في ديوان: «خرجتُ من هذه الأرخبيلات» لأمينة المريني: القصيدة داخل التوتُّر بين الصوفي والسيرذاتي

عبد اللطيف الوراري
تتحول القصيدة عند أمينة المريني، من مقام إلى مقام، ومن عذاب إلى عذاب، إلى بؤرة تتجمّع داخلها أشكال الإمكان الشعري لعيش الكينونة في عالمٍ مَسْخٍ لا تهادنه بقدر ما تبحث عن عالم بديل عنه. ويأتي ديوانها «خرجتُ من هذه الأرخبيلات» فاس 2015 ليؤكد على هذا الفهم الخاص الذي تجترحه تجربتها الشعرية، ويجعل الشعر الذي تكتبه في صميم التأثُّر بها ومعاناتها أوّلا بأول.
المكان هو الأنا
يشتغل الفعل الشعري ابتداءً من الذات بكلّ اعتمالاتها وإلماعاتها، أي بما تتلفّظ به من أقوالٍ في التوق والحنين والتشوُّف والبوح، بعد أن تكون سكرت من كأس الوصال، ورأت رأي المكاشفة لا العيان، لذلك لا يمكن أن نفصل اشتغالات المكان بأبعاده المتساندة عن فاعليّة الأنا وجِماع الملفوظات التي اتصلت بها في عبوره إيّاه، ولا عن قوّته الإحالية والرمزية معا كما يتكشّف من عناوين القصائد «باب الحمرا، باب السلسلة، زقاق الرمّان، باب المحروق، رأس الجنان، جسر الرصيف، البحر، القفص، الباب، الدرب». فالمكان ليس معطىً في حدّ ذاته، إنّما هو يُبْحث عنه حينًا، ويُبْنى ويُكْشف عنه بوسائط تعبيرية ومجازية حينًا آخر.
ومن صميم هذا المكان الذي يمكن نعته بأنّه مجالٌ معراجيٌّ، يتشكل السجلّ السيرذاتي بوصفه محفلًا خاصًّا وظفته الشاعرة في الديوان وألحّتْ عليه؛ إذ عادت إلى طفولتها، وبيتها القديم، ومراتع صباها بين دروب فاس. وتذكرت عبر هذه العودة شخصيّاتٍ من مرجع حياتها الحميمي والشخصي (الأم، الأب، الجدّ، بنات الحارة، عسالة، الأبواب والدروب بإحالاتها المرجعية والرمزية).
وقد بدأت هذا المحفل ابتداءً من قصيدتها الافتتاحية ليس على سبيل التذكُّر، بل والتفجُّع والتأسي على ماضٍ جميل مضى وحاضر ثقيل يرينُ بكلكله على الذات ما يضعها أمام مصيرها بقوّة التجربة، ويعطي الانطباع بذلك في ذهن القارئ:
«على أبواب فاسٍ
قَدْ رضعتُ الشّمْسَ
والْقَمَرا
ومِنْ بُسْتانها الْأَحْلى
عصرتُ الكأْسَ
والوَتَرا»
فماضي الشخصية الذي تستدعيه الشاعرة يأتي مقترنًا بحضور الأم والأب، فقد كان لهما دورٌ قويٌّ في تكوين ذكرياتها الماضية عن المكان وطبيعة تلقّيها له. ولذلك، فكلُّ ما تذكره الشاعرة من علاقاتها ببيت الطفولة وبالمكان الأمّ فاس يبدو مُشْرقًا، لأنه وفّر لها الأمان والدفء وأشعرها بأناها الأنثوية:
«خرجتُ إلى صباحاتٍ
شفيفاتٍ تُناديني
تُريقُ النُّور
والنِّيرانَ
في أَقْصى شرايِيني
أنا الْأُنْثى
أنا مِسْكٌ
وباقي الكَوْنِ
من طينِ»
وإذا كان حاضر الأنا غير ما كان في الماضي جوهريًّا، فإنّ صور الطفولة تندمج مع اللحظة الحاضرة وتعيد تقويمها؛ فتبدو هذه الأنا الناشئة عبر سيرورة التجربة مشغوفة، والحالة هاته، بتذكُّر حالات تكوُّن الذات الأولى بما فيها من براءة وصفاء وحميمية، قبل أن تخرج إلى عالم الناس وتفقد هالات «مسقط الرأس» بين بيت العائلة ومترع الصبا. وقد انتسجت تخييلات الأنا بقوّة من رحم هذا التقابل بين ماضٍ مشرق ومرغوب فيه وحاضر مظلم ومُبْتلى به.
من الاستعادة إلى ابتكار الهوية:
لقد عقدت الذات الشاعرة بين تكوين سيرة الذات ومجال ذكريات الطفولة باعتبارها موطن الصور المحبوبة والحيّة في الذاكرة، على نحو وسم هذه العودة إلى الطفولة بمعاني الفقد والحرمان، كأنّ مسقط الرأس هو سلسلة فُقْدانات تمّت في وعي الشاعرة، فتسعى إلى استعادته من جديد، ولكن ليس كما عِيشَ سابقًا، بل وفق ما تراكم في نتاج الذات من أحلام وهواجس وهي ترغب فيه وتتآلف مع غيابه على الدوام:
«كماءٍ يحنُّ
إلى غَفْوة الخابِيَهْ
أَحِنُّ إلى حيثُ نيرانُك
العالِيَهْ
إلى حيثُ أنتَ
الملاذُ العَصِيُّ
الذي أصطفيهْ..»
لذلك، فكلُّ أمكنة الماضي التي تُستعاد «بيت الطفولة، باب الفتوح، جسر الرصيف، درب عسالة» هي في هذا المعنى ليست سوى أشكال اجتراح وهم «فردوس مفقود»، بحيث يظلُّ الأنا راغبًا فيه وحالمًا على الدوام بالعودة إليه، حتى إن كان جزء من هذه الأمكنة الماضية ليس سعيدًا على الإطلاق. فكل مكان من هذه الأمكنة البعيدة التي تلتمع في خيال الذات مرغوبٌ فيه من طرفها كُلّما شعرت بالخوف يتهدّدها، وبالواقع يسدُّ عليها سبل الألفة والأمان؛ لأنّه رمز أُلْفتها الأول، وحبّها الأول.
إن العودة إلى المكان أو بيت الطفولة تستتبع، في بعد آخر، استعادة معاني الأشياء والنماذج الأصلية التي تأثّر بها الطفل الذي كانته الشاعرة، واستضمرها في وعيه ومخيّلته. ولهذا، ففي كثيرٍ من الملفوظات التي تتلفّظ أنا الشاعرة بلسان الطفل وأحواله ومباهجه قبل أن يهجم تجهُّم الواقع و»وجوم المكان»، إنّما هو بحث عن المعنى؛ معنى الذات في المكان والتاريخ:
«تُراني
قد خرجتُ إلى دروبٍ
كنتُ أعرِفُها؟
وأنّي كنتُ في حلمي
بلا كَفٍّ أُرصِّفُها؟
ولكنّي
وجدْتُ القَيْدَ
في رُوحي
يُكبِّلُها
وأَبْوابًا من المجهولِ
ألمِسُها وأفْقِدُها»
بهذا المعنى، فإنّ الأنا تتوجه نحو ماضيها لا لاستعادته وحسب، بل تدرك أن الهويّة بما هي موضوع مفقود ينبغي العثور عليه ثانية؛ فتسعى بالعودة من خلال ماضي شخصيّته إلى بناء هوية نصّية موازية (معادل لغوي وروحي) لتجربة وجوده في العالم. وهذا ما معنى أن يكون انشغال الهوية يتوجَّه في حقيقة الأمر نحو ابتكار الذات جوهريّاً. ولا معنى لهذا الابتكار في غياب الآخر: الأم، الأب، الجد، عسالة، الحلاج، إلخ.
ويظهر بحث الهوية بشكل أفضل، في نصوص الديوان، عبر العلاقة الدقيقة والمعقدة بين الطفل/الأم أو بين الطفل/الأب، والمنتجة لصور تتشابه بشكل مدهش حسب لعبة الغيرية التي تجري في مستويات شتى، ولكن الأنا التي يُعتقد أنه تمَّ العثور عليها تبدو كأنّها ليست وحدة مماثلة بسيطة؛ فقد تعدّدت واستحالت إلى أخرى غيرها كما في تعبير المرآة:
«لمحْتُ على سَنا المِرْآةِ
وَجْهًا
لستُ أذْكرُهُ
لو المرآةُ
تُخْبرني
وتُخْبِرُهُ»
ومن جهة أخرى، ترتسم علاقة ثانية متبلورة عن الأولى ليست أقلّ تعقيدًا، هي العلاقة بين الطفل/ الشيخ، وقد بدأت منذ تجربة الخروج بما هي انقطاع ناشئ عن المكان الأول، وانقذافٌ في العالم اللامنتهي كما يتجلى في «مقام الغربة» وفي عبورات الذات من باب إلى باب أكثر حيرة:
«يا شَيْخي
كيف يكونُ يكون عبورُ الحَرْفِ
على دِمَنٍ خَضْراءَ
إلى بَحْرٍ لُجِّيٍّ
لا يعصي للراكب أَمْرا؟»
إذن، فإن الذات لا تستعيد المكان الماضي، بل تبحث عن معنى هويَّتَها المتحولة من خلال إسقاطاتها الجوانية عليه، واستيهاماتها ورغائبها الدفينة التي كانت تتعيّشُ على المهمل والمنسي والمحلوم به على نحو يشبه الخلاص أو الرغبة فيه.
في تحرير المعنى البين- ذاتي
إن النُّزوع الواضح للأنا نحو الانفكاك من قيد الطين ومجاهدته روحيًّا للانتصار عليه، يدفع الذات إلى التخلي عن المادّيات التي ترهن الجسد وتشدُّه إلى الأرضيِّ، فيكون الروحي عبر مقامات الشراب والكشف مجالًا لبحث الخلاص:
«بِقَلْبيَ
ما يستحقُّ على فتنة الظِّلِّ
وُدَّكْ
ضِفافٌ من اللَّازَوَرْدِ
سَتَشْهَدُ أنّك وحدَكْ
شفيفٌ على العُشْبِ
حين تميسُ
وتنثرُ في بُرْدة الغَابِ
وَرْدَكْ»
فهذه الأمكنة المتخيّلة والمحلوم بها في هذا المقطع وفي غيره، مثل: فتنة الظلّ، ضفاف من اللَّازَوَرْدِ، بُرْدة الغاب، السدرة، الربوة، البستان، خمائل الزيتون، عرصات الكرم، حدائق التسبيح، ذُرى الصحو، هي ما تنزع الذات إليه باستمرار عبر مقامات السكر والهيام والفتون وحالات الشطح والجذب، وبعد أن تشرب الأوقات أنخابًا، ومن ثمّة يفنى الجسد وتعرج الروح في «وثبة الغزلان» لتتذوّق عبر تلك الأمكنة دهشة الأشياء وتكتشف سرّ مجاهل العشق.
لكن هذا البحث ليس هيِّنًا، لأنه بين قوّتين دافعتين، ورُبّما كانت قوة الجسد أظهر ولا يتمُّ الظهور عليها إلا عبر مقام الغياب بما هو «طيّ الجسد» وفناء في «بؤرة الروح»، وحيث تهفو إلى آخر مطلق وتتعلّق به كحافز للانعتاق والفرح بقربه والفناء في عشقه:
«سأُلْقي على الطّينِ
صمتًا ثَقيلا
لأسمعَ في بُؤْرة الرُّوح
رَدَّكْ..
لأنَّك تملكُ كُلَّ الكلامِ
الأخيرِ
وتَصْدُقُ في عَسَل الوُدِّ
وَحْدَكْ»
فالتحرُّر من قيد الجسد وظُلْمته إلى عالم الرُّوح الرحب يمرُّ عبر «أرخبيلات» طالما هي متكثّرة في النفس والواقع على سبيل الابتلاء، فإنّ بوسعها أن تكشف للذات-الفراشة أسرار التجربة ومِحَـنها بقدر ما تفتحها على ذرى الحلم والخيال:
«شَيْءٌ ما دبَّ من الحُلْمِ
سَحيقَا
ثمّ اجتاح الأعماقَ
كما الإعصارِ
شيءٌ ما غازل نافذةَ
الذِّكْرى
فانتعشَتْ في صحراء
العُمْرِ فراشاتٌ
وارتعشتْ أطْيار»
ولكنّ الخلاص عبر بحث المكان ومجاهدته بالروح وتجربة العبور، يبقى رغبةً وشغفًا أبديًّا أكثر منه واقعًا؛ وهذا دليل على عافية الروح الحائرة التي لا تظلُّ أسيرة تفسيرٍ ظاهراتيٍّ للمكان ومعالمه، بل إنَّها تخرقه وتنفذ إلى داخله بِفيْضٍ عرفانيٍّ من خروج إلى آخر داخلٍ فيه.
وبعد،
فإنّ الشاعرة أمينة المريني لا تتكلم تجربتها الذاتية المتوتّرة بين الشعري والعرفاني عن نزوعٍ ظرفيٍّ ولا من فراغٍ روحيٍّ أو معرفيٍّ، وإنّما عن ميل فطريٍّ في نفسها وتربية وجدانية تلقّتْها منذ صباها؛ فجعلت من الخطاب الصوفي في شعرها خطابًا عابرًا لسيرتها الذاتية، وخطابًا لازمنيًّا يسعى إلى الخلاص والإمساك بجذوة اللانهائي والتشوُّف إليه بقلب الطفل العاشق الذي لا ينقطع عن التعلُّم والإصغاء إلى روح الكون.
(القدس العربي)