ليست الكتابة التّوصيليّة العاديّة المستفرغة من الدّلالة الشّكليّة والقيمة الجماليّة، وإنّما الكتابة الفنيّة التي تجسّد المنطوق وتزاوج بين البعدين: البصريّ واللّغويّ، وتعزّز الإيقاع القائم على التـّناسب والتّناسق بين الأداة والمادّة، على قدر ما تعزّز المعنى وتكثـّف الإيحاء به. يقول أبو القاسم الكلاعي (تـ 543 هـ): «ووجبت المحافظة عليه (الخطّ) ومعالجة أحكامه. فإن عزّ ذلك فعليك بترتيبه، فإنّ التّرتيب نصف الخطّ. وترتيبه استواء حروفه، والفصل المتقارب المتناسب بينهما». ولذلك عقدوا أكثر من صلة لطيفة بين الصّوت والخطّ والتـّصوير، فشبّهوا «النـّطق بالخطّ» و»الخطّ والنّطق بالتّصوير». ورأوا في هذه الأدوات الثـّلاث، ما يحفظ للأشياء حركتها وإيقاعها. يقول الحميدي (ت. 488هـ) مشبّها الخطّ بالخيمة حينا (وهي الصّورة التي استعاروها لبيت الشّعر) وبالوجه حينا: «خير الخطّ ما تساوت أطنابه واستدارت أهدابه، وافترقت نواجذه، وانفتحت محاجره، وخيّل إليك أنّه متحرّك وهو ساكن». ويقول في موضع آخر واصلا بين الأذن حاسّة الزّمان، والعين حاسّة المكان: «لا خفاء على من له أدنى فطنة وحسّ أنّ البيان في المخاطبة لم يوضع إلاّ لاستجلاب النّفوس واستمالة الخواطر. فإذا اختير لذلك الألفاظ العذبة المألوفة والمعاني المونقة الموصوفة التي سلكوها إلى النّفس على حاسّة الأذن، فمن الحقّ أن يختار لتصويرها الآلات الرّفيعة، ومنها الخطّ الذي لا يكون إلاّ بأقلام منتخبة وعلى رتب جميلة وفي صحائف مختارة وبمداد رائق، ليستجلب بذلك النفوس من جهة حاسّة البصر كما استميلت باللّفظ والمعنى من جهة حاسّة السّمع، فتكون الاستمالة من الجهتين أوكد والاستجلاب أشدّ.»
ولا نحبّ أن ننساق إلى مناقشة الحميدي وغيره في إبطال الفروق بين الحاسّتين (السّمع والنّظر) جملة، وإنّما نقتصر هاهنا على الإشارة إلى أنّ المعلومة التي تقدّمها الأذن عن الشّيء أو المكان هي دائما أقلّ غنى ووفرة من تلك التي تقدّمها العين، فالنـّظر يعرّفنا بنوع الشـّيء المرئيّ وبطبيعته، ويمنحنا انطباعا بحضوره وحضورنا معا. وهو يقيس المسافة ويقدر على إلغائها في الآن. على حين أنّ الأذن لا تمنحنا سوى معرفة بمسافة الشّيء المسموع ومكانه، من دون أن تعرّفنا بشكله أو بهيئته. فالفضاء المسموع هو قبل كلّ شيء فضاء ذو بعد واحد. وإذا كان الشـّيء يتجلـّى بواسطة المرئيّ، فإنّه يمكن أن يعلن عن نفسه بواسطة الصوتي؛ فالشيء الملوّن مثلا لا يصنع لونا، ولكنّ الشـّيء المدوّي يصنع صوتا. ولعلّ في هذا ما يشفع للحميدي..
وفضلا عن ذلك فإنّ الحميدي وغيره من الذين وضعوا قواعد الخطّ وأصوله، وراعوا فيها أن تؤدّي صور الحروف حسنا في النّظر، على نحو ما تؤدّيه مخارج اللـّفـظ في السّمع، إنّما صدروا عن «انسيابيّة» الحرف العربي وإيقاعه الحركيّ من جهة، وعن أثر القرآن في الخطّ، من أخرى. وغنيّ عن الذكر أنّ المسلمين، لم يفصلوا، في أيّ طور من أطوار تاريخهم، بين كتابة القرآن وقراءته (تلاوته) ولا جعلوا هذه تنوب مناب تلك. وإنّما كانت الواحدة تعضد الأخرى، وتنهض لها. فالنّصّ المكتوب عندهم، مرئيّ مسموع في آن، وهم الذين اعتبروا الخطوط خلفاء الألسنة وخطباء العقول، وشبّهوا النّطق بالخطّ، ثمّ شبّهوا هذين بالتّصوير، وقرنوا بين الخطّ والجسم (الوجه والخيمة)، على ما أسلفنا؛ فللخطّ أطناب ينبغي أن تتساوى، وأهداب ينبغي أن تستدير، ونواجذ ينبغي أن تفترق، ومحاجر ينبغي أن تنفتح.
وما نخال ارتباط المرئيّ (المكتوب) بالمسموع (الشّفهي ّ) إلاّ نابعا من استقرار التقليد الشّفهيّ وثبوته في اللّغة. فهو أبعد من كونه تعبيرا مجازيّا يستنفد دلالة صورة كالتي أوردها الحميدي. فالقول بالمجاز على هذا النّحو، وهو ما ينتهي إليه في الأعمّ الأغلب، أفق التّفكير البلاغيّ القديم، يطمس تقليدا شفهيّا ثابتا في اللّغة؛ لم تحجب عليه الكتابة ولا الخطّ، حتّى عند المتأخّرين من علماء العربيّة وكتّابها. فقد احتفوا بالكتابة وأدواتها من حبر ومداد ورقّ وأقلام، أي بجماليّة هذا كلّه، من دون أن يكون الفصل بين الأداء المكتوب والأداء الصّوتيّ واردا عندهم. فالنّصّ في ثقافة العرب المسلمين – وما نفتأ نذكّر بذلك – يخاطب البصر على قدر ما يخاطب السّمع، ويفترض أن يمتّع هذا على قدر ما يمتّع ذاك. وخير مثال لما نحن فيه، النّصّ القرآنيّ، فالتّقليد الشّفهيّ الذي لازمه قراءة وكتابة وتلاوة منذ الوحي، لم ينقطع قطّ. ذلك أنّ هذا النّصّ – حتّى وهو مكتوب مثبّت في الفراغ المرئيّ- دائم الكلام، لا تحبسه الصّحائف المتخيّرة ولا الأقلام المنتخبة ولا الحروف المسطورة.